كثر الحديث عن النموذج المغربي في الإصلاح القائم على ثنائية الإصلاح والاستقرار إلى الحد أن البعض لم يخف إعجابه المفرط بهذا النموذج في التعاطي مع رياح الربيع العربي، ولم يتردد في الدعوة إلى حسن استثماره داخليا وجودة تسويقه خارجيا. داخليا اعتبره هذا البعض انتصارا لاختياراته السياسية المعتدلة والعاقلة والقابلة للتحقيق على مستوى الفعل والممارسة، على خلاف الشعارات الراديكالية المتطرفة، التي تتجاهل خصوصيات الواقع المغربي وممكنات التغيير التدريجي فيه، أما خارجيا فلم يتردد هؤلاء المحللون المحترمون في دعوة باقي شعوب المنطقة، خاصة التي تحكمها أنظمة ملكية، إلى الاقتداء بهذا الاختيار المغربي الجامع بين إرادة ملك وشعب في الإصلاح والتغيير. لا تخلو هذه الأطروحة من وجاهة، لكن ذلك لا يجعل المرء يغض البصر عما تنبه الأطروحة المضادة لها من تخوفات مشروعة ومحاذير مقبولة، يجب التعامل معها بكل حزم ومسؤولية. وفي هذا الصدد سيكون من المفيد فتح مجال للحوار مع رؤية عربية مشرقية للإصلاحات الجارية في بلادنا، رؤية عرف صاحبها بنظرته الحكيمة ورأيه السديد في عدد من المواقف والقضايا. يتعلق الأمر بالكاتب المصري الشهير، السيد فهمي هويدي، الذي زار المغرب خلال الأسابيع الأخيرة، وأعطى تصريحا لإحدى اليوميات الوطنية حول مجموعة من المسائلة الراهنة من بينها الكيفية التي أجاب بها المغرب على أسئلة الربيع الحارقة. في سياق حديثه عن كيفية تعاطي الأنظمة الملكية العربية مع أمواج المد الديمقراطي ميز الكاتب بين أسلوب التحدي لإرادة الشعوب في التغيير، وأسلوب الالتفاف على هذا التغيير، واضعا المغرب كأبرز نموذج لهذا الأسلوب الالتفافي على إرادة الشعوب. هكذا يرسم فهمي هويدي للمغرب صورة مدرسة تتقن الالتفاف على التغيير، وتهتم بالشكل والواجهة أكثر من انكبابها على المضمون والعمق، وهي بذلك تنسى، والقول للكاتب، أن المواطن العربي أذكى مما يتصوره الحاكم، ولم يعد من الممكن أن تنطلي عليه كل أنماط المخادعة والتحايل سوءا، وهي تغيير الشكل دون المضمون أو تغيير المسميات كالإصلاح الدستوري، الذي يتم فيه إعطاء بعض الصلاحيات وسحب أكثر منها، كما هو حاصل في المغرب الذي لم يبدي نظامه الملكي تجاوبا كافيا مع مطالب التغيير. ولذلك يتوقع صاحب "مقالات ممنوعة" موجة ثانية في البلدان التي لم تحسن التعامل مع مطالب الشعوب في الحرية والعدالة والديمقراطية لأن الرغبة في التغيير في العالم العربي عارمة، بحيث لم تعد تعطي للأنظمة الحاكمة إمكانية تخدير الناس وخداعهم. غني عن البيان القول أن وجهة نظر فهمي هويدي هذه لا تضيف أي تحليل جديد للواقع السياسي المغربي، فهي متداولة بقوة عند عدد من المعارضين المغاربة للمسار الإصلاحي الحالي، لكن ما يثير الانتباه هو أن يكتفي كاتبنا الكبير بترديدها، كما رصدها عند القوى المعارضة، دون أن يكلف نفسه أدنى جهد فكري في تمحيصها ومراجعتها على ضوء خصوصيات الصراع السياسي في بلادنا، وليس قياسا على معطيات وقائع الأقطار العربية المشرقية وفي مقدمتها القطر المصري الشقيق. وتلك نقطة ضعف كبيرة يعاني منها عدد من المحللين المشارقة لصورة المشهد السياسي المغربي، لأنهم لا يتابعون مختلف أبعاد هذه الصورة بالدقة التي يتابع بها المغاربة مجريات الأحداث في بلدان المشرق العربي. فلا عجب أن تفتقر تحليلات أهل المشرق لما يحدث بالمغرب بالتسرع والخفة أو في أحسن الأحوال بالافتقار إلى العناصر الداعمة لتقديرهم لهذا الموقف أو ذاك، بصرف النظر عن مدى وجاهته من عدمها. ليس الغرض من هذه الملاحظات التشكيك المطلق في الصورة التي رسمها فهمي هويدي لما سمي ب"الاستثناء المغربي"، ولكن المقصود فقط هو التنبيه إلى أنه لا يواكب متغيرات الواقع المغربي بالشكل الذي يمكنه من تكوين فكرة تتوفر فيها الحدود الدنيا من الدقة والموضوعية، ولعل أكبر دليل على ذلك هو تصريحه في أكثر من مناسبة، أنه لا يعرف السيد عبد الإله بنكيران، وهو واحد من أبرز وجوه العمل السياسي الإسلامي المغربي، وكبير وزراء حكومة أفرزتها انتخابات تمت تحت ضغط الربيع العربي. هكذا يمكن القول أن عدم إلمام هويدي بعدد من تفاصيل المشهد الإصلاحي المغربي الدقيقة قد جعل رؤيته وتقييمه لهذا المشهد مفتقرة إلى أدلة واضحة تفند حجج المعارضين لها؛ ومن ذلك أن لا أحد في المغرب، يمكنه أن يزعم أن الإصلاحات الجارية تستجيب لكل التطلعات الديمقراطية المنشودة، لكنه، من الصعب التسليم بأن هذه الإجراءات مجرد التفاف على التغيير وتسحب أكثر مما تعطي من مكتسبات؛ فالمغرب قد قطع خطوة متقدمة طريق الإصلاح الحقيقي، لكنها خطوة قابلة للتعثر والسقوط بحسب موازين القوى وتجاذب المصالح بين كل الأطراف الفاعلة في معسكر الصراع السياسي ببلادنا، والتي تنقسم بدورها إلى معسكرين كبيرين، وهما معسكر التغيير والإصلاح ومعسكر مقاومة هذا الإصلاح ومحاربة هذا التغيير. وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة نبذ تلك الصورة الخادعة التي تربط معسكر مقاومة التغيير بالسلطة ومحيطها فقط، مادام واقع الحال يشهد أن القوى المعارضة للإصلاح توجد في الأوساط المخزنية كما تنتشر في الأوساط الإقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، بما في ذلك الفئات التي تصف نفسها كذبا وزرا ب"الديمقراطية"؛ وبالقدر ذاته نجد القوى المؤمنة بالديمقراطية، وهي قليلة جدا، تنتشر في مختلف تلك الأوساط المذكورة. إن السيد فهمي لم يدقق في تفاصيل الإصلاح الدستوري الذي فتح فعلا صفحة جديدة من زمن المغرب السياسي، لكنها تبقى مجرد جديدة من الصراع، القوي و الحاد، بين إرادتين: إرادة التفسير الديمقراطي للنص الدستوري من جهة، و إرادة التأويل السلطوي لفصول هذا النص من جهة ثانية. وهذا الصراع قابل لكل النتائج و الاحتمالات. ومن التنبأ بطبيعة هذه النتائج وتلك الاحتمالات، إذ يمكن أن تكسب فيه الرهان قوى التقدم و التطور التغيير، و ينتصر معها الأمل في البناء المشترك، بين الشعب و العرش، لثورة ديمقراطية هادئة، تؤسس لنظام ملكي برلماني، كما يمكن أن يحدث العكس وينفتح مستقبل الوطن على المجهول. ولعل من أهم فتوحات الدستور الجديد، على كل ما يمكن أن يسجل عليه الملاحظون من عيوب ونقائص، أنه قد ارتقى بالفاعلين السياسيين إلى درجة شركاء حقيقيين للمؤسسة الملكية في صناعة جل القرارات الإستراتيجية للبلاد، في الوقت الذي منحهم السلطة الكاملة على ما دونها من قرارت قطاعية وجهوية ومحلية. نحن إذن في حاجة إلى نخب سياسية تتعاطى مع سلطة القصر بمنطق المبادر والشريك، وتتحرر من لغة التابع المنفذ والخادم المطيع، وهو تمرين ديمقراطي، صعب ومرير. شبيه بمحاولة طفل يريد المشي على قدميه اعتمادا على قدراته الذاتية، و التحرر نهائيا من عربة المشي، مع ما يرافق مثل هذه المحاولة من سقوط و ضربات و آلام. إن تمرينا كهذا، مهما كان ثمنه مكلفا، هو القادر وحده أن يحرر قادة وأطر أحزابنا السياسية من عطالتها السياسية، و أن ينقلها من حال الانتظارية القاتلة إلى حال المبادرة السياسية الفاعلة والمبدعة. لا شك أن مراكز النفوذ داخل الحمى المخزني، لن تدخر جهدا لإبقاء السياسة رهينة " عربة المشي" حفاظا على مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، كما أنها لن تتردد في التصدي لكل ما من شأنه أن يزحزح قبضتها على أرزاق العباد وخيرات البلاد. ولكن تلك القوى مهما تسترت واختفت وراء هذه المؤسسة أو تلك، فإنها ليست بالقوة التي تجعلها قادرة على وقف عجلة الإصلاح والتغيير. وهنا لابد من تسجيل ملاحظة أساسية وهي أنه يتعين على الدولة العميقة بالمغرب أن تتخذ مجموعة من القرارات "المؤلمة" لتتكيف مع مقتضيات الديمقراطية والشفافية والمنافسة الحرة، خاصة المتعلقة منها بالحياة السياسية والاقتصادية؛ كما يحسن بالقوى الوطنية المعارضة أن تقطع نهائيا مع ماضيها الإيديولوجي، أوبعبارة أدق، مع وعيها الديمقراطي الزائف، الذي كان حتى الأمس القريب يتمثل الديمقراطية بدعة بورجوازية عفنة عند البعض، أو مقولة غربية كافرة عند البعض الآخر، مما يحتم عليها المسارعة إلى توبة ديمقراطية مستعجلة وصادقة، بعيدا عن المزايدات التافهة والشعارات الخادعة، والصراعات الوهمية المفتعلة بين "حماة الهوية" و"دعاة الحداثة"، التي فوتت علينا فرصة اغتنام العديد من اللحظات التاريخية وتضع باستمرار حجابا بيننا وبين التقدم نحو الحق والعدل والحرية. فهل سنغتم جميعا ما تتيحه لنا لحظة الربيع العربي من إمكانيات في صناعة زمننا الديمقراطي أم أننا سنخلف موعدنا مع هذه اللحظة ونوفر كل الحجج والمبررات لصدق نبوءة القائلين بأن النموذج الإصلاحي المغربي لا يعدو أن يكون مجرد مدرسة لتلقين دروس في سبل الالتفاف على التغيير؟