(مقال في الأهرام المصرية يوم 25/10/1963) ما هى المشكلة الآن على الحدود بين المغرب والجزائر. هل هى مجرد خلاف على بضع عشرات الكيلومترات وضعتها الخرائط على هذا الجانب من الحدود أو ألقت بها خطأ على الجانب الآخر؟ هى أعقد من ذلك فى تصورى! وخلاف الحدود فيها قشرة هشة على السطح بغير صلابة وبغير عمق، وأما الحقيقة المجردة فعناصرها الأولى كما يلى: 1- إن المنطقة المتنازع عليها - وبالذات منطقة "تندوف" - هى أضخم منجم للحديد، فى القارة الأفريقية كلها، وهى مقدمة غنية لمؤخرة تماثلها فى الغنى بالحديد تمتد بعد "تندوف" إلى داخل "موريتانيا" - ويقدر الخبراء أن مناجم الحديد فى هذه المنطقة هى معظم ما تحتاجه السوق الأوروبية المشتركة من مصادر الحديد خارج القارة الأوروبية. .. إن ملك المغرب يطالب "بموريتانيا"، جزءاً لا يتجزأ من مملكته، وهو لا يطل عليها بحدود مشتركة لأن منطقة "تندوف" فى الجزائر تفصل بينهما، ومن هنا فإن ملك المغرب يريد مع مناجم الحديد الهائلة فى " تندوف "، معبراً أرضياً إلى "موريتانيا". هذه هى العناصر الأولى للمشكلة... أحاطت بها بعد ذلك ظروف... - ثم طرأت عليها فى النهاية مضاعفات... أبدأ بالظروف: 1 - من قبل أن تستقل الجزائر كانت حكومة المغرب تطالب بمنطقة "تندوف"، وحجتها أن هناك خريطة قديمة -!- تثبت تبعيتها لسلطان المغرب - ولكن فرنسا زورت الخرائط الجديدة لصالح الجزائر، التى كانت تعتبرها إلى عهد قريب امتداداً وراء البحر لفرنسا وجزءاً من أرضها لا يتجزأ! وخلال حرب التحرير الجزائرية وظروفها الصعبة وقسوتها البالغة حاولت حكومة المغرب بكل وسائل الضغط أن تحصل على تنازل من الثورة الجزائرية عن هذه المنطقة،وكانت الثورة الجزائرية تقاوم بكل وسعها. كانت الثورة الجزائرية تقول: إذا كان هذا حقاً لماذا لم تطالبوا به حين استقلال المغرب عن فرنسا...؟ - وكانت الثورة الجزائرية تقول: لا يستطيع أحد تحت ظروف الحرب أن يتنازل عن شبر واحد من التراب الجزائرى. وانتهت حرب التحرير باستقلال الجزائر، وفى يوم الاستقلال نفسه حاول ملك المغرب وسط مظاهرة الفرح أن يحصل على "تندوف" هدية، لكن الثورة الجزائرية أهدت للملك شكرها على كل مساعدة لقيتها فوق أرض المغرب، ثم احتفظت "بتندوف" جزءاً من أرض الجزائر. وأغلب الظن حتى ذلك الوقت أن قيمة تندوف بالنسبة لملك المغرب كانت جوارها من "موريتانيا". 2 - بعد استقلال الجزائر، بدأت حكومتها الثورية تتجه بكل طاقتها إلى التنمية واستغلال الموارد الاقتصادية على أرضها كلها... وكانت مناجم الحديد الهائلة فى "تندوف" فرصة تعرض نفسها على كل أحلام التنمية. وكانت هناك مصالح كبرى، فرنسية ودولية، مهتمة فى نفس الوقت باحتمالات "تندوف" وثروتها الكامنة، وفى طليعة هذه المصالح مؤسستان من أكبر المؤسسات المالية فى فرنسا هى "بنك باريس والأراضى الواطئة" ثم "بنك روتشيلد"ومعها كان أحد الخبراء واسمه "لويس أرمان" قد قام بدراسة مفصلة لاستغلال حديد "تندوف" مستنداً على امتياز بحث حصل عليه من سلطات الاحتلال الفرنسية قبل الاستقلال. وفيما أعرف فلقد بدأت اتصالات مع حكومة الجزائر الثورية لعرض مشروع استغلال حديد "تندوف" عليها، لكن العقبات واجهت هذه الاتصالات، وكان أهم هذه العقبات هو الخلاف على طريق حديد "تندوف" إلى البحر ومن ثم، إلى أوروبا. كان مشروع "لويس أرمان" يتجه إلى أن يكون نقل الحديد من "تندوف" إلى "أجادير" من موانى المغرب لأنها أقرب، وتكاليف النقل إليها أرخص. وكانت وجهة نظر حكومة الجزائر أن يكون النقل من "تندوف" إلى ميناء "وهران" أبعد عن "تندوف" من "أجادير"، لكن "وهران" ميناء جزائرى. وأحست المصالح المالية الكبيرة الفرنسية والدولية أن حكومة الجزائر برغبتها فى إبقاء عملية حديد "تندوف" كلها، إنتاجاً ونقلاً إلى البحر، على الأرض الجزائرية، إنما تهدف إلى غرض أبعد... ربما - إلى هذا اتجهت شكوكها - كانت حكومة الجزائر تنوى يوماً تأميم الحديد، ولا تريد فى مثل هذه الحالة أن تكون مخنوقة بعملية النقل وراء حدودها. على أى حال تعطلت الاتصالات! 3 - ومع بروز الاتجاه الاشتراكى لحكومة الجزائر الثورية، فإن المصالح المالية الكبيرة الفرنسية والدولية، الحالمة بثروة "تندوف" الهائلة من الحديد، بدأت تتحرك بالقلق. لم يعد يكفى لطمأنتها أن كون الإنتاج فى الجزائر والنقل عن طريق المغرب إلى "أجادير"، ثم بلاد السوق الأوروبية المشتركة. ذلك ضمان لا يكفى للسلامة. الأسلم منه أن تخرج مناجم "تندوف" كلها من دائرة التفكير الاشتراكى. وكان خلاف الحدود بين المغرب والجزائر ميداناً فسيحاً للعمل، واتصلت المصالح المالية الكبيرة الفرنسية والدولية بالملك الحسن عن طريق بعض القريبين منه، وأبرزهم "السيد رضا جديرة" الذى كان رئيساً للديوان الملكى فى وقت من الأوقات، والذى رأس فيما بعد حزب الملك الذى أطلق عليه "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية". كان العرض مغرياً: - إن الملك يستطيع أن يحصل على المعبر إلى موريتانيا. - وفوقه حصة هائلة من دخل حديد "تندوف". ذلك كله ثم طرأت المضاعفات. 1 - بعض قادة الجيش المغربى يطالبون بمزيد من السلاح لإمكانية السيطرة على الجبهة الداخلية فى المغرب بعد ظروف التمزق التى عانتها هذه الجبهة خصوصاً فى أعقاب الانتخابات الأخيرة التى خسر فيها مرشحو الملك أمام مرشحى الأحزاب الوطنية... وبالذات تجمع القوى الشعبية. وبعد كل محاولات التأثير فى الانتخابات لم تجد السلطة فى المغرب إلا اعتقال كل نواب المعارضة وكل زعمائها... لكن ضمان السيطرة يتطلب تعزيز الجيش. ولقد كان الجيش المغربى فى كثير من الظروف سؤالاً بغير جواب. كانت هناك دائماً محاولة عزل هذا الجيش عن الشعب ونضاله الوطنى، وكانت هناك دائماً سياسة تحول ضباطه وجنوده إلى مغامرين محترفين يقاتلون بالأجر معارك الاستعمار الفرنسى من "ديان بيان فو" فى الهند الصينية... حتى الجزائر. وفى فترة الحاجة إلى سلاح للقمع فلقد كانت هناك مصالح أبدت استعدادها لتقديم ما فيه الكفاية منه... وزيادة. 2 - وفى هذه الظروف بدأ يتسلل على مسرح الحوادث شخص غريب اسمه "القومندان سالفى" كان فى وقت من الأوقات من ضباط وزارة المستعمرات الفرنسية، ثم خرج بعد خدمة طويلة فى المغرب العربى ليعمل فى شئون المال والاقتصاد. وثمة أدلة كثيرة تشير إلى أن "القومندان سالفى" فى اجتماعات عديدة تمت بينه وبين بعض رجال الملك قدم لهم: - عقود صفقات سلاح. - اعتمادات مالية واسعة تحت الحساب. - خريطة رسمها من أيام الخدمة - هكذا قال - تثبت أن "تندوف" تحت ولاية ملك المغرب. ثم أخذ من رجال الملك شيئاً واحداً: - امتياز باستغلال حديد "تندوف"... اتفاقاً سرياً حتى تسمح الظروف ويتحول إلى العلنية حينما تواتيه الفرصة. 3 - زاد وضوح الاتجاه الاشتراكى فى الجزائر، ومن نتيجته أن وجد الملك بالقرب منه فى عاصمة ملكه مجموعة من القوى الضاغطة عليه بأن يتحرك بسرعة. -كانت هناك مصالح المستعمرين الفرنسيين المتشابكة فى شمال أفريقيا، وحينما تأثرت مصالحها فى الجزائر، فلقد بقيت عناصر منها فى المغرب بالقرب من مركز العاصفة التى هبت على ممتلكاتهم. بل إن ممتلكات معظم هؤلاء كانت موزعة بين المغرب والجزائر، فلما ضاع نصفها الجزائرى، بقوا فى نصفها المغربى يحلمون بفرصة يعود فيها إليهم ما ضاع منهم. هؤلاء أصبحوا قوة ضاغطة على بلاط الملك. - من ناحية أخرى، كانت هناك مصالح مغرية للطبقة الحاكمة مرتبطة بمصالح المستعمرين الفرنسيين، وما أصاب المستعمرين الفرنسيين فى الجزائر كله.. لمس بعضه بغير جدال مصالح الطبقة المغربية الحاكمة، وهى الشريك الصغير... وفى نفس الوقت الواجهة العريضة للمصالح المشتركة. هؤلاء أيضاً أصبحوا قوة ضاغطة على بلاط الملك... بل هم أصلاً بلاط الملك وسنده الاجتماعى بالطبيعة فى مثل الظروف الطبقية السائدة على المغرب. - من ناحية ثالثة كان هناك الضغط الداخلى... هواجس النفس على العرش ذاته تهز الجالس عليه بالتساؤل: - وماذا بعد انتصار الاشتراكية فى الجزائر... ثم احتمالات العدوى؟ والمغرب قريب من التجربة الفوارة الشابة التى يقودها بن بيللا؟ 4 - كذلك فالملك بحاجة إلى تأليف وزارة جديدة قبل اجتماع البرلمان، ولا يمكن لوزارة أن تتألف اعتماداً على جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، حزب الملك، وإنما لابد أن يشارك حزب الاستقلال، الذى تعاون مع الملك فى بعض الظروف، ثم اختلف معه فى بعضها الآخر وخاض الانتخابات مناوئاً له لكن العلاقات بينهما لم تصل إلى القطيعة. ورئيس حزب الاستقلال، السيد علال الفاسى، تغريه محاولة بسط السيطرة المغربية على موريتانيا، وليس ما يمنعه من الوصول عن طريق "تندوف" خصوصاً وهو على خلاف قديم مع جبهة التحرير الجزائرية ومع "بن بيللا"... وليس يهمه أمر الحديد ومطامع الآخرين فيه، إذا كان ذلك ثمناً لمساعدة!! 5 - ثم جاءت مصاعب الجزائر الداخلية الأخيرة والتمرد الذى وقع فى ميشليه ولست أملك الأدلة الكافية لكى أقطع: هل الملك هو الذى دفع التمرد إلى حركته؟ أم أن التمرد هو الذى دفع الملك إلى الحركة واستغلال الفرصة بسرعة والعمل عسكرياً بالدبابات وفى حمى الطائرات إلى اتجاه "تندوف"؟! وليس معنى كل ما عرضته من أسس المشكلة والظروف المحيطة بها والمضاعفات التى طرأت عليها أن موضوع النزاع هو "حديد تندوف والمعبر إلى موريتانيا"... تلك كانت البداية. وإنما فى النهاية اختلط الكل فى النوايا وفى الخطط. إن أسس المشكلة والظروف المحيطة بها والمضاعفات التى طرأت عليها أصبحت الآن شيئاً واحداً لا يتجزأ. اختلط الحديد فى تندوف، بالتجربة الاشتراكية فى الجزائر. وساحت قيادة الجيش المغربى المحترفة على مجالس إدارات بنك باريس والأراضى الواطئة وبنك روتشيلد. واجتمع القومندان سالفى وعلال الفاسى وحسين آية أحمد على موعد أو بالصدفة يستوى الأمر فى النهاية. كله... وكلهم... أصبح وأصبحوا شيئاً واحداً وحركة واحدة فى معركة من معارك الاستعمار الجديد؟ وكطبيعة معارك الاستعمار الجديد كانت سحب الدخان تطلق طوال الوقت على سماء المعركة. - منذ وقت طويل كانت الألوان الصارخة عمداً تصبغ كل ما يجرى فى الجزائر عند تصويره فى الصحافة العالمية ووكالات الأنباء. وترددت أكثر من مرة نغمة "كاسترو".. وأن بن بيللا فى البحر الأبيض تكرار لبطل القصة المشهورة فى الكاريبى. وأريد وضع المسألة أمام أفريقيا على أنها خلاف حدود لا يستثير التدخل ولا يشغل البال بعد حد معين! بل أكثر من ذلك سحب الدخان. كان موقف الجمهورية العربية المتحدة معروفاً فى المشكلة كلها سلفاً، قالت رأيها فى مؤتمرات عديدة، شاركت فيها مع المغرب بالذات، ومع الجزائر... أولها فى الدارالبيضاء سنة 1961 وآخرها فى أديس أبابا سنة 1963: "مشاكل الحدود حتى إذا وجدت، ولسوف يوجد منها الكثير فى أفريقيا بحكم المغامرات الاستعمارية وعربدتها على أرض القارة، وليس هناك غير سبيل واحد لحلها هو: التفاوض السلمى". ومن هنا فلقد كانت هناك سحب دخان موجهة إلى تغطية موقف الجمهورية العربية وإحراجها من قبل أن تتضح الحقائق. كان القصد أن يبدو: تحيزها... وأكثر من التحيز: تدخلها. وكانت مناورة إرغام طائرة هليكوبتر جزائرية على النزول فى أرض المغرب بينما كان معروفاً أنه بين ركابها أربعة من الضباط المصريين فى بعثة عسكرية تخدم الجيش الجزائرى ولم يكن وجود هؤلاء الضباط سراً ولا كانت سراً رحلتهم ويكفى دليلاً أن طائرتهم قامت من مطار "كولومب بيشار" وهو ما زال تحت السيطرة الفرنسية. ولم تكن سلطات المغرب فى حاجة إلى كل هذا الذكاء فى إطلاق سحب الدخان - على الأقل فما يتعلق بموقف الجمهورية العربية المتحدة. لم يكن هناك ما يدعو إلى محاولة إثبات التحيز عليها... فإنها تعترف به. إنها متحيزة دائماً... ضد الاستعمار القديم والجديد على السواء. ولم يكن هناك ما يدعو إلى محاولة إثبات احتمالات تدخلها... هى بالقطع غير بعيدة عن المشكلة... إيماناً بغير حدود بالشعار الذى أعلنه جمال عبد الناصر فى القوات العائدة من اليمن حين قابلها فى السويس قائلاً: إن سلامة الثورة العربية لا تتجزأ.. حاولت أن أضع نقطاً على حروف وأن أشرح وجهة نظر فى الصورة التى ترسم لما يجرى على الحدود بين المغرب والجزائر. ليست بورسعيد أخرى... وإنما شىء يختلف وقد يكون أدق وأكثر تعقيداً. - وليست المشكلة حرباً.. ولقد تكون بالسلاح أحياناً، ولكن ليس بالسلاح وحده ولا دائماً. إننا الآن وجهاً لوجه أمام الاستعمار الجديد. ولقد نحتاج إلى الحماسة.. ولكن معها الوعى. ولقد نحتاج إلى الدم... ولكن معه الضوء. ولقد تكون من غير قتال هزيمة أهداف العدوان. إن المسرح الذى تدور من فوقه القصة المثيرة كبير. أكبر بكثير من منطقة الحدود المتنازع عليها. والقتال المسلح.. حتى إذا لم يتوقف، يجرى فى ركن واحد من أركانه، وسط زحام غريب.. بين حشد من قياصرة السوق الأوروبية المشتركة.. وأصحاب بنوك فى مقدمتهم روتشيلد... والملك الحسن... ورجال كانوا يوماً بين الوطنيين فى بلادهم وهم اليوم لا يعرفون موقع أقدامهم ولا إلى أين حركتهم مثل علال الفاسى وحسين آية أحمد.. ومستعمرون فرنسيون قدامى ساقتهم أمامها تجربة اشتراكية وقذفت بهم على حافتها وتركتهم وحدهم مع الشجن... وجنود مرتزقة... وطلاب ثروة غامضون من أمثال القومندان "سالفى"... ومستقبل تجربة جديدة فى البناء الاجتماعى فى الجزائر تواجهها أوضاع اجتماعية مغايرة فى المغرب... وصفقات سلاح واعتمادات من أموال بغير حساب... وتيارات فى أفريقيا وآفاق يجرى عليها السحاب... وقبل ذلك كله... وبعده عامل حاسم لا يمكن إغفال أهميته: ثورة عربية لا تتجزأ سلامتها. كتب: محمد حسنين هيكل (مقال في الأهرام المصرية يوم 25/10/1963) "" نقلتها "هسبريس" عن مدونة "انتهازيون بلاحدود" للزميل سعد جلال