الدستور الجديد أكد على وجوب إصدار القوانين التنظيمية في حدود نهاية الولاية التشريعية الأولى، وهو ما يدفعنا إلى التأكيد على أن ورش الإصلاح القانوني لا تتعامل معه الحكومة الحالية بنفس الدرجة من الأهمية والحساسية التي تهم مجالات لم يفصل فيها المُشرِّع الدستوري، ومثل هذا التباطؤ في التعامل مع أمر القوانين التنظيمية من طرف الحكومة الحالية هو ما يمكن أن يتسبب في توترات سياسية، قد تؤدي إلى نقاشات عقيمة، قد تعصف بكل الجهود المبذولة على مستوى الإصلاحات الدستورية والسياسية. خاصة وأن القوانين التنظيمية عادة ما تهدف إلى إضفاء وضمان خاصية الاستقرار والثبات لمجموعة من المقتضيات الواردة في الدستور، لأن القوانين التنظيمية هي أصلا محددة على سبيل الحصر في الدستور ومنبثقة عنه، وإقرارها وإصدارها وتعديلها يتطلب إجراءات خاصة، أشد من تلك التي يتطلبها إصدار القوانين العادية. كما أنه من خصائص القوانين التنظيمية كونها جزء لا يتجزأ من الكتلة الدستورية التي تحتكم إليها المحكمة الدستورية في مطابقة القوانين والممارسات مع أحكام الدستور. فالظروف التي يجتازها المغرب اليوم، أصبحت تتطلب أجرأة مقتضيات هذا الدستور وتفعيلها، وهو الأمر المرتبط ارتباطا قويا بإصدار القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور الجديد. خاصة وأنه جاء بالعديد من المستجدات الإيجابية بالنسبة للساحة السياسية المغربية، وعملية أجرأة مضامين هذا الدستور وتفعيله هي على صلة بمجموعة كبيرة من النصوص التنظيمية، التي تأخرت الحكومة الحالية في إخراجها إلى حيز الوجود، ويتبين أنها لا زالت في تعثر مستمر من حيث السهر على العديد من المداخل التي ينبغي أن تواكب أو تعقب عملية الأجرأة هاته. لا مناص للحكومة من السهر على التحضير لاعتماد المقاربة التشاركية عبر فتح نقاشات عمومية موسعة، وتوفير الشروط والظروف المناسبة للانتقال من منطق التوافق إلى المنطق الديموقراطي، وضرورة تدبير الإعلام العمومي بشكل ديموقراطي حرصا على ضمان حق الجميع فيه أغلبية ومعارضة، والإسراع بإخراج القوانين التنظيمية والقوانين العادية، والحرص على أن تكون مطبوعة بنفس الروح والفلسفة التي انطبع بها الدستور الجديد. فبعد رهان مكونات المشهد السياسي وفاعليه على التسريع بوتيرة استكمال كل العمليات المرتبطة بأجندة التعديل الدستوري الذي جرى منذ ما يزيد عن السنة، وما يستتبعه من إصدار للقوانين التنظيمية والعادية، أصبح الكل اليوم أكثر قلقا على الوضع، بالنظر إلى الصعوبات المرتبطة بطبيعة وشكل المهام الملقاة على عاتق الحكومة في هذه المجالات، بحيث أدرك الجميع أنه لم يسبق أن كان البرنامج التشريعي لحكومة من الحكومات المغربية الماضية مكثفا كما هو عليه الحال مع الحكومة الحالية. خاصة وأن أمور المجتمع برمته غير متوقفة فقط على مشاريع القوانين التنظيمية هاته، بل هي على قدر كبير من الارتباط بالعديد من الاستحقاقات السياسية والانتخابية ذات الصلة بالإصلاح السياسي المنشود، استحقاقات تهم المؤسسات المنتخبة محليا وإقليما وجهويا ووطنيا، وهي استحقاقات على قدر كبير من الأهمية بالرغم من أنها ستبقى مرهونة بإحراز أي تقدم على مستوى إصدار القوانين التنظيمية. فالقوانين التنظيمية الكثيرة التي تتطلبها عملية أجرأة الدستور الجديد، والمساطر التشريعية (مسطرة بلورة وصياغة المشاريع، مسطرة العرض والبث داخل البرلمان، مسطرة المراقبة القبلية من قبل المحكمة الدستورية، مسطرة صدور الأمر بالتنفيذ) وما تتطلبه من سقف زمني ومجهود فكري وقانوني، كل ذلك سيضع المهمة التشريعية على رأس أولويات الحكومة الحالية، وستجعلها من حيث المبدأ تنكب على وضع لمساتها على أجندتها التشريعية، وهو ما لم يتضح لحد الساعة. كان على الحكومة الحالية أن تعكف في هذه السنة على أن تشكل القوانين التنظيمية محور اشتغالها، وألا يكون لها أي انصراف عن مواعيد الحسم فيها سوى الانتهاء من إقرار قانون المالية للسنة الحالية، إذ كان المنتظر أن تصادق الحكومة على منهجية عمل تمكنها من وضع القوانين التنظيمية على رأس أولوياتها، خاصة وأنها قوانين أساسية تهم كل مجالات الحياة؛ من تنوع لغوي وثقافي، وحرية التجمع والتظاهرالسلمي وتأسيس الجمعيات والأحزاب والنقابات، والديمقراطية التشاركية للمواطنات والمواطنين والمجتمع المدني، وحقوق النساء، وقواعد سير مجلس الوصاية، وتنظيم المؤسسة التشريعية، وتنظيم وتسيير الحكومة، وتنظيم السلطة القضائية، وقواعد تنظيم المحكمة الدستورية والدفع بعدم دستورية القوانين، والجهات والعمالات والأقاليم والجماعات. فكيف يمكن الآن مباشرة استكمال الإصلاح السياسي عبر تنظيم ما تبقى من استحقاقات انتخابية؟ علما بأن القانون في حياة المجتمعات يكتسي أهمية بالغة ويتطلب مجهودا مضاعفا، وقد كان على الحكومة الحالية أن تكون جاهزة على مستوى الحسم في لائحة مشاريع القوانين التنظيمية التي ستتقدم بها خلال الولاية التشريعية الجارية، لا أن تظل في حيرة من أمرها حتى فيما يتعلق بالقانون التنظيمي الخاص بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة ذاتها. إن أبرز ما يمكن الوقوف عنده اليوم، هو أن العمر القصير للحكومة الحالية، الذي لم يتجاوز بعد السنة، لا يبعث على التفاؤل، وأن العديد من المحللين بدأوا يرون بأن الأداء السياسي للحكومة يدل على أن الدستور يتم اليوم تأويله بطرق غير ديمقراطية. بل والكثير بدأ يفقد الثقة في هذه الحكومة وفي قدرتها على الالتزام بخيار التحول الديمقراطي في ظل الاستقرار، وهو ما يسير في اتجاه اعتراف الحزب الأغلبي بأن موقع التدبير الحكومي هو أعقد بكثير مما كان يتصوره وهو في موقع المعارضة. وعلى باقي مكونات الأغلبية الحكومية أن تدرك خطورة الوضع، الذي تساهم في المزيد من تعقيده، وتعي بأن جرعات الإحباط الزائدة التي تمارسها اليوم تعد مقدمة للانفجار الاجتماعي. ومرد هذا الأمر في اعتقادنا إلى أن معرفة الواقع تعد شرطا لإمكان تغييره، لذلك فإن هذه المؤشرات الدالة تفيد بأن الحزب الأغلبي بعيد عن معرفة الواقع، طالما لم يبتعد عن منحى تديين السياسة.