قد لا تبدو الإجابة عن هذا السؤال مسألة سهلة، لأنها تحتاج إلى تكاثف جهود علماء النفس المرضي وعلماء السياسة وعلماء الدين الحقيقيين وعلماء الاجتماع والتاريخ لإحداث ورشة بحث علمي حقيقية في الموضوع وفي الإجابة عن السؤال، قد يربطها أحدهم بسر انحطاط العرب والمسلمين والمغاربة، وقد حاول الكثيرون الإجابة عنها في هذا السياق ، ومن هؤلاء نذكر الشيخ محمد الغزالي الذي خص هذا السؤال بمؤلف كامل، وكان قد أثاره في مؤتمر الفكر الإسلامي بالجزائر، حينما لاحظ حينها زحف الموجات الأصولية المتأسلمة إلى التسجيل في شعب الدراسات الإسلامية تاركين التخصصات العلمية الدقيقة وفارين منها على اعتبار أن التمسح بالدراسات الإسلامية يعتبر في عرف وفكر وممارسات هذه الحركات المتأسلمة وأحزابها وجمعياتها جهادا أكبر، ليصبح فيما بعد مطية للارتزاق السياسوي وأداة للصدارة واكتساب المال والوصول السهل والسريع إلى المناصب والسلطة والقرار والقوة والسيطرة والنفوذ والقيادة، وقد أكد الشيخ الغزالي على أنه لا بد لكل أن يتعمق في تخصصه العلمي، وأن تتوزع الطاقات للبحث في العلوم الدقيقة، وأن تنتج فيها وتبدع إبداعاتها لترفع ثقل هذا التعفن والتخلف والتأخر العلمي الذي عانيناه وما زلنا نعانيه في مسار البحث العلمي العالمي في العلوم الحقة، فضلا عن العلوم الإنسانية، ولعل ما شجع أكثر على هذا الكفر بالعلوم الدقيقة هو أن تسمية "العالم" و"العلامة" في العالم الإسلامي لا تنطبق إلا على الذين يشتغلون في العلوم الدينية، أما الذين يشتغلون في العلوم الدقيقة والطبية ويقدمون مجهودات جبارة للنهوض بها، وتقديم نتائجها للتنمية وللصالح العام فإن صورتهم وأسماءهم تصاب بالذوبان والخفوت والخمول والتجاهل، ويا ليت هؤلاء القافزين من العلوم الدقيقة إلى العلوم الدينية أعطوها حقها في بحثهم ، ذلك أن جهلهم بقواعدها ومنطلقاتها جعل خوضهم فيها سطحيا وكارثيا، كما أن مقاصد توغلهم فيها بعد كفرهم بالعلوم الدقيقة زادت تلك النتائج قسوة وسفاهة وتفاهة، لأن قفزهم إلى العناوين الدينية لم يكن بدافع علمي ولا دراسي أو أكاديمي، ولذلك كان حصادهم خاويا ونتاجه مهولا، وحتى لا يكون كلامنا هذا في الهواء والفضاء المعلق في الفراغ سنقدم أسماء ملموسة لتشخيص هذا الكفر وهذه الردة الكاسحة عن العلوم الدقيقة من لدن المتأسلمين القافزين إلى مخبزة القمح الديني المجاني والسهل حصاده واستهلاكه وهضمه عبر بوابة سياسوية خطابية وليس عبر بوابة علمية منهجية أكاديمية، والبداية مع السيد بنكيران الذي درس وتخصص في العلوم الفيزيائية إبان الدراسة الجامعية، ولما وجد مسلك الفيزياء حارا وحنضلا لا يمكن أن يمنح صاحبه الوجبات الضخمة والفخمة، كما أنه علم يستحيل أن يتقدم أو يتحرك عبر آليات الخطابة والنكت الحامضة –حسب قوله- كما أنها لن تمكنه من ركوب الشعبوية واللحية والشارب الأقرع قام بنكيران بالقفز إلى الجماعات المتأسلمة، ومنها إلى الحزب الكافر بالفيزياء وعلومها، والمؤمن إلى درجة الخشوع والخضوع بالمزايدات المتأسلمة على الناس، عبر اللغة الانفجارية، ومنذ ذلك الزمن الذي طلق فيه بنكيران الفيزياء وعانق التأسلم الذي وجد فيه " الكومير الوفير" لم يشده حنين إلى الفيزياء ولا إلى منهجها لأنها تثير القرف ولا توفر الترف، مادام حزب التهريب الديني يمنحه كل شيء عبر الظواهر الصوتية الانفجارية والشعبويات والنكت الحلوة والحامضة وبشكل مجاني. ومن هؤلاء الذين طلقوا تخصصاتهم العلمية وقفزوا إلى التأسلم السياسوي نذكر السيد أفتاتي الذي تخصص في الكيمياء بعد أن درسها في فرنسا فاقتحم بها كلية العلوم بوجدة، فظن حينها باحثوا الكلية أنهم سيحصدون الزرع الكثير من تخصص الكيمياء مع هذا الباحث الجديد، لكنه ما إن حصل على منصبه المالي وتسوية وضعيته، واستحوذ على التزكية الانتخابية من حزب "العدالة والتنمية"، حتى أعلن كفره بالكيمياء والبحث فيها، وربما لا يدري الكثيرون أن السيد بوليف( الوزير الحالي) كان هو الآخر قد اقتحم مدينة وجدة مدرسا في كلية الحقوق والاقتصاد ودخل حينها في حرب باردة مع أفتاتي لينتزع منه التزكية الانتخابية للحزب، لكن محاولاته باءت بالفشل، فخرج من وجدة راجعا إلى مدينة الشمال مرتدا هو الآخر عن علوم الاقتصاد ليلتف على كوميرة أعظم ويترك السيد أفتاتي غضبانا أسفا من عدم استوزاره ولا يلوي على شيء، لكن ما يثير حقا بالكفر الأفتاتي بالكيمياء حقا هو أنه وللآن يوضع اسمه كباحث مشارك في عدد من البحوث الجامعية في التخصص نفسه، وفي بعض الأطاريح وهو لم ينجز منها حرفا ولا رقما واحدا، بل لا يكاد يدري ما فيها، ولعل السيد أفتاتي قد أدرك أن الكيمياء وبحوثها لن تمنحه هذه السياحات المجانية، وهذه الوجبات والكاميرات والراديوات والتلفزات والحوارات والإشهارات والشهريات المتعددة والمتنوعة. وغير بعيد عن حزب بنكيران الذي يعج بهذه الأسماء التي كفرت بتخصصاتها العلمية وانزلقت إلى التأسلم كعتاد للسياسة والاقتصاد والأكل والشرب والنكاح، نذكر السيد الشقيري الذي خرج مؤخرا بمقالات مدحية في سيده بنكيران، وللرد حسب زعمه على السينمائيين المسيئين للرسول (ص). ومما ورد في مقالاته هذه نسبته الأزمة في أوربا إلى "اليهود المرابين" معتبرا إياهم أنهم هم المسؤولون عن هذه التهجمات ضد المسلمين، وهو كلام يثير الاستغراب من جهتين: الأولى منهجية، إذ لا ندري كيف لشخص يدعي العلمية التحدث عن اليهود بهذه العمومية، في الوقت الذي نميز فيه بين اليهودية والصهيونية، وكما يعلم وهو دارس للرياضيات أن كل تعميم خطأ في ضوابط العلوم الرياضية ، بل حتى في المنهج القرآني يعد التعميم زلة منهي عنها ، مما يبين عدم إدراكه للمنهج القرآني وكيفية معالجته لهذه الأمور، ذلك أن النص القرآني نفسه لم يعمم في حديثه عن بعض اليهود المنحرفين في قوله تعالى:"أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنو إسرائيل "، وكان على السيد الشقيري الذي يقتحم البوابة الدينية جهلا بعلومها، أن يراجع المراجع والمصادر في هذا الشأن بالعودة لتفسير القرطبي وغيره للنظر في هذا التخصيص القرآني الذي خصه بعلماء بني إسرائيل ولم يشمل به اليهود كافة، وأن يعود لقراءة عاصم الجحدري كما اعتمد في التفسير نفسه ما اعتمده الفراء وصولا إلى التخريج اللغوي الذي اعتمده عثمان بن جني على مذهب سيد النحاة سيبويه، ليعلم السيد الشقيري أن الارتداد عن العلوم الرياضية وولوج مجال الالتقاط الديني بدون معرفة دينية لن يفيده شيئا، بل على العكس سيفضح التقاطيته، ولو خجل الشقيري ما عمم هذا الحكم على كافة اليهود، لأنه حينما كان مريضا بقلبه في مونبولييه بفرنسا سلم قلبه إلى الطبيب اليهودي البروفيسور " تيفنان" ليجري له عملية جراحية معقدة أعادت له الحياة، ما كان له أن يجريها في مكان آخر، ففرح حينها فرحا شديدا إلى درجة أنه كتب إهداء أطروحته للبروفيسور" تيفنان"، لكن بعد عودته وانضمامه لفيالق التهريب الديني كفر بكل شيء، كفر بالعلوم الرياضية، لأنها لا توفر له لقمة سائغة ولا فاكهة يانعة وسهلة كما يقدمها له التهريب الديني، وكفر باليهودي الذي أعاد له الحياة عبر جراحة قلبه، وهذه الظاهرة تتكرر مع زميلهم الخلفي-الوزير- وهو صاحب إجازة في الفيزياء، ولم نشهد له مقالا علميا واحدا في التخصص، وبما أن الفيزياء لم تتح له باب التدريب المجاني في أمريكا، فقد اختار هو الآخر الانزلاق إلى التهريب الديني السياسوي. كما ترك العثماني- الوزير- وهجر البحث في تخصصه الذي هو السيكولوجيا ليقفز إلى التهريب الديني والدعوة السياسوية، وإنه من المخجل علميا أن يحاور العثماني المرتد عن السيكولوجيا ويقف إلى جانب السيدة " هيلاري كلينتون" التي هي خريجة العلوم السياسية من جامعة هارفارد، هذا المنهج يذكرنا بحادثة في التاريخ المعاصر المغاربي وذلك حينما أرسل الجنرال ديغول أول سفير له إلى الجزائر، وكان إطارا إداريا وسياسيا من خريجي المدرسة الإدارية للعلوم السياسية، وكان بالمقابل ينتظر السفير الجزائري في فرنسا، ولما بعث الرئيس الجزائري سفيره كان أحد المتواضعين، الفارغين، ولما سأل ديغول عن هذه المفارقة بحرقة أجابه السفير الجزائري:" السياسة عفسات"(أي زطمات بالدارجة) ومنطق- الزطمات- هذا هو نفسه الذي يطبقه هذا المدعو " النهاري" الذي لم يسبق له أن درس العلوم الدينية( بعد إجازته في الاقتصاد، لكن جعجعته وركوبه المنابر الدينية هو الذي مكنه من السياحة في أمريكا مجانا، فهل ذلك كان سيتوفر له إن واصل بحثه في العلوم الاقتصادية ولم يقتحم بخشونته وعنفه الصوتي والانفجاري مجال الدين ومنابره وولائمه وأعراسه وجنائزه لينال منها غنائمه بسهولة ومجانية، وما يزيد الأمر غرابة واستهجانا هو حينما نقرأ لمرتد الرياضيات الشقيري يصف المدعو " نهاري" بقوله:" كما قال الداعية العالم في المنطقة الشرقية" هكذا أصبح مرتد العلوم الرياضية والجاهل لعلوم الدين يشهد لمرتد الاقتصاد بالأعلمية الفقهية ويمنحه ألقاب" الداعية" و"العالم"، والتي أصبحت وضعيتها مخجلة وتثير الغثيان، وهذه الصورة نفسها تتكرر مع المدعو " محمد خطابي" الذي هاجر من الدارالبيضاء إلى كندا بدافع دراسة واكتساب العلوم الرياضية، لكن كسله دفعه للارتداد عن الرياضيات هو الآخر لمعانقة وجبة سهلة وباردة عبر الدين بعد نيله الجنسية الكندية بدءا بأمريكا ومرورا بهولندا، وصولا إلى مونبيلييه بفرنسا حيث أصبح موظفا إماما مأجورا لعدة جمعيات هناك كمربي ديني معلنا القطيعة النهائية مع الرياضيات التي لن تمنحه كل هذه المكاسب والامتيازات مجانا، فإذا ما قمنا بإحصاء سنجد أن ظاهرة الكفر بالعلوم الدقيقة والمتخصصة وهجرتها والهروب منها في اتجاه الارتزاق بالدين والالتقاط السياسوي سنجد أنها طاغية وكاسحة وأصبحت ظاهرة لا تخفيها خافية، وقطوفها دانية لمحترفيها إلى درجة قد أصبحت دروسا عملية ومسالك تطبيقية نموذجية ومباشرة لشبابنا ولطلبتنا، فهم حينما يرون أساتذتهم هؤلاء يكفرون بتخصصاتهم العلمية الدقيقة ويهجرونها ليعانقوا فتات الدين ومرقه ولحومه وصحونه، ليجعلوا منه رأسمالهم المعيشي، ومسلكهم السياسوي ومطية لجدالهم الخطابي وتفجيرهم اللغوي، فماذا بقي لهؤلاء الطلبة أن يفعلوا؟ بل إنهم يرون أنه لا داعي بأن يزعجوا أنفسهم ويرهقوا عقولهم ويشحذوا هممهم وأذهانهم وبراهينهم في هذه العلوم الدقيقة التي لن تفيدهم من زاوية الارتزاق المجاني شيئا أمام سطوة قياداتهم باسم الدين، وارتدادهم عن تخصصاتهم العلمية الدقيقة والحقة، ولعل ذلك ما يفسر لنا جزءا من ظاهرة التأسلم والتخونج عند كثير من الشباب في سن مبكرة، لكن ما ينبغي أن يعلمه هؤلاء هو أنهم يهينون الدين وعلومه الأصيلة وهم يلجونه ويقتحمونه بنعالهم وبجهالتهم الجهلاء وبضلالتهم العمياء وبأطماعهم النكراء، لأن العلوم الدينية ليست سهلة كما يظنون، بل إنها تحتاج لمن يلجها أن يكون مسلحا بعلوم شتى وبعتاد منهجي علمي دقيق، ولذلك تلاحظون أن هؤلاء المتسللين طمعا وكذبا إلى حقول الدين ظلوا يجترون العبارات الفارغة من المضامين ولم يقدموا شيئا من الكتابة الاجتهادية العلمية طوال مسارهم الاجتراري شيئا لا في علوم الدين ولا في علوم الدنيا. ولا بد من الإقرار بأن الله تعالى حقا قد جعل الإسلام وكتابه القرآني من حيث الاعتقاد والإيمان والذكر سهلا وميسرا لكل من أراد أن يعانقه ، مصداقا لقوله تعالى: " ولقد يسرنا هذا القرآن للذكر فهل من مذكر." لكن علوم الدين والقرآن والفقه والتشريع والسنة والتفسير واجتهاداته ودراساته وأبوابه ومسالكه هي صعبة ودقيقة ومحكمة، فليست سهلة ولا ميسرة حتى يتاجر بها ويجترها من شاء من أنصاف المتعلمين، ولا أن يمارس بها السياسة هؤلاء الالتقاطيون والمرتزقة والشهوانيون ممن يعددون النساء مثنى وثلاث ورباع، لكنهم يتظاهرون بالقداسة الفارغة من المضامين( استغربت هنا لظاهرة التعدد النسائي لدى الكثير من هؤلاء المتأسلمين مما يدل على شهوانيتهم المتظاهرة بالقداسة وقد شكل شيخهم القرضاوي نموذجا مدويا حينما تزوج الأمازيغية أسماء بن قادة شابة وهو شيخ هرم وطلقها، وهذا موضوع آخر سنعود له بتفصيل ). وما يدل على أن العلوم الإسلامية الحقة والأصيلة دقيقة ومحكمة كما شاهدناها عند علمائنا المغاربيين القرويين والجزائريين والزيتونيين والأزهريين في مصنفاتهم وفي دروسهم الدقيقة التي لا تجد فيها الكلام الفارغ ولا الشحوم الزائدة من السياسويات المنخورة كما هي في كتابات المتأسلمين، ما يدل على ذلك ويبرهن عليه هو أن هؤلاء الخريجين والدكاترة من شعب الدراسات الإسلامية وكليات الشريعة –مع استثناء جهابذتهم- ظلوا أزيد من ثلاثين سنة وهم يجترون ويكررون كلاما مسلوخا من مصادر معلومة، لكنهم لم ينتجوا ولو كتابا واحدا في علوم الدين الدقيقة، لا من أصول الدين وعلم الكلام، ولا من أصول الفقه وقواعده، ولا من علوم القرآن وتفسيره، ولا من علم الحديث وفروعه- رغم أن بعضهم يتسمى بدون خجل بالعالم والعلامة(مثال بنحمزة)- وحتى إن تشجع بعضهم في الكتابة فستجد له كراسات من الوعظ والإرشاد التي لا تمت بصلة لا لعلوم الدين ولا لعلوم الدنيا، وهذا ما يضيف فضيحة أخرى مفادها أن مشكلة المهربين الدينيين هي ليست مع العلوم الدقيقة والتجريبية فحسب، بل هي مع العلوم الدينية الأصيلة أيضا، فماذا ننتظر من هؤلاء إذن أن يقدموا للحركة العلمية وللتقدم العلمي والاقتصادي وللجامعة المغربية؟