على هامش مؤتمر اتحاد الكتاب الثامن عشر هدأ المؤتمر، هدأت زمجراته، وتوعداته، وعواصفه ورعوده، وعادت الحيطان إلى سالف عهدها، عادت إلى هدوئها المعتاد، وجوها المألوف، والأركان والزوايا والأروقة، والأبهاء والقاعات، والغرف، إلى تمشيط سوالفها، وتصفيف مفارقها، وتلويب غدائرها، وارتداء زاهي ألوانها، والإقبال بالزينة كلها على الزوار والزبناء، والرواد، رواد فندق "أوسكار"، المركون في شارع الحسن الثاني، والذي تحولت أدراجه وسلالمه، ومصاعده، وقاعته التي تشرف من حالق على أضواء الرباط الغامزة و المرتعشة، تحولت إلى حلبة صراخ وزعيق وتَبَارٍ حقيقي في رفع العقائر بالصياح، الهائج والمهتاج كما لو كنا في "كوريدا"، لولا ألطاف الباري، وألطاف الخلق الساري، والتدخل الحكيم الهاديء، لا الأرعن الناري. ثمة ما يدفع إلى القول بأن منظومة القيم النبيلة والرفيعة لم تنغرس، وتغلغل كفاية فينا، وما يقود إلى القول بأن الثقافة باعتبارها سلوكا وممارسة، تلون كليهما بالخلق والإبداع، والدماثة، والإنصات الوازن، والكلام المسؤول والمفكر فيه، لا الجامح، المنطلق من عقاله والمنفلت من إهابه وإطاره، لا تزال: (الثقافة باعتبارها كذلك) لم تأخذ طريقها إلى عقولنا ووجداننا بما يرفعنا، وبجعلنا نمج "الهيع والميع" والهرج والمرج" والزعيق حتى لا أقول: النهيق. ويزداد استغراب المرء وَدَهَشُهُ حين يعلم أن المؤتمر إياه هو مؤتمر مثقفين وأدباء، أي مؤتمر نخبة، وطبقة متنورة حداثية تقدمية ديمقراطية، همها –في الأول والأخير- السمو بالإنسان، والنهوض بالمجتمع، من خلال زرع القيم الرفيعة: قيم المحبة والخير والجمال والعدل والتسامح، وبذر –مع تعهد البذور- فضيلة الحوار والاختلاف الخلاق المرتكز على الاحترام والإنصات والتقدير، لا التسفيه والتحقير والشتم والوعيد. في المؤتمر الثامن عشر لاتحاد كتاب المغرب المنعقد يومي 7 و8 شتنبر 2012، حضر كل شيء، إلا الحوار والتسامح وفضيلة الاختلاف. والديمقراطية. حضر –كما ينبغي أن نشير : مئات المؤتمرين والمؤتمرات أعضاء الاتحاد، وغاب الثلثان. حضر دم جديد، وحماس متوثب، واندفاع محسوب أحيانا، وغير محسوب في كثير من الأحيان. دم جديد –نعم- بيد أن منسوب الأوكسجين فيه، تعرض للتلويث والتوجيه والتحكم عن قرب كما عن بعد، في مجراه، وطرق انصبابه وذهابه وإيابه... في الشرايين والأوردة. التحكم بالغمز واللمز، واللمحة والإشارة، والهاتف الخلوي.. آه من الهواتف الخلوية الذكية التي اشتعلت يومين كاملين، لحمل الدم الجديد على تسديد البوصلة، وتوجيه السهم الواحد الموحد المصطف المتراص كالبنيان، نحو تلك الجهة التي على البال، نحو الدريئة في الشمال، وشعار نشيد "الإستقلال". وفي مقابل هذا الحضور الذي شِيءَ له أن يكون كثيفا فقط في الساعات الأولى من يوم الأحد، ليحسم مستقبل منظمة عمرها نصف قرن، بعد أن يضعها في يد من رآه أحق بالرئاسة والكياسة، والسلطان والصولجان؛ غابت وجوه هي من يصنع الأدب الحقيقي، وينتج الفكر العالي.. أي هي من يشحذ الخيال البديع في أعطاف ومطارف اللغة، والهوية والخصوصية والتعدد، ويُبْرِي عوالم بديلة، ويركب خطاب الواقع والحلم، ابتغاء النهوض والتمدين والتحديث والعيش الكريم. ولأن غيابها بات يتكرر من مؤتمر إلى آخر، أصبح البحث عن تفسير لهذا الغياب، والسعي إلى معرفة مبرراته، لازمين، يكتسيان ضرورة، ربما تقدم لنا الجواب الشافي عما يحدث لمنظمتنا الثقافية من تَرَدٍّ، وتراجع، وَعَطَلٍ أحيانا، وتنابز، وانسداد آفاق. ولا شك عندي أن غياب عشرات المفكرين والأدباء عن مؤتمرات الاتحاد، يأتي من قناعة لديهم أصبحت مركوزة، تتلخص في هيمنة الخط الحزبي، والزعيق الإيديولوجي المأفون، على الثقافي النبيل والنير والمستنير. إذ شهدت المؤتمرات السابقة –كما شهد المؤتمر الأخير- صراعات محتدمة على الكراسي، وتسنم ذروة الرئاسة، مع ما يحف ويحيط بهذه الصراعات من ضغائن وإحن وسباب وكلام نَابٍ يَمُجُّه الذوق السليم، والخلق الصادق، وتستبشعه الثقافة التي هي في العمق أخلاق وجمال. هذه واحدة من الأسباب الموضوعية الوجيهة التي أبعدت، وصارت تبعد أكثر –مثقفينا الرائعين الذين يَرْبَأُون بأنفسهم حضور مثل هذه المؤتمرات التي تَفْضُلُها –للأسف الشديد- مؤتمرات الأحزاب السياسية أحيانا. وترتيبا عليه، فالمؤتمر 18 تميز – كما لا نحتاج إلى وصف وتوضيح – بالزعيق كما أسلفت، خمس أوست أعضاء – في توزيع مدروس للأدوار وإخراج مسرحي رديء هاجوا وماجوا، وهددوا بحرق الأخضر واليابس إذا لم يسر المؤتمر وفق رياحهم. كان قصاراهم –وقد نجحوا- في أن يثيروا لغط المساطر التي قلبوها مليا على كافة أوجهها، لخدمة أهداف معينة، وهم الأكثر عددا والأوفر نفرا. وعلى أهمية مداخلات بعض الكاتبات والكتاب التي حاولت أن تضع القطار على السكة، وتزيح العربة من أمام الحصان، وتطرح بالحجة والبيان، أسباب أزمة الاتحاد، وأسباب أزمة المكتب التنفيذي السابق، وانزلاقات نائب الرئيس السابق في أمور ذكرت لعلها تنبه الغافلين، وتطلق النقاش في اتجاه المساءلة والمحاسبة والحوكمة والبناء، فإن الذين أصروا على تمرير خطتهم التي تقضي بالتصويت، ولا شيء غير التصويت على التقارير والقوارير، عملوا على التشكيك في صوابية هذا المسعى، وصدقية الآراء والأفكار، ونزاهة الطرح والمعطى. حضر السياسي بمعناه الضيق المتهافت الذميم، لا السياسي الذي يشكل جوهر الفكر في التعاطي مع الواقع بالموضوعية المطلوبة والمستحثة. حضر الحزبي المقيت بوجهه الحربائي المتلون، ولغته الخبيثة التي تدمي الروح قبل أن تدمي السمع والبصر والفؤاد. حضر الحزبي فيما غاب الثقافي تماما، وفيما غابت النبالة والنجاعة والشجاعة الأدبية، والجرأة المسؤولة في قول الحق والحقيقة، والصدع بالرأي الذي لا يخاف في الله لومة لائم. وإذا كان انتخاب الرئيس من القاعة بالإقتراع السري، شهد شدا وجذبا خلال مدة زمنية محددة، أعقبها تصويت بالأيدي، ثَبَّتَ "القانون" الجديد، وكَرَّسه، فإن ما يشد الانتباه، ويثير حرقة السؤال هو: لماذا صمت المؤتمرون عن طلب تقديم مشروع البرنامج لكل مرشح للرئاسة. هذا كان طلبي، وكان طلب العلام الذي سطره من دون تدقيق، ولا مقترحات عملية إجرائية في الزمكان، ونشره، كما نشرت كلمتي في مواقع إلكترونية، ومنابر ورقية. من بداهة الأشياء في الديمقراطيات الحديثة فما بالك بنا نحن كطبقة مثقفة، وأنتلجنسيا- أن يحتكم الرئيس / الرؤساء، إلى الرأي العام، عبر المقارعة بالبرنامج، والأفكار والطروحات. على أن يكون هذا البرنامج إجرائيا واقعيا، قابلا للتطبيق في زَمَكَان معين. غير أن الرياح الهوجاء لم تُرِدْ للسفينة أن تستقر على مائها، لقد دفعتها قدما لتصل المرفإ، قبل أن تتهددها رسالة الحقيقة، وشمس الصدق الساطعة، وتمزقها الصخرة الناتئة .. ! فهل يعلم المؤتمرون، أن الورقة الثقافية التي تعرضت للنقد، والتسفيه من أحدهم، والتي كان من المفروض أن تحلل وتناقش من أجل إغنائها إضافة وتعديلا وحذفا، تشكل خارطة طريق لاتحاد كتاب المغرب، ما دام أنها معروضة من لدن اللجنة التحضيرية وكان على المؤتمر أن يصدق عليها، كما تشكل بوصلة هادية، وفنارا منيرا في ليل الواقع الإقليمي والدولي، عبر ثوابت ومتغيرات، يكون على المكتب التنفيذي أن يُقَدِّرَ كيف يُكَيّفُها أو كيف يَتَكَيَّفُ معها بحسبان النواقص والزوائد، والطواريء والمستجدات. وهل يعلم المؤتمرون أن الرئيس زيدا أو عمرا لا يمكن أن ينهض بالإتحاد، ويُعيد إليه سابق وهجه وبريقه – أخذا بعين الاعتبار- السياق المعولم، والهويات المتعددة/المتصالحة أو المتقاتلة- ما لم يتشبع بقيم الفكر والمعرفة، وما لم يتشرب الإبداع والأدب والفن، وما لم يقض مضجعه الوضع الشاحب والممتقع، إن لم أقل المائت لاتحاد كتاب المغرب. أما بناء العلاقات مع المنظمات والمؤسسات العمومية، والوزارات والوزراء، وتدبير الشأن الثقافي إداريا، فهما عملان تلقائيان ينبثقان من الممارسة والتواصل، و العمل الجمعي والجماعي، وتحديد المسؤوليات، وتفويض شأن بعينه إلى عضو بعينه إذا كان مجال اهتمامه ذلك الشأن تحديدا. وهو ما يدمغ الرئاسة بالديمقراطية والتنسيق، والتكامل والتضامن. ختاما أقول : رأفة بالثقافة والثقافي، رأفة بالضمير الحي، والفكر الباني الخلاق، والخطاب الديمقراطي التعددي المتسامح، والاختلاف الغني.. رأفة بالمثقفين الشرفاء الذين حضروا المؤتمر، وانفضوا وهم منطوون على حرائق وغصص وخوف على الاتحاد من المصير المجهول الذي يتهدده، والهاوية فاغرة الفاه التي يحث الخطى نحوها. وللمثقفين "الشفويين" الذين لا مشروع لهم إبداعيا أو فكريا ما خلا الزعيق، ونفخ الأوداج، والسعال بين كلمة وأخرى، أقول: دعوا الأدب يتنفس هواء نقيا، والأدباء يجتمعون على الحق والخير والجمال، لا على "الكولسة" و"التجييش" و"التحشيد" و"الاحتراب". لقد انكشف الغطاء، فابحثوا عن قِدْرٍ أخرى تَسَعُكُمْ لتختبئوا فيها. قهناك "قاع "الخابية" Le Fond de la Jarre، للشاعر عبد اللطيف اللعبي، ادخلوها بعد أن يُفْرِغَها الأديب من الحكايا والجمال. إشارات : رشحت نفسي للرئاسة وأنا أعلم أنني لن أفوز بها، لست طمّاعًا ولا مُدَّعِيًا. ما فعلته شَرَطْتُه بضرورة تنازل الرئيس الحالي عن ترشيح نفسه، إذ نحن سبب الأزمة، وَعَطَلُ الاتحاد. ولما لم يستجب، دخلت اللعبة مراهنا – وقد أخطأت – على ضمير المؤتمرين وهم كتاب وأدباء في الأول والأخير. حيث تصورت أن كلمتي / رسالتي المعممة من قِبَلِ وكالة المغرب للأبناء على المواقع الإلكترونية، والمنابر الورقية، ستفعل فعلها، ويستجاب لها، وتثير شهية البعض لمناقشتها سلبا أو إيجابا. غير أن ما حصل كان العكس تماما – فقد جَرَّتْ عَلَيَّ عداوة الكثيرين، وإشاحتهم عني في أورقة المؤتمر، والهرب من وجهي، وإغفال وجودي، فكأنني فزت بالرئاسة قبلا، أو كأن لسان حالهم يقول: لماذا تُشَوِّشُ على مرشحنا الأوحد، وزعيمنا الأمجد. نعم كان الإجراء الاقتراعي في ظاهرة ديمقراطيا، لكن في باطنه، اعتمد التحشيد الحزبي والإخواني و"الريعي". فلم يعد ممكنا الإنصات أو اختراق هذا البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا. اللائحة جاهزة منذ أمد، وبعض الاتحاديين (الاتحاد الاشتراكي) مجندون –بالوقاحة كلها- يرغون ويزبدون خوفا من سقوط الحليف، وحذرا من أن تضيع الغنيمة، ويفوت عليهم الشرفاء الكعكة الكبيرة، والشاطيء الأصيلي البهيج. لن أعلن موت الاتحاد، قد يتشافى ويتعافى، ويعود إلى ما نتوخاه، لكني أقول: إن الثقافة "هي ما يبقى. أدبك وعلمك وفكرك هو ملكوتك الرحيب والوسيع، وقلمك هو حياتك الترية الغنية المتعددة التي تقهر المحو والموت والنسيان. 2-عجبا لحزب قام على التقدم ومناهضة الريع والفساد، وجمعيات السهول والجبال والبحار –كما كنا نسميها- كيف أصبح بعض مناضليه يعملون بالدسيسة والخسة والمحسوبية، وتحين فرصة اختطاف جبنة الغراب المدورة كما يقول لافونتين. 3-لنتأمل كلام الكاتبة الأمريكية سوزان كين، ونعرضه على عيار ومرآة ما دار في المؤتمر، حتى تتبين لنا حالنا كما ينبغي: "الحرية تقود إلى الفردية، والفردية تقود إلى الاستقلالية.. والاستقلالية تقود إلى السيطرة على النفس، والسيطرة على النفس تبدأ بالسيطرة على اللسان" فلنتأمل ثانية.