منذ اندلاع ثورة الياسمين في تونس والتي انتهت بسقوط نظام الرئيس بنعلي، والتيار الجهادي ، يسعى للعب أدوارا داخل المجتمع والدولة التونسيين . وقد استفاد هذا التيار من أجواء الحرية التي فتحتها الاحتجاجات الشعبية ، حيث حاول المتشددون منه فرض تصورهم وقناعتهم على الدولة والمجتمع معا . فكانت البداية بالهجوم على عميد كلية منوبة الذي رفض تسجيل طالبات منقبات ، ثم منعوا الدراسة بها على مدى ثلاثة شهور توّجوها بإنزال العلم التونسي ووضعوا مكانه علم تنظيم القاعدة ، في إشارة إلى الولاء والتبعية له . هكذا بدأ تغول التيار الجهادي ، خصوصا بعد أن عزز تحكمه فيما يزيد عن 600 مسجد بطرد الأئمة الرسميين وتنصيب مكانهم أئمة ينشرون عقائده ويدعون إلى ما يدعو إليه ، فازداد سطوة وعنفا عطلا كل قرارات وبلاغات وزارة الشؤون الدينية. ولم يتوقف عنف هذا التيار عند هذا الحد ،بل ازداد شراسة حيث أقدمت عناصر التيار يوم 25 مايو 2012 على حرق مقر للشرطة في منطقة جندوبة الواقعة شمالي العاصمة تونس.كما هاجمت مجموعات من الشبان المحسوبين على نفس التيار مركزا أمنيا وفندقا سياحيا بنفس المدينة ، وأقدموا أيضا على إحراق عددا من المحلات التجارية والحانات والمطاعم التي تقدم مشروبات كحولية. وكان الأجدر بالحكومة التونسية أن تئد الفتنة في مهدها ولا تتغاضى الطرف عنها إلى أن ازداد تغول التيار المتشدد وبات له زعيم يعرف ب"أبو عياض" الذي لم يتورع عن تكفير الرئيس المرزوقي نفسه حين وصفه بأنه "مرتد". كما سبق أن أصدر هذا التيار المتشدد بيانا توعد فيه الدولة وفئات من المجتمع عقب عرض لوحات فنية اعتبرها مسيئة للدين الإسلامي . فوقع فعلا الاعتداء أصدرت على إثره وزارة الثقافة بيانا تدين فيه إقدام عناصر متشددة محسوبة على التيار الجهادي ٬ بالاعتداءات المتكررة على التظاهرات الثقافية في مناطق مختلفة من تونس . ورغم كل العنف الذي يمارسه المتطرفون "أنصار الشريعة" ضد المجتمع والدولة ، ظلت حكومة النهضة الإسلامية تستجدي الحوار وترفض المقاربة الأمنية . ففي تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء ، راهن لطفي زيتون٬ الوزير المستشار السياسي لدى رئيس الحكومة ٬ وهو من قيادات حركة النهضة ، على أهمية المقاربة السياسية القانونية التي تعتمدها الحكومة في التعامل مع التنظيمات المتطرفة بغاية "جرهم إلى مربع الشرعية"٬ وذلك من خلال فتح حوار معهم من قبل العلماء والمفكرين وأيضا من قبل السياسيين قصد تشجيعهم على الانخراط في العمل السياسي أو الجمعوي .كما أن التحذيرات التي أطلقها وزير الداخلية٬ علي العريض٬ بأن " التصادم مع المجموعات السلفية بات أمرا محتوما"، لم يكن لها أي تأثير على التنظيمات المتطرفة التي كانت تعي جيدا أن التحذيرات إياها إنما بغاية الاستهلاك الخارجي ، وأن الحكومة التونسية تتجنب تضييق الخناق على السلفيين حتى لا تنفّر قواعدها الانتخابية والمتعاطفة. إذ في ظل عجز حكومات ما بات يعرف "بالربيع العربي" عن توفير الوظائف والأمن للمواطنين ، فإنها تحاول إرضاء قواعدها التنظيمية والسياسية بالانحياز لصالحهم في الحروب الثقافية والهوياتية ، فتغض الطرف عن عنفهم ضد المواطنين والممتلكات. لكن الأحداث الأخيرة التي اندلعت بسبب الفيلم المسيء للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، جعلت حكومة تونس تدرك أبعادها الخطيرة وانعكاساتها السلبية على مستقبل الدولة نفسها التي هي بحاجة إلى دعم سياسي واقتصادي وعسكري . إذ لم يعد الأمر يتعلق بالصراع الأخلاقي أو الهوياتي ، بقدر ما بات يمس صورة تونس الخارجية ، من جهة ، كدولة عاجزة عن حماية الدبلوماسيين ، جعلت وزارة الخارجية الأميركية تأمر برحيل 128 دبلوماسيا من تونس ؛ بينما ألغت أنجيلا ميركل ، المستشارة الألمانية ، زيارتها لتونس بسبب انعدام الأمن . أما ما تخسره تونس من الناحية الثانية فيمس قيمتها كوجهة سياحية واستثمارية حيث اضطر كثير من المستثمرين الأجانب إلى حزم حقائبهم وترحيل مشاريعهم . الأمر الذي اضطر الناشطين في قطاع سياحة المؤتمرات إلى إطلاق صيحة فزع واستغاثة جراء إلغاء الحجوزات. إن هذه التطورات هي التي جعلت راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التي تقود الحكومة، ينتفض معتبرا هذه العناصر المتطرفة أشد خطرا على تونس ؛ ودعا الحكومة في مقابلة حصرية لوكالة فرانس برس الى "تشديد القبضة" الأمنية و"التصدي لهم بالوسائل القانونية". وقال الغنوشي إن "هؤلاء لا يمثلون خطرا على النهضة فقط ، بل على الحريات العامة في البلاد وعلى أمنها ، لذلك ينبغي للجميع التصدي لهم بالوسائل القانونية (...) وتشديد القبضة والإلحاح على النظام لأنه وقع اخلاله ووقع استخدام سيئ للحرية من طرف مجموعات لا تؤمن بالحرية". لقد أدركت حكومة تونس ،أخيرا، أهمية المقاربة الأمنية في ردع المتطرفين . لهذا سارع الغنوشي إلى إعلان دعمه للتدخل الأمني العنيف ضد مهاجمي السفارة الأمريكية والذي اسفر عن مقتل أربعة متظاهرين كالتالي : "لما تجاوزوا القانون وأرادوا ان يهددوا صورة تونس ومصالحها وقوانينها تصدت لهم الدولة وقتلت واعتقلت منهم". وشدد على ضرورة التوفيق بين "ضرورات الحرية وضرورات النظام" وذلك عبر إعمال القانون ضد الممارسات التي لا تلتزم به ؛ لأن هؤلاء ، كما قال الغنوشي، " ليسوا فوق القانون والقانون يسري عليهم كما يسري على غيرهم. لسنا في حرب مع أفكار او تنظيمات نحن في حرب مع من يتجاوز القانون سواء كان اسلاميا او علمانيا". ولعل أقوى مبرر حرض الغنوشي على دعم المقاربة الأمنية كون التنظيمات المتطرفة "استفادت من الثورة التي أطلقت سراحهم فاستفادوا من الحرية لكنهم تجاوزوا حدود القانون، ووجهوا ضربة مؤلمة للثورة وأعطوا رسالة تقول إن الثورة معناها فوضى وعنف واعتداء على الدبلوماسيين". إن تونس اليوم تعيش حالة قلق رهيب بسبب تغول التيار السلفي ، فحسب استطلاع أنجزه المعهد التونسي للدراسات وصدرت نتائجه الأحد 30 سبتمبر المنصرم ، فإن سبعة وثمانين بالمائة من التونسيين قلقون إزاء مستقبل البلاد إن لم تقم الحكومة بتطويق الجماعات المتشددة. وقالوا إن الحياة السياسية التونسية ستخضع لسيطرة السلفيين في حالة عدم احتواء أعمالهم العنيفة.