انتهيت في مقالي السابق "نهاية العالم.. الوعد المكذوب" إلى أن المواقيت المضروبة لنهاية العالم ليست سوى أضغاث أحلام وهواجس وأوهاما، واستعجالا من الإنسان لعقيدة اليوم الآخر المغروسة في فطرته. وكثير من العقائد تكون سليمة في أصلها، لكن دخولها إلى نفس مريضة يخرجها إلى الواقع سلوكا مدمرا للفرد والمجتمع في كثير من الأحيان، وقلت بالحرف في خاتمة المقال"غير أن الأمر لا يخلو من مخاطر ومآسي وكوارث تكشف استغلال الإنسان للإنسان، واستغلال الإنسان للدين، والمسلمون ليسوا أبرياء، فالمهدي يتشكل عندنا ويتنكر ويتبختر، وما رؤيا 2006 عنا ببعيدة". (انظر النص الكامل للمقال على الرابط التالي: http://hespress.com/writers/66565.html) وعلق أحدهم على المقال، ولعله من جماعة العدل والإحسان، فكتب يقول "غمزكلرؤى 2006 لاعلاقة له بالموضوع ياأستاذ...وإنك نتتظن أن الرؤيا الصالحة للمؤمن مثلها مثل التنبؤات الخرافية الأخرى...فعلى إيمانك السلام". خرافتان.. 2006 و2016 وأنا أقول لهذا المعلق الذي لا يخلو من نزعة إقصائية تكفيرية، إنه ليس لدينا نحن المسلمين موعد 2006 الذي تبين كذبه للعالمين، فقط، بل لدينا أيضا موعد آخر هو 2016 الذي "ستقوم فيه الخلافة يقينا"، وهذه المرة لا يحلم بالموعد أعضاء جماعة العدل والإحسان، ولكن يحلم به أعضاء حزب التحرير. فقد حكى عبد الفتاح مورو القيادي الإسلامي بتونس للدكتور أحمد الريسوني أنه حضر تجمعا لفرع حزب التحرير بتونس وسمع رئيسهم يؤكد أن الخلافة ستكون في عام 2016، فاستدار مورو إلى صاحبه بالجنب -وكان أيضا من رموز حزب التحرير التونسي- فسأله هل ما يقول صاحبكم صحيح؟ فأجاب إن كان قد قال فهو على صواب. وقد سمعت القصة من الدكتور أحمد الريسوني. انتظار حزب التحرير لعودة الخلافة أكده أيضا الدكتور ماهر الجعبري، عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير بفلسطين، في برنامج "أكثر من سؤال" الذي بثته فضائية "معامكس" شهر يونيو 2012. وجوابا عن سؤال قرب الخلافة قال الرجل لصاحبه وهو يحاوره "انتظر الخبر العاجل والخبر الصاعقة بعد يوم أو أيام أو سنين ونحن واثقون من ذلك". ويمكن الاطلاع على تصريحات الرجل على الرابط التالي:http://www.youtube.com/watch?v=ebRRzeqj6t4 وهناك أيضا تقرير أمريكي يتوقع قيام الخلافة في 2016 بناء على تصريحات وأحلام لأشباه حزب التحرير وتنظيم القاعدة، وقد يكون ذلك مجرد تبرير لعمل عدواني ظاهر أو خفي ضد الأمة الإسلامية، خاصة وقد تزامن التقرير مع تقرير آخر حول تحول أوروبا إلى أغلبية مسلمة بسبب "الجهاد الديمغرافي"، عرض في المجمع العالمي الواسع للأساقفة والقادة الكاثوليكيين مع البابا بنديكت السادس عشر طيلة شهر أكتوبر 2012، لمناقشة تفاصيل الدعوة النصرانية الكاثوليكية العالمية الجديدة في العالم. وقد كانت حقا وصدقا خرافة، تلك الأحلام والرؤى التي غرقت فيها جماعة العدل والإحسان وأغرقت فيها من حولها. بكل بساطة وبكل صراحة: هي خرافة لأنها لم تتحقق كما زعم رجال التأويل لديهم. وقد غرقت الجماعة في الأحلام وانتظار تحققها بسبب انقلاب في فهم الدين والتدين وخلطه بالتاريخ، تماما مثلما فعل ويفعل سنة وشيعة ينتظرون المهدي ويحددون له المواعيد المتضاربة. ومنهم من ينزلق من الانتظار إلى التقمص والاستعجال وتنفيذ "الوعد" والوهم، فيرتكب الحماقات والجرائم والمآسي. فالقوم بنوا جماعتهم وحركتهم ومنهجهم ومواقفهم على حديث الخلافة وظهورها واختفائها ثم عودتها بعد ملك عاض وملك جبري. ومعلوم أن الدين والتدين لا يقوم على الرؤى والأحلام، ولكنه يقوم على الإيمان والكتاب وأركان وأعمال، إلى جانب وعود إلهية حقة لا يعلمها إلا هو، وعلى رأسها موعد الساعة، وفتح مكة، وظهور الإسلام على الدين كله. معاناة مستمرة والذين نقلوا "الخلافة" –وهي ليست نظاما سياسيا بقدر ما هي عودة إلى المراتب العالية والمنازل السامية في الإيمان والعمل- من مكانها الأصلي إلى منظور حركي وسياسي- خدعوا أنفسهم وخدعوا قومهم وأخطأوا في حق دينهم وفي حق الإنسانية الباحثة عن الخلاص. هذه الطوائف المسلمة الحالمة لم تكن تعاني منها الحكومات المستبدة في العالم الإسلامي فقط، بل عانت منها الجماعات والحركات الإسلامية أيضا، ويبدو أن المعاناة ستستمر لأنها جزء من الاختبار وجزء من الاختيار، رغم سقوط الملكيات والجمهوريات العاضة والجبرية. لذلك سبق لحركة التوحيد والإصلاح المغربية أن خرقت حاجز الصمت وهدمت حائط السكوت، فراسلت جماعة العدل والإحسان بشأن "الموجة الكثيفة من الرؤى والبشارات المناسبة التي اجتاحت أعضاء الجماعة وتدفقت إلى وسائل الإعلام والنشر" (من وثيقة رسالة أعضاء المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح إلى أعضاء مجلس الإرشاد لجماعة العدل والإحسان، وهي منشورة في الصحافة في أواخر شهر دجنبر عام 2005). "التوحيد والإصلاح" صبرت طويلا وانزعجت كثيرا، وانشغلت ليلا ونهارا حتى تخوفت –وحق لها أن تخاف- من أن يمر أعضاء من العدل والإحسان إلى عمل ملموس متهور نتيجة فكر مهووس مستهتر. وقبل أن تنشر النصيحة على الملأ العام تبينت ابتداء باستدعاء وفد من العدل والإحسان ومناقشتهم في تلك الرؤى والأحلام ونوايا الجماعة. في ذلك الاجتماع المثير أقر ممثلو العدل والإحسان بأن موجة الرؤى والأحلام أمر غير مسبوق في تاريخ الأمة الإسلامية، فكان عليهم أن يتقبلوا إحدى النتيجتين: إما أن هذا فضل غير مسبوق أو خلل غير مسبوق، فبهت القوم وحاروا بين الفضل والخلل، والأمر واضح. والحق أن الرؤى، إن تحقق أصحابها أنها مبشرات أو منذرات، فهي عند أهل العلم والتزكية تطوى ولا تروى، لكن أهل العدل والإحسان بالغوا وأسرفوا حتى تحولت عندهم إلى "مادة تربوية تعبوية، ومادة ثقافية وإعلامية، ومادة مرجعية في تزكية الجماعة وتصحيح منهجها وإثبات أفضليتها، ومصدرا ومجالا للمدح والإطراء والتبجيل والتفضيل لشيخ الجماعة ومرشدها مع إحاطته بكثير من معاني العصمة والقداسة والمنزلة الأسطورية"، ومنهم من جعله هو الخليفة الراشد المقبل. بذور القاعدة وأخطر من هذا وأدهى ما شهده الحرم المكي من أحداث دموية تابع الناس بعض أطوارها مباشرة عندما قام أحد المعتوهين يدعى جهيمان العتيبي ليعلن عن ظهور المهدي المنتظر في شخص صهره محمد عبد الله القحطاني ويطالب بمبايعته، وساق أعوانه لاحتلال البيت المحرم مع فجر أول يوم من مطلع عام 1400 هجري موافق 20 نونبر 1979 ميلادي. ولم تتعامل السلطات السعودية مع هذه المفاجأة المذهلة بالحكمة المطلوبة، فطلبت الفتوى من علمائها تجيز استعمال السلاح في الحرم المكي، وكان لها ما أرادت لكنها لم تفلح في القضاء على المتمردين إلا بمساعدة أجنبية، خاصة من فرنسا، ومن المحللين من اعتبر أن سلوك السلطات السعودية العنيف هو الذي كان سببا في ميلاد تنظيم القاعدة. فهذا نموذج واضح جدا في وقوع ضعاف العلم والعقيدة في فخ المهدوية ووهم شعب الله المختار ثم مرورهم بسرعة نحو تنفيذ تلك العقائد المتعجلة، والخسائر الفادحة التي تتركها تلك التصرفات الحمقاء، ناهيك عن الأسلوب الأعمى الذي تتعامل به السلطات مع هذه الأفكار سواء وقاية أو علاجا. معابد قاتلة تعلمنا كثير من الوقائع في الأولين والآخرين أنه يمكن أن يقود الناس إلى حتوفهم أشخاص معاقون ذهنيا وجسديا ونفسيا، فيستسلم لهم بنو آدم كالقطيع. وما أكثر الدجالين الذين انتقموا من البشرية لإرواء رغبة نفسية منحرفة لا تجد لذتها ورضاها إلا في إقحام الجميع في المحرقة الكبرى، إيمانا من هؤلاء الدجالين الأعاور بأنهم الأحسن والأعلى. أعطيكم مثلا من عصرنا الحالي، ومن بلد يضرب به المثل في التقدم العلمي التكنولوجي، ألا وهو اليابان. ففي هذا البلد ظهر دجال أعور لا يكاد يرى، ولكنه استطاع تكوين طائفة دينية من أخطر الطوائف في القرن العشرين، اسمها "الحقيقة السامية"، والأصوب أنها "الحقيقة السامة". شيوزوماتسوموتو (وسمى نفسه بعد ذلك شوكوآساهارا) ولد عام 1955 بعين عمياء وأخرى عمشاء، لكنه كان مغرورا بنفسه وشديد الطموح، واستطاع التأثير على زملائه العميان بالمدرسة الخاصة بهم والسيطرة عليهم. فشل في الدخول إلى الجامعة فتعاطى الطب التقليدي وبيع الأعشاب، إلى أن حكم عليه ب200 ألف ين ياباني فأفلس. تعلم اليوغا ثم رحل إلى جبال (الهيمالايا) بالنيبال وصاحب رجال الدين البوذي، ومنح شهادة تخرج (وتسمى عندهم "ساتوري"، أي "الإلهام الأعلى") ثم أسس طائفة "أوموشينري كيو"، فنالت الاعتراف القانوني الرسمي وسجلت على أنها "ديانة جديدة". دفع ببعض المريدين للترشح للانتخابات النيابية فلم ينجح أحد. فبدأ يروج لألقابه الجديدة: "المسيح المعاصر"، و"منقذ القرن"، فانتشرت الطائفة بسرعة في اليابان كلها، ووصل صداها إلى روسيا والولايات المتحدةالأمريكية وألمانيا. وبفضل التبرعات والمساهمات المالية للأعضاء تمكنت الطائفة من توسيع غلافها البشري والمالي والإرهابي بالحصول على الأسلحة الكيماوية وبناء مركبات ومختبرات سرية وأدوات حربية. وسرعان ما مر "المسيح الدجال" وأتباعه إلى العمل فنفذوا عدة عمليات لاستعجال نهاية العالم كانت أخطرها عمليات قطار الأنفاق بقلب العاصمة اليابانية طوكيو يوم 20 مارس 1995، وقتل فيها 12 يابانيا وجرح 5500 شخص، ثم عثرت السلطات اليابانية على جثث 50 شخصا قتلوا في ضيعة تابعة للطائفة وعلى خمسين طنا من الغازات السامة الكفيلة بالقضاء على 6 ملايين شخص. وتبين أن الطائفة استطاعت اختراق الأجهزة الأمنية والإدارية للدولة في اليابانوروسيا وحصلت بذلك على الحماية والدعاية الإعلامية وحرية الحركة رغم التحذيرات الصادرة من هنا وهناك. كان هذا في الشرق، أما في الغرب فكانت طائفة معبد الشمس هي أخطر الطوائف بسويسرا وفرنسا وكندا والولايات المتحدةالأمريكية، وعندما افتضح أمرها قرر زعيمها الانتحار الجماعي رفقة عدد كبير من الأتباع، لكن التحقيقات شككت في الانتحار ورجحت القتل الجماعي دون الوصل إلى الحقيقة الكاملة بسبب عراقيل غامضة، حسب شهادات المحققين. فانظر كيف خرج التزمت والقتل من قلب الحداثة وتحت رعايتها، وانظر كيف تركت الأرواح فارغة والمقاعد شاغرة فملئت بالريح السئيم السقيم، فكثر الدجالون وساقوا البشر قطعانا نحو الموت وهم ينظرون. ولولا مخافة السآمة والملل على القارئ المتعب القصير النفس لاسترسلت في ضرب الأمثال من كل القارات، لكن يكفي من القلادة ما يحيط بالعنق. هل الدين قاتل؟ يتوقف الجواب عن هذا السؤال على المقصود بالدين، فالسؤال نفسه بهذه الطريقة العامة قاتل للحقيقة والموضوعية. فالدين مصطلح واسع يدخل ضمنه أديان السماء والأرض، والوحي والوضع، والقدم والحداثة، مما ليس له عد ولا إحصاء. ومن الغباء والحمق مساواة الجميع تحت مسمى واحد وتهمة واحدة. هذا من جهة الموصوف، أما صفة القتل فهي أيضا يصدق عليها التعميم، فيصح القول إن الحداثة قاتلة والعقلانية قاتلة والعلمانية قاتلة والنازية والصهيونية والشيوعية والرأسمالية والولايات المتحدةالأمريكية كلها قاتلة، وشبكات الدعارة والاتجار في البشر قاتلة، وشبكات الخمور والمخدرات والمهلوسات قاتلة، وشبكات الطرق قاتلة، واللائحة تطول. ولوقف التزحلق لا بد من الفرز والتصنيف، والتمحيص والتدقيق، لتسمية المجرمين القتلة بأسمائهم، ولو زعموا أنهم متدينون. ولو زعموا أنهم عقلانيون. ولو زعموا أنهم مسلمون حتى.