كان لزاما على الرأي العام العالمي أن ينشغل بمتابعة انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ بسبب التأثير الأمريكي، المباشر وغير المباشر، على القرار السياسي في مختلف القضايا الحساسة في العالم، ولأن بإمكان هذه الانتخابات أن تفرز خريطة سياسية مخالفة لما عليه الحال، حيث عودتنا التجارب السابقة على أن نتائج هذه الانتخابات تؤثر في الانتخابات الرئاسية القادمة لأنها تعكس مزاج الرأي العام الأمريكي واتجاهاته. في المحصلة، شكلت هذه المحطة الانتخابية اختبارا حقيقيا لأوباما وإدارته الديمقراطية وتمحيصا لشعار التغيير الذي رفعه خلال حملته الانتخابية الرئاسية، وهو شعار جذاب استقطب فئة عريضة من الناخبين خلال الانتخابات الرئاسية السابقة وأنفق أوباما 800 مليار دولار في برامج إصلاحية دون نتيجة، حيث وصلت نسبة البطالة إلى 10 في المائة، وهذه الانتخابات بعد سنتين ميزة ينفرد بها النظام الانتخابي الأمريكي الذي يمنح الناخب، في منتصف الولاية الانتخابية، فرصة لمكافأة أو معاقبة أو تنبيه من يدبر شؤونه واستدراك أي اختلال، وهي خاصية تفتقر إليها الكثير من الأنظمة العريقة في الديمقراطية. قال الأمريكيون كلمتهم ووجهوا إنذارا إلى الرئيس أوباما وسحبوا من حزبه السيطرة على كل المؤسسات التقريرية (البيت الأبيض، الكونغرس، مجلس الشيوخ)، ومنحوا الحزب الجمهوري أغلبية في الكونغرس لإحداث توازن في صناعة القرار في ظل نظام رئاسي يعطي الرئيس صلاحيات واسعة، منها حق الفيتو. وهذه ميزة أساسية في النظام الدستوري الأمريكي الذي يوازن بين مختلف السلط ويقيد عمل كل سلطة بسلطة مضادة لها دون أن يقود ذلك إلى انحباس سياسي بسبب التوزيع المتكافئ للسلط ونضج الفاعلين السياسيين ويقظة المجتمع المدني.. وهذا ما لوحظ مباشرة بعد إعلان النتائج، حيث اعترف أوباما بالأمر الواقع ومد يديه للتعاون مع الجمهوريين آملا أن يلتقوا في منتصف الطريق. وميزة الانتخابات الأمريكية أنها تجري حول قضايا محددة، سواء تعلق الأمر بالسياسة الداخلية أو الخارجية.. بل إن هناك قضايا دقيقة هي التي تصنع الفارق الانتخابي، فترجح كفة هذا الحزب أو ذاك، مما يجعل التنافس الانتخابي واضحا والحراك السياسي موجها والناخب على بينة من أمره. وتتميز هذه الانتخابات، كذلك، بطابعها التنافسي، حيث يصعب التكهن بنتائجها مسبقا رغم استطلاعات الرأي المتعددة والمحترمة لمعايير وضوابط استطلاعات الرأي والخاضعة لقوانين وأخلاقيات صارمة تبعدها عن التوظيف السياسي والمصلحي الضيق.. وهذا ما يضفي على المنافسة الانتخابية طابع التشويق ويجعلها لعبة مفتوحة على كل الاحتمالات ويشجع على الإقبال على صناديق الاقتراع. وتتميز هذه الانتخابات بشفافيتها، حيث لا يطعن في نتائجها حزب أو مواطن، ولا يتعرض نظامها القانوني وإطارها التنظيمي لأي نقد، لأن كل ذلك يتم بشكل ديمقراطي يراعي مصلحة البلاد وفي انسجام تام مع نص الدستور وروحه وبعيدا عن أي حسابات مرحلية أو خلفيات سياسوية.. وينتج عن هذه الميزة احترام متبادل واعتراف وتقدير بين كل مكونات المشهد السياسي واستقرار سياسي يجعل الكل يفكر في التحديات ويوجه جهوده إلى ما هو أهم من السجالات العقيمة. لقد تابعنا رد الرئيس أوباما مباشرة بعد إعلان النتائج، حيث اعترف بخسارته وهنأ خصومه الجمهوريين، والأمر نفسه قام به جون بوهنر، الرئيس القادم للكونغرس، الذي أكد توصله بتهنئة أوباما ووصف مكالمته الهاتفية بالسارة واللطيفة، معبرا عن فرحه بها. وفي هذا درس آخر حول نبل المنافسة السياسية التي تتطلب عدم توسيع دائرة الصراع الانتخابي حتى يتعدى إطاره الحقيقي فيصبح عامل هدم لاستقرار المجتمع عوض أن يكون عامل إثراء وتنوع.. وهكذا انتقل النقاش، بمجرد إعلان النتائج، إلى القضايا الأساسية التي تستلزم اتفاق كل الفرقاء وتعاونهم. كل هذا يؤكد أن الانتخابات في الدول الديمقراطية ليست إلا لحظة في زمن سياسي، وأنها وسيلة لغاية أسمى هي خدمة المواطنين والبلاد. وبهذا المعنى، نكتشف فقرنا السياسي حين تطغى تداعيات الانتخابات على سنوات الولاية الانتخابية كلها. وميزة هذه الانتخابات أنها تتم على أساس برامج دقيقة وغير متشابهة، وتبذل الأحزاب خلالها مجهودا في التشخيص والاقتراح والتواصل لإقناع الناخبين واستمالتهم مستعملة أحدث الوسائل وسالكة كل السبل لجذبه إلى التصويت والتفاعل الإيجابي مع برامجها ومقترحاتها، وهي بهذا تسهل على الناخب الاختيار وتمنحه آليات المحاسبة لأن هذه البرامج واقعية وقابلة للقياس وليست شعارات عامة ومقولات لدغدغة العواطف.. ويترتب عن كل ذلك شعور بالمسؤولية لدى هذه الأحزاب، مما يحفزها على الاجتهاد أكثر للوفاء بالتزاماتها. أما الميزة الأخيرة لهذه الانتخابات فهي قدرة كل حزب على تقييم أدائه ومعرفة أسباب التصويت أو عدم التصويت عليه وتحديد المسؤوليات في ذلك ومباشرة إصلاح الذات، وبهذا تقدم محطة الاقتراع تغذية راجعة تساهم في تطوير القدرة التشخيصية والاقتراحية للحزب الفائز والخاسر. نستنتج من كل هذه المزايا تخلف العملية الانتخابية في منطقتنا العربية، سواء من حيث هدفها أو سياقها السياسي أو نظامها القانوني أو المشاركون فيها أو المؤسسات التي تفرزها.. كما نستنتج من هذه المزايا الارتباط الوثيق بين الانتخابات والديمقراطية وتلازمهما لأن الانتخابات ليست شعارات وحملة وصندوق اقتراع، ولكنها حصيلة إصلاحات متدرجة تهم الناخبين ليصبحوا مواطنين واعين بدورهم وحقوقهم وواجباتهم، وتهم الفاعلين السياسيين ليصبحوا أحزابا تتمثل قيم الديمقراطية وتمارسها قبل أن تطالب بها، وتهم الحياة السياسية لتصبح سليمة وناضجة وخاضعة لأخلاق العمل السياسي النبيل، سواء من حيث أهدافه أو حوافزه أو وسائله. لكن كل ما سبق لا يحجب عنا مجموعة نقائص تطبع الانتخابات الأمريكية، وفي مقدمتها التأثير المتزايد لمراكز الضغط وتحكمها في دواليب الإعلام والمال والاقتصاد وقدرتها على توجيه الرأي العام في مجتمع استهلاكي يميل أعضاؤه إلى التسطيح والسرعة. والخطير أن هذه النقائص أبطلت مفعول كل تلك المزايا وأفرزت مفارقة عجيبة، مفادها أن نظاما انتخابيا جيدا لم يفرز نظاما سياسيا عادلا لأن هذا النظام السياسي مكبل وأسير تلك النقائص التي تنتعش في ظلها لوبيات ضغط مالية وسياسية، في مقدمتها كيان صهيوني غاصب وتجار سلاح يقتاتون من الحروب هنا وهناك. أليست هذه مفارقة غريبة؟ أترك لكم الإجابة.