الدروس المستخلصة من الديموقراطية الأمريكية.. على هامش الانتخابات الرئاسية قد نختلف كثيرا مع طبائع السياسة الخارجية الامريكية نظرا لعنجهيتها واستكبارها بفعل الياتها وماكيناتها التي تحصد الاخضر واليابس وتأتي على كل شيء وغير معيرة وابهة بالاهتمام او الاخذ في الحسبان بعضا من الضوابط الاخلاقية والمبدئية ،لكن ما يعتمل بداخلها في سياق الممارسة الديموقراطية فهو جدير بالاحترام والتقدير اخرها الاستحقاق الرئاسي فالأكيد اننا عشنا حدثا سياسيا/انتخابيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى بغض النظر عن الحقد الكامن والظاهر الذي نكنه اياها، فهو نموذج قابل للاقتداء واستخلاص العبر في الممارسة الانتخابية والديموقراطية. وما استوقفني كثيرا في هذا الخضم تلكم الفجوة الحاصلة بين ما هو قائم هناك وما هو ماكث بيننا ،فبكل بساطة شيء يحز في النفس ان نقيس مدى التطور والتحديث في الممارسة الديموقراطية ونلتفت من ورائنا ونجد وضعنا مازال في مراحله البدائية. فهذه المقاربة تستهدف بالدرجة الاولى استدراج قيمة "النحن" و مقارنتها ب"الاخر" الامريكي في معادلات الاستحقاقات الانتخابية والتعاطي مع الديموقراطية من حيث التمثل والتعامل والتقعيد والتطبيق،مع ان المقارنة من الناحية العلمية لا تجوز فكيف يمكن مقارنة ما لا يقارن ،لكنها شئنا ام أبينا فهي تعتبر مبضع ديموقراطي نموذجي قابل للتسويق وايضا لاستخلاص العبر بالنسبة للذين لا ديموقراطية لديهم، وللذين يسيرون بخطوات محتشمة في دربها. ان أي متتبع لهذه الانتخابات سواء من بعيد او قريب يستكشف درجة النضج الديموقراطي الذي جاء كمحصلة لنضالات تاريخية وبفعل الممارسة كرست جملة من العادات والتقاليد الديموقراطية العريقة التي تعلي من شان الفرد الامريكي باعتباره معادلة محورية وجوهرية في صناعة القرار وتقرير مصيره في الامور الحياتية والمعيشية التي تهمه، فهنا تتبلور ثقافة تقدير اللحظة الانتخابية بمختلف عناصرها التي هي منارة لتحصين الديموقراطية والدفع بها الى المرتبة الاسمى. انها بكل صريح العبارة الهندسة الانتخابية بكل معانيها وابعادها القانونية /الاجرائية والتنظيمية والمؤسساتية وشقها الثقافي ايضا، وفي ابهى صورة تعير الاهتمام لكرامة الانسان وحقوقه السياسية المجمع حولها ،وهذا ما يؤكد بالفعل ان الديموقراطية ثابت من ثوابت الامة الامريكية على الرغم من ذلك الخليط المتباين على المستوى العرقي واللغوي والثقافي الذي يذوب في بوتقة الحرية والديموقراطية. فالحكامة حاضرة على مستوى ادارة العملية الانتخابية بمختلف ابعادها التنظيمية والقانونية والقيمية ،وهذا التجلي الايجابي قائم على مستوى التنظيم المحكم الذي لا تشوبه شائبة لدرجة الاتقان ،ولدرجة حضور ميزة الوعي الانتخابي الايجابي المنغرس لدى مختلف السلطات والمسؤولين على هذه العملية والمواطن ايضا ،الذي يتهم بانه مدجن ومنمط ،فمرحبا بهذا التنميط اذا كان يخدم البناء الديموقراطي وحرية الاختيار ،وينأى عن متاهات البيع والشراء وحالات اغتصاب الشفافية والنزاهة. واذا كنا نتحدث عن حسن ادارة العملية الانتخابية فتحضر بالدرجة الاولى عملية تدبير الحملة الانتخابية التي توظف فيها كل الوسائل التقليدية والحديثة بما فيها الاستعمال المكثف لتكنولوجيا المعلوميات والاتصال والحضور الاعلامي للمنافسين على منصب الرئاسة، والية المناظرات التلفزيونية التي تتناطح فيها الافكار والتصورات والآراء حول طرق تدبير السياسات العمومية ،فهي تشكل لحظة لتبلور حالة من التثاقف السياسي الايجابي الذي يساهم في تكريس ثقافة المشاركة والانخراط في الممارسة السياسية من خلال العملية الانتخابية، وهذه الحملات تدار بعيدا عن منطق "الولائم والزرود بالهامبورغر أو الكنتاكي" ،فهي تكتسي مصداقية منقطعة النظير خصوصا اليات التسويق الانتخابي المعتمدة بشكل احترافي التي تعتمد على تقنية الصورة والافكار ومن خلال شركات خاصة احترفت العمل في ذلك،فشتان بين هنا وهناك حيث الرتابة حاضرة في ادارة الحملات الانتخابية والتغييب القسري للنقاشات والجدالات حول البرامج والسياسات المعتمدة ،والعراك الانتخابي الذي قد يمتد الى استعمال البلطجة واعتماد سياسة ملئ البطون بدل العقول واستغلال الفقر والحاجة . فهذه المناظرات تؤكد قمة النقاش السياسي حيث تحسم النتائج في سياقها بشكل كبير حيث لا يسمح فيها بهامش الخطأ في تقدير الامور فيحضر معطى التشخيص الفعلي لمختلف المشاكل وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتمتزج المقاربات السياسية بما هو تقني وتحضر ارقام النمو وفق معطيات مضبوطة تستخلصها مراكز البحث والدراسات think thank ،وقد يتوه المواطن امام شدة الارقام والتفاصيل وكلها تعتبر صك الالتزام و الوعد بتحقيقها ،وقد تكون مصدر الخسارة الشعبية للرئيس اذا لم يقدرها بشكل جيد، عكس منطق الاشتغال عندنا الذي تلقى فيه الوعود والعهود على عواهنها بلا حسيب ورقيب وتغيب البرامج الانتخابية لدى الاحزاب فيصبح الشخص المرشح هو البرنامج في حد ذاته نتيجة رصيده المالي ودرجة تخبيصه في الانتخابات. وما هو جدير بالذكر هي طريقة متابعة الانتخابات في ايام التصويت وطريقة التفاعل بين الاعلام الامريكي والحدث في ذاته ،حيث المتابعة الانية التي تكرس معنى الشفافية الانتخابية من خلال امداد المواطن بكل المعلومات والوقوف على النتائج اولا بأول ،والتي تبرهن على درجة المهنية والاحترافية والعلاقة السليمة والصحيحة القائمة بين الاعلام والسلطة التي هي ذات منحى تكاملي تعاوني بعيدا عن كل تعتيم وسرية، اما نحن يطول بنا السهر والمقام نتيجة تقطع اوصال حبل وصول صندوق اقتراع تائه بين ادراج الطرق والمسالك وصندوق اخر ربما اعتقلته ايادي ادمية . وما يزيد هذه الانتخابات رونقا وصلاحا هي تكريس حالة التقابل بين ثقافة الانتشاء بالفوز والانتصار وثقافة الاعتراف بالهزيمة فتجد امام خطاب الفوز يمثل خطاب الهزيمة كتقليد يعبر عن مدى تجذر وعراقة النضج الديموقراطي ،فلا احتجاجات تعقبها ولا طعون تشكك في مصداقيتها لسبب بسيط وهو طهر وعفاف صناديق الاقتراع التي لا تطالها ايادي مغتصبي الديموقراطية ،وحتى لوبي الضغط والتأثير يشتغل في وضوح وشفافية بعيدا عن السرية والكولسة، اما الحاصل عندنا يكثر فيه منطق التنديد والتخوين القبلي والبعدي وكثرة العويل واللطم على الخدود ،والطعن الدائم والامر عادي مادام الحال هكذا وبهذه الشاكلة. ان مخاضات الانتخابات الامريكية تعيد الى الاذهان مسالة في غاية الاهمية وهي في شكل تساؤل مفاده، هل يمكن ان نمتلك منظومة قانونية متطورة ومتقدمة للحكم على اننا قادرون على الارتقاء بالعملية الانتخابية الى مستوى الرهان الديموقراطي؟،الجواب طبعا بالنفي وبالقطع لان المشكل دائما مرتبط بالعقليات التي تشبعت بثقافة سياسية مشوهة وعبت من معين ومنهل الانتهازية والوصولية ،فهي دائما تنظر الى الانتخابات بمنظور نفعي محض قائم على تحصين المصالح الشخصية الضيقة مع التأبين الكلي للمصلحة العامة. فكل الامور والدروس تفيد اننا يلزمنا دهر من الزمن للارتقاء الى مصاف هذا الصرح الديموقراطي انه بطبيعة الحال فارق في السرعات والمكنات والقدرات والملكات والمدارك الانتخابية واللحاق بركب الديموقراطية، وفي الختام يمكن القول ان العديد من الباحثين والمتتبعين يحاولون الوقوف على مثالب الديموقراطية الامريكية لكن سرعان ما يصطدمون بنضجها وبعدها الراسخ داخل المؤسسات والافراد وذلك بفعل غلبة الجوانب الايجابية على كل ما هو سلبي ،والاكيد ان مراكمة الممارسة الديموقراطية يؤدي الى تحصينها من مكائد الزمن وكل المتربصين بها .