المشهد السياسي المغربي مشهد عصي على الفهم والاستيعاب، بل هو مشهد بلغت درجة تعقداته وتداخلاته حدا جعل المنطق العقلي يجثو على ركبتيه يشكو إلى معلمه أرسطو هول التناقض الصارخ، وأوقفت التحليل الأكاديمي في موقف الحائر المرتبك كلما رام النظر في علاقة المقدمات بالنتائج وربط الأسباب بالمسببات يرتد إلى تجريديته خاسئا وهو حسير. إنه حقا "الاستثناء المغربي" كما يحلو للحكومة الجديدة أن تسميه. كثر هم أولئك الذين يتذكرون كيف أثنى جزء كبير من الطبقة السياسية والنخبة المثقفة، خصوصا بعد خطاب 9 مارس 2011، على تجربة المغرب في مباشرته عملية "الإصلاح السياسي والدستوري"، وكثر هم من لا زالوا يتذكرون كيف صفقت الحكومة الجديدة طويلا للنموذج المغربي واصفة إياه بالعرس الديمقراطي. هو "عرس" فعلا لأن التجربة لم تتخلف هذه المرة عن الموعد، وحملت على أكتافها حزبا رئيسا في المعارضة البرلمانية إلى عتبة الحكومة، وليس إلى سدة الحكم، محققة له زواجا عرفيا مع السلطة ودوائر القرار. لكنه بالمطلق ليس "ديمقراطيا" وما كان له أن يكون. فمتطلبات الديمقراطية وشروطها لن تتعايش جنبا إلى جنب مع خبرة الاستبداد المخزني في تمييع الحياة السياسية، ودربته على التحكم في دواليب وأجهزة الدولة بشكل يتيح له تغيير الشكل دون المساس بالعمق، وتزيين المظهر مع الحفاظ على الجوهر. إن ما يسترعي الانتباه في خطاب الحكومة الجديدة أمران. الأول هو حديثها المبالغ فيه عن "الاستثناء المغربي" باعتباره سبقا إلى اعتماد مقاربة إصلاحية استجابت لمطالب الحراك الداخلي، وضمنت شروط الانتقال الديمقراطي. والثاني هو ذاك التهويل المفرط من خطر "جيوب المقاومة ". فالحكومة الجديدة لا تترك مناسبة دون أن تتوعد هذه الأخيرة بالضرب من حديد، محملة إياها تبعات "الردة الإصلاحية" التي يمكن أن تعري سوءة "الانتقال" وتكشف عورة "الاستثناء". ما الذي يخفيه خطاب رسمي اجتر من جديد مصطلح "جيوب المقاومة"، وأخرجه من القاموس السياسي المغربي بعدما تم استخدامه إبان فترة التناوب التوافقي مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي. وما الذي يضمره الركون إلى مقولة "الاستثناء المغربي" كلما أرخت على البلاد أحداث عظام، تفرض على السلطة شجاعة استثنائية لا تقديس المسلمات المخزنية، وكأن سحر العبارات وتعويذتها يحبسان طوفان الغضب الهادر. ربما لم تكن أحداث 16 ماي الأليمة كافية لزعزعة وهم الاستثناء. قد يقول كثيرون بأن مصطلح "جيوب المقاومة" في التجربة المغربية هو شبيه بمصطلح "الدولة العميقة" في الحالة المصرية. ومثل هذه المصطلحات تظهر عادة خلال المراحل الانتقالية، والتي بقدر ما هي لحظات حرجة وحاسمة لأنها مؤسسة لما بعدها، بقدر ما هي مراحل هشة قابلة لإعادة إنتاج الاستبداد. وهذا مما لا خلاف حوله لكن شرط الوجوب والصحة في المثلية أن تكون المرحلة انتقالية حقا وتحقيقا لا ادعاء وتلفيقا. في التجربة المصرية مثلا كانت تداعيات هيمنة بعض فلول النظام السابق على المشهد السياسي المصري من وراء ظهور مصطلح "الدولة العميقة". ويقصد به كما قال فهمي هويدي "شبكة العملاء الذين ينتمون إلى تنظيم غير رسمي، له مصالحه الواسعة وامتداداته في الداخل والخارج، ومتواجد في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة، المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية. الأمر الذى يوفر لتلك العناصر فرصة توجيه أنشطة مؤسسات الدولة الرسمية والتأثير في القرار السياسي". في مصر كان الشعب بقيادة نخبته الفكرية وطبقته السياسية هو الفاعل الأساسي في العملية السياسية برمتها منذ قيام الثورة، وكان نبض الشارع هو المحرك الرئيس لكل الأحداث المصيرية فلا صوت يعلو على صوته، لذلك كان الدافع هو الرغبة في تحصين مكتسبات الثورة وإتمام مقتضياتها. فالثورة المصرية فعلا أسقطت أبرز رموز النظام السياسي البائد، واقتلعت رؤوس الاستبداد، لكنها لم تطهر بعد بنية النظام السياسي. جسدت لحظة الثورة المطلب الأول، بينما يحتاج إسقاط بنية النظام السياسي واقتلاع جذور الاستبداد إلى عملية تطهير دائمة. لنقل من داخل المعجم الثوري أنه يتطلب "ثورة دائمة" لكن ليس بالمعنى الذي ذهب إليه تروتسكي، بل بالمعنى الذي يفيد سريان الحركة الإصلاحية المتجددة في مفاصل النظام السياسي، وفي مختلف جوانب الحياة الإنسانية حتى الوصول إلى حالة الاستقرار النفسي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. في المغرب كان الأمر مختلفا تماما. فالسلطة السياسية المخزنية كانت هي راعية عملية الانتقال، ومهندسة المرحلة السياسية بامتياز بدء بتمثيله التعديل الدستوري، وانتهاء بمسرحية تشكيل الحكومة الجديدة، وهذا لوحده سبب كاف للتشكيك في مصداقية أي تغيير مرتقب. كانت العملية السياسية إبان حراك 20 فبراير المجيدة برمتها تهدف إلى الالتفاف على حركة الشارع، وكانت بغية النظام السياسي المخزني هي تطويق الاحتجاجات الشعبية التي تسارعت وثيرتها وتنامت. لم تسقط رموز النظام السياسي المخزني، ولم يتم اقتلاع رؤوس الاستبداد رغم المطالبات المتكررة بذلك. حافظ النظام السياسي المخزني على مراكز كثير من رموز الفساد، بل إنه عمد إلى تبني لعبة تغيير المواقع بهدف تسييج محيطه بمزيد من الأطر التي تعتبر صمام الأمان في الدولة المخزنية التسلطية، وهو ما يمكنه من استمرار هاجس التحكم وإن حصل تغيير سطحي على مستوى الحكومة ومؤسساتها. إذن هل بقي من تقارب يا ترى بين السياق الذي دفع التجربة المغربية لتوظيف مصطلح "جيوب المقاومة" وبين السياق المصري الذي أفرز مصطلح "الدولة العميقة". يكفي هذه المقولة المخزنية افتراء وادعاء أنها تجزم جزما قاطعا أن البلاد وضعت قدميها على سكة التغيير الصحيح وانخرطت في مسلسل حقيقي للإصلاح. إن الحكومة الجديدة لن يسعها إلا تدبير الأزمة لأنها هي أصلا جزء من إفرازاتها، ولن يخفي خطابها، بمسوغاته التبريرية، سوى لغة العجز عن مباشرة الإصلاح الحقيقي، ومنطق التسويف في اعتماد مبادرات التغيير الجذري. وحسبك عجزا أن تشكيل الحكومة الجديدة زج بالبلاد في أتون توافق مخزني أريد له أن يمتص غضب الشارع، ويحتوي حركته الاحتجاجية في مقابل تداول كسيح على السلطة وتناوب مرير على إطالة عمر الأزمة. وبهذا لا يعدو أن يكون التلويح بخطر "جيوب المقاومة" في وسائل الإعلام الرسمي والحزبي سوى مناورة أخرى من مناورات النظام السياسي الفاسد بالمغرب. مناورة ترسم في الذاكرة الشعبية صورة تقريبية لطبيعة الوضع السياسي، بل وتصنف من داخله قوى الخير والشر، وتعيد تشكيل الوعي الجمعي على مقاسه. هذه الصورة وبهذا الشكل المثير إنما هي تعبير عن خط سياسي معين، وتجل لاختيار سياسي هو في الغالب يتماهى مع رؤية النظام السياسي، ويستبطن نظرته لطبيعة الوضع السياسي، خصوصا في بلد مازال يحتكر وسائل الإعلام ويستفرد بمنابره ويمنع الاختيارات السياسية المناهضة من حقها في حرية التعبير. إن الاستثناء المغربي مرة أخرى كان هو قدرة النظام السياسي مؤقتا على اجتياز لحظة الربيع العربي، وهو يلهب ظهر الحكومة الجديدة بسياط الانتكاسة حين قبلت بسقف آمال هو أدنى بكثير من تطلعات الشعب. وإن حكومة تعتمد على مقولة "جيوب المقاومة" كمسلمة سياسية، إنما تستقي منهجها التحليلي من النسق السياسي المخزني، ثم هي بعد ذلك تنظر إلى المستقبل من خلال ثقوب لا تستقيم معها الرِؤية ولا تسعفها إرادة الإصلاح. فليس الإقدام هو أن تشن الحكومة الجديدة الغارة الشعواء على دوائر الفساد المغلقة وتتغافل عن بؤرة الفساد ومنبعه، وليس الإقدام هو محاربة الجيوب وإنما هو مقاومة الرأس ومنازلة العضلات. فهل في الحكومة الجديدة من رجل رشيد؟