أصبح مصطلح "الإسلام السياسي" جمع الجمع لكل الجماعات والتنظيمات ذات مرجعية سلفية. مما يجعل المرء، بضرورة مفروضة، يتوهم وجود إسلامين: أحدهما سياسي وثانيهما روحي. هذا التصور، الناتج عن ابتكار اصطلاحي فارغ من كل محتوى علمي، جعل كثيرا من الأنظمة عربية وأجنبية في حربها ضد التطرف تدخل في مبارزة مع شبح لا وجود له إلا في مخيلتها. والأهم والأخطر من هذا هي تلك ردود الفعل الجماهيرية اتجاه هذه الحرب المعلنة على ما يسمى "الإسلام السياسي"، حيث اُعتُبرت، أي الحرب، محاولة للصليبية و الصهيونية للقضاء على العقيدة الإسلامية. والوضع كذلك جاءت النتيجة عكسية تماما لما كانت الأنظمة الرسمية تتوخاه من حربها ضد التطرف. لا لشيء إلا لعدم كفاءة من حاول وضع استراتيجية القضاء على الفكر المتطرف بابتكار مصطلح دون أن يعطيه أبعادا ثقافية وعلمية وسياسية.. هذا المصطلح، في حد ذاته، زاد من إضفاء القدسية على حركات التطرف الفكري وذلك انطلاقا من رد حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين بمصر، على اتهام حركته بالسياسية حيث قال: إن كانت لنا سياسية فهي القرآن و السنة. إنه جواب، فعلا، محرج و مستفز في آن واحد للطرف الثاني صاحب الاتهام. انطلاقا مما سبق فإن مصطلح "الإسلام السياسي" تعبير فاشل و غير مؤدي للمعنى المتوخى منه بل على العكس من ذلك تماما، لأنه يجعل الحرب في مواجهة مع عقيدة ثلث البشرية ويفسح المجال لاستقطاب جماعات التطرف عناصرا جديدة تعزز صفوفها و تقوي مددها داخل المجتمعات الإسلامية. لهذا فإنه من الأصح تغيير تعبير "الإسلام السياسي" بمصطلح "الطائفية" لأن هذ التعبير مرتبط في اللغة العربية بمفهوم التعصب المؤدي إلى التطرف. كما أن هذا المصطلح يلغي عن تلك الطوائف، ذات القناع العقائدي، صبغتها الدينية. و إن تركتها بلون المذهبية التي ليست بالضروري دينية. إننا نقول المذهب السني أو الشيعي، كما نقول المذهب الماركسي ونحوهما. ولتعبير "الإسلام السياسي" جانب سلبي آخر، حيث يضع كل الطوائف في خانة واحدة و على مستوى واحد. في حين أنها متباينة في آرائها ومختلفة في منهجيتها. حيث يجب تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: 1) طائفة ترى في الخروج عن طاعة الحاكم خروجا عن الشريعة استنادا إلى النصوص والسنة: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، (النساء، 59.) - "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"(رواه مسلم). - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي أئمة لايهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس قال قلت كيف اصنع يارسول الله ان أدركت ذلك قال تسمع وتطيع وان ضرب ظهرك واخذ مالك فاسمع وأطع. وهذه الطائفة تتشكل غالبا، من رجال الدين أنصار السلطة أو الزوايا الصوفية التي ترى في العمل السياسي ملهاة عن العبادة. بالرغم من أنها تطمح كذلك إلى نهج السلف و تحكيم الشريعة و ترفض كل ما هو غربي. 2) طائفة ترى طاعة الحاكم أمرا لازما لكنه مشروط و هي أيضا ترتكز على السنة : .عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مامن نبي بعثه الله قبلي الا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم انه تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يامرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. - عن عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ويعملون بالبدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها قلت يارسول الله ان ادر كتهم كيف افعل قال تسألني يابن أم عبد كيف تفعل لاطاعة لمن عصى الله. - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيكون أمراء من بعدي يأمرون بما تعرفون ويعملون ما تنكرون فليس أولئك عليكم بأئمة. من هذه الطائفة تتكون الجماعات المتطرفة والمتمردة، إذ ترى في الحاكم المعاصر اميرا خارجا عن السنة و الكتاب، لكنها تعرف أيضا جماعات تعلن العصيان دون تبني الفكر المتطرف و تفضل النضال السياسي المشروع رغم محاصرتها و التضييق عليها من قبل أجهزة الحكم. ونذكر منها: جماعة العدل و الإحسان بالمغرب، والإخوان المسلمين بمصر و الأردن. كما أن استخدام النص و السنة من قبل المجموعتين للطوائف السلفية يبين نسبية هذه المراجع من حيث التعامل معها وطغيان الذاتية السياسية في تفسيرها. 3) طائفة تعتمد الجهاد المسلح، لكن بالرغم من هذا لا يمكن إقحامها ضمن الجماعات المتطرفة المتبنية للإرهاب كمنهجية جهادية، لأنها بصدد الدفاع عن أرضها ضد عدو خارجي يهدد استقلال وسيادة وطنها وقرار شعبها السياسي ولا يجد خجلا في اختيار أسلحة الضمار في حربه عليها والمقصود حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني. فكلا الحزبين لا يمكننا التعامل معها داخل إطار باقي الطوائف ذات النظرة السلفية. كل هذه الطوائف وإن تقنعت ارتدت حلة دينية تبقى في جوهرها حركات سياسية بتنظيمها وأهدافها وتتبنى الكثير من المبادئ الديمقراطية رغم رفضها لكل ما هو غربي ظاهريا، مما يجعل الحوار معها فكرة ممكنة وغير طوباوية، لكنها تحتاج إلى توفر عزيمة وإرادة سياسيتين من لدن الأنظمة العربية والأجنبية والتعامل معها على أساس حركات سياسية ذات مشاريع إصلاحية معينة قابلة للنقاش. يعزز هذا الرأي، القابل للنقاش، مقتطف من خطاب المرشد العام الثامن للإخوان المسلمين بمصر الدكتور محمد بديع بعد اختياره خلفا لمحمد مهدي عاكف حيث قال من جملة ما قال: "في بداية حديثي أتوجه إلى أستاذنا وأخينا الكبير ومرشدنا الكريم الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد السابع للجماعة الذي قاد السفينة وسط العواصف والأنواء، وتجاوز بها العقبات، ثم قدَّم هذا النموذج الفريد لكل القادة والمسئولين في الحكومات والهيئات والأحزاب بالوفاء بعهده، وتسليم القيادة بعد فترة واحدة، فتعجز كل كلمات اللغة عن التعبير عما في صدورنا من حب وتقدير لهذا المرشد، ولا نملك إلا أن نقول: جزاك الله خيرًا وأثابك بفضله ثواب الصديقين.." كما يتبين من هذا المقتطف بشكل جلي فإن جماعة الإخوان المسلمين اليوم ليست هي تلك التي كانت بالأمس أيام سيد قطب وجاهلية القرن العشرين. إن هذا التنظيم السياسي اليوم يشيد، وإن كان ضمنيا فقط، بنظام التناوب الغربي على كرسي الحكم. هذا التطور الذي طرأ على إخوان مصر يدل على وصوله لمرحلة نضج سياسي، وابتعاده عن الفكر التكفيري، يسمح بالجلوس معه على مائدة الحوار لو أن الحاكم العربي رغب، قولا وفعلا، في دمقرطة المجتمع. ذلك لأن تنظيم الإخوان، الأكثر اعتدالا، يقر بأهدافه السياسية المتمثلة في مشروعه الإصلاحي وإن رفع شعارا دينيا. وتصريح الدكتور محمد بديع، خلال خطابه، يشهد بهاذا حيث قال: "ويعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام العظيم قد وضع الله فيه كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها؛ ولهذا جعلوا الإسلام مرجعيتهم ومنطلقهم نحو تحقيق الإصلاح، الذي يبدأ من نفوس الأفراد، فيتناولها بالتهذيب والتربية، مرورًا بالأسر والمجتمعات بتقويتها ورفع المظالم عنها، وجهادًا متواصلاً لتحرير الوطن من كل سلطان أجنبي وهيمنة فكرية وروحية وثقافية واستعمار عسكري واقتصادي وسياسي، ووصولاً إلى قيادة الأمة إلى التقدم والازدهار، وأخذ موقعها المناسب في الدنيا، وقد كان من نتائج هذا الفهم الشامل للإسلام أن وصف الإخوان بأنهم دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية.." إذا هذا التنظيم صاحب مشروع إصلاحي سياسيا واقتصاديا، أما الدين فهو الفضاء الإديولوجي الموصل للفكرة إلى العقلية الشرقية المحافظة بعد فشل كل الإيديولوجيات الغربية في غزو مجتمعاتنا التقليدية لعدة أسباب نذكر منها أهمها فقط: عجز المثقف العربي على هضم هذه الإديولوجيات وتكييفها مع عقلية مجتمعه واكتفائه بنقلها بشكلها الأوروبي إلى فضاء محافظ. ونجد نفس النسق السياسي في فكر جماعة "العدل و الإحسان" المغربية على صفحات التقديم لكتاب مرشدها عبد السلام ياسين "إمامة الأمة" حيث جاء ما يلي: قوم (المقصود الحكام/الكاتب) تسلطوا على رقاب المسلمين بغير رضاهم ولامشورة منهم، فساموهم الخسف ومنعوهم النصف، وقربوا المحاسيب والمتملقين، وأقصوا أهل العلم والمشورة والرأي، وبذروا ثروات المسلمين فيما لاطائل وراءه، وأعطوا ولاءهم للمستكبرين، وفتحوا الباب على مصراعيه للصوص الجشع الدولي مقابل منتجات التافه فيها والفاسد أكثر من الصالح المفيد، أو مشروعات الفاشل منها والمفلس أكثر من الناجح النافع. لاعجب أن يطول تخلفنا، ويزداد فقرنا وبؤسنا، ويكثر جوعانا ومرضانا، ويتنامى العاطلون فينا، وتسترخص هجرة الأوطان، وتتفشى السلبية والخمول، وتنشأ القابلية للرضوخ للطغيان، والقبول بالدون، والتأثر بالخرافات والدعايات السخيفة. كما يتضح من مقتطف هذه المقدمة أن الجماعة تنظيم حزبي ظاهره ديني وباطنه سياسي له رؤيته في الإصلاح الإجتماعي والسياسي كما يظهر من النص حيث يتطرق لإشكالية الديمقراطية والسلطة "تسلطوا على رقاب المسلمين بغير رضاهم ولامشورة منهم"، وموضوع سياسة الانفتاح، التي تبنتها الأنظمة العربية "وأعطوا ولاءهم للمستكبرين، وفتحوا الباب على مصراعيه للصوص الجشع الدولي"، كما يتعرض لمشكل الهوة الاجتماعية المتفاقمة بين فئات الشعب نتيجة لهذا الانفتاح والبطالة المتصاعدة التي تؤدي بأصحابها إلى الهجرة القسرية "ويتنامى العاطلون فينا، وتسترخص هجرة الأوطان". هذا على الصعيد الوطني والعربي من جانب، ومن جانب آخر لم يفت مرشد طالعدل والإحسان" التطرق إلى مشاكل الساحة الدولية وفلسفة المحافظون الجدد حيث يقول في مقدمته هذه: "ولو كانت هذه المحنة من تدبير أعدائنا وحدهم لما كان هناك من داع للاستغراب. ذلك أن المكر منهم متوقع، والكيد والتآمر من قبلهم هو الأصل، ومن السذاجة أن ننتظر منهم غير ذلك، لاسيما الذين يعتبرون أن الدنيا صدام وصراع (في إشارة منه،واضحة، إلى صموئيل هنتنغتون صاحب كتاب "صراع الحضارات)"، والبقاء فيها للأقوى والأدهى، أما الحديث عن الإخاء والعدل والإنصاف فضلا عن الآخرة والجنة والنار فحديث خرافة ليس إلا." هكذا تؤكد لنا نصوص الجماعتين السابقتين على مضمونها السياسي رغم صبغتها الدينية شكلا. ربما سيتبادر لذهن القارئ أن هذا قد ينطبق على هاتين الجماعتين دون غيرهما خصوصا إذا جذبنا سياق الحديث إلى الجماعات الضاربة في التشدد و المتبنية للجهادية كالقاعدة مثلا. غير ان المتتبع للأحداث عبر الإعلام والدراسات يكتشف أن القاعدة، وأمثالها، لا تخرج عن إطار هذه النظرة خصوصا إذا حللنا الخطاب الإخير لزعيمها بن لادن "من أسامة إلى أوباما" إذ نجد الجانب السياسي يكون الجوهرة المدفونة في الشكل الديني، إذ تتطرق إلى محور كل التكثلات العربية العلمانية منها و السلفية أي إلى مأساة غزة وأهلها ومناشدة الرئيس الأمريكي بالتدخل في الأمر للحد من معاناة الغزاويين. نعم مناشدة أوباما لأن التوجه له برسالة خاصة، حدث ليس له سابقة، في حد ذاته يبين آمال زعيم القاعدة المعلقة على الرئيس الجديد، رغم شدة اللهجة. كما أن الرسالة تبين بشكل واضح أن الإرهاب عند القاعدة ليس استراتيجية بل تكتيكا، وذلك من خلال ربط الأحداث الدامية لشتنبر 2001 بتعبير الرسالة. ربما تكون رسائل بن لادن الأخيرة بوادر لمحاولة تراجعه عن خطه الإجرامي وتبنيه لاستراتيجية الحوار السلمي بين الشعوب. سيما عندما يفاجئ زعيم القاعدة المجتمع الدولي بانتقاله إلى الدفاع عن البيئة وكأنه عضو في حزب الخضر. ألا تكون هذه محاولة للاعتذار، على شاكلته، عن جرائمه ضد البشرية؟ من يدري كل شيء في عالم السياسة جائز. وهكذا نجد أن تلك الطوائف الدينية في ظاهرها، سياسية محظة في جوهرها. ومن الممكن جدا محاورتها على أرضية دنيوية من ملموس الواقع المعاش، لكن الحاكم العربي يصر على تعامله معها داخل فضاء الروحيات لأسباب سنتطرق لها في موضوع آخر. *جامعي مغربي في روسيا البيضاء