العدل أساس الملك ومنبع الاستقرار و سبيل الأمم لكل تقدم وازدهار، فهو الضامن للحقوق والحريات، و على دعائمه تبنى دولة الحق والقانون، وبدونه لا محل للحديث عن أي بناء ديمقراطي، فهو غاية ومقصد كل مؤمن بمبادئ الديمقراطية، لذا عنيت مختلف الشرائع والتشريعات على اصطفائه كأولى الأوليات، وأوجدت من الآليات ما يكفي لتحقيقه، فكانت المحاكمة العادلة سبيل العدل إلى التحقق، فلا عدل دون وجود محاكمة عادلة، ولا محاكمة عادلة دون وجود قضاء مستقل، فالعدل يدور وجودا وعدما مع وجود أو انتفاء معايير المحاكمة العادلة، و هذه الأخيرة لا تتأتى إلا بوجود سلطة قضائية مستقلة تدير مجرياتها و تنفرد بالبت في مآلها بمنأى عن أي تدخل أو تأثير، فكان استقلال السلطة القضائية الركن الأساس في المحاكمة العادلة على عهد الخلفاء والتابعين، فها هو الخليفة أبو جعفر المنصور يكتب إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة قائلا : " انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد"، فرد القاضي سوار بكتاب قائلا :" إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أخرجها من يده إلا ببينة "، فكان ذلك عنوانا لاستقلال القاضي في اتخاذ القرار رغم تعليمات الخليفة، فما كان من الخليفة إلا أن قال : " ملأتها والله عدلا وصار قضاتي تردني إلى الحق"، وفي الأثر الكثير من الأحداث المشابهة...، حيث كان استقلال القضاء أساس للعدل، وكان العدل أساس للملك، وعلى هدى ذلك سارت مختلف التشريعات الوضعية والمواثيق الحقوقية الدولية، التي ما فتئت تحث الدول على ضمان استقلال السلطة القضائية، باعتباره الضامن للمحاكمة العادلة، وللعدل بالمحصلة، ومن ذلك ما نص عليه البند الأول من مبادئ الأممالمتحدة بشأن استقلال القضاء، حيث جاء فيه ما يلي : (تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية و ينص عليه دستور البلد أو قوانينه، ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية.)، كما جاء في المبدأ الأول من مبادئ بنغالور للسلوك القضائي ما يلي : ( إن الاستقلال القضائي شرط مسبق لحكم القانون وضمانة أساسية لمحاكمة عادلة...)، كما نصت المادة الأولى من الميثاق العالمي للقضاة، على أن: (استقلال القاضي مبدأ لا غنى عنه لحياد القضاء واحترام القانون، ويتعين على جميع المؤسسات والسلطات سواء كانت وطنية أو دولية احترام وحماية والدفاع عن هذا الاستقلال)، كما نصت المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية على أنه : ( من حق كل فرد ... أن تكون قضيته محل نظر عادل وعلني من قبل محكمة مختصة ومستقلة وحيادية ...)، ونصت المادة 26 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، على أنه : (يتعين على الدول الأطراف في هذا الميثاق ضمان استقلال المحاكم)، فجميع هذه المواثيق الحقوقية توجب على الدول ضمان استقلال فعلي للسلطة القضائية باعتباره المسلك الوحيد لتحقيق العدل، مع الإشارة هنا إلى أن الاستقلال الفعلي للسلطة القضائية لا يتحقق إلا باستجماع ثلاث مستويات من الاستقلالية حسب ما نص عليه المبدأ الأول من مبادئ بنغالور للسلوك القضائي، والمادة 13 من الميثاق العالمي للقضاة، إذ لا استقلال فعلي للسلطة القضائية إلا بتحقق استقلال مؤسساتي، وآخر فردي، وثالث اقتصادي، فقد جاء في المبدأ الأول من مبادئ بنغالور للسلوك القضائي، ما يلي(...على القاضي أن يدعم ويكون مثلا أعلى للاستقلال القضائي في كل من ناحيتيه الفردية والمؤسساتية على حد سواء)، فيما نصت المادة 13 من الميثاق العالمي للقضاة، على أنه : ( يجب أن يحصل القاضي على الأجر الكافي لتأمين استقلاله الاقتصادي...)، ولكل مستوى من الاستقلال مقوماته. فما هي مقومات الاستقلال الفعلي للسلطة القضائية ؟ وما مدى حضورها في واقع السلطة القضائية ببلادنا ؟ أولا: في بعض مقومات الاستقلال المؤسساتي للسلطة القضائية. إن تحقيق الاستقلال المؤسساتي الفعلي للسلطة القضائية رهين بتحقيق مجموعة من المتطلبات، التي نصت عليها مختلف المواثيق الحقوقية الدولية، لكن ونظرا لكثرتها، سوف نحاول الوقوف عند بعضها فقط، ومقارنتها مع واقع السلطة القضائية ببلادنا لنتأكد مما إذا كنا بالفعل نسعى وراء تحقيق هذا الإستقلال المنشود وفق هذه المتطلبات أم لا، ولنبدأ برصد أهمها كما حددتها لجنة الأممالمتحدة المعنية بحقوق الإنسان : 1 : اعتبرت اللجنة الأممية لحقوق الإنسان في ملاحظاتها الختامية بشأن رومانيا في الفقرة 10 ما يلي : (The Committee is deeply concerned about threats to the independence of the judiciary through interference by the executive, and the powers exercised by the Ministry of Justice in regard to judicial matters, including the appeal process, and its powers of inspection of the courts The Committee urges the State party to establish a clear demarcation between the competence of the executive and judicial bodies) Concluding Observations of the Human Rights Committee : Romania. 07/28/1999. CCPR/C/79/Add.111. (Concluding Observations/Comments) و الواضح من خلال هذه الملاحظة أن اللجنة الأممية لحقوق الإنسان اعتبرت أن الصلاحيات التي تمارسها وزارة العدل فيما يتعلق بالأمور القضائية، بما في ذلك عملية استئناف المقررات القضائية، وسلطاتها المرتبطة بتفتيش المحاكم، يشكل تهديدا لاستقلال السلطة القضائية، لذلك حثت اللجنة الأممية، الدولة الطرف على وضع تمييز واضح بين اختصاص الأجهزة التنفيذية والقضائية. وإذا ما حاولنا قراءة واقع السلطة القضائية ببلادنا على ضوء هذه الملاحظة، سنجد بأن واقعنا يتعارض مع هذا المتطلب، فالتدخل في الأعمال ذات الصبغة القضائية من قبل السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل ببلادنا قائم بحدة، وخير دليل على ذلك الأوامر التي وجهها السيد وزير العدل، حسب ما تناقلته مختلف وسائل الإعلام، لقضاة النيابة العامة بابتدائية الناظور، بالطعن بالاستئناف في قرارات الاعتقال الصادرة عن السيد قاضي التحقيق بنفس المحكمة في قضية عناصر إدارة الجمارك، والحال أن لجنة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان تعتبر مثل هذا التدخل في الأمور القضائية تهديدا لاستقلال السلطة القضائية، وما قيل عن التدخل في المسائل القضائية عن طريق الطعن يقال عن مسألة تفتيش المحاكم. 2 : اعتبرت اللجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان في ملاحظاتها الختامية بشأن جورجيا في الفقرة 12 ما يلي : ( The Committee expresses its concern at the existence of factors which have an adverse effect on the independence of the judiciary, such as delays in the payment of salaries and the lack of adequate security of tenure for judges), Concluding observations on the second periodic report of Georgia: Georgia. 04/19/2002. CCPR/CO/74/GEO. (Concluding Observations/Comments) فمن خلال هذه الملاحظة أكدت اللجنة الأممية لحقوق الإنسان أن التأخر في دفع رواتب السادة القضاة وعدم تأمين سلامتهم له تأثير سلبي على استقلال السلطة القضائية، والغاية واضحة، فاستقلال السلطة القضائية كل لا يتجزأ فلا يكفي مجرد التغني بذلك نظريا، بل لابد من تفعيل الفصل التام بينها وبين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وعدم تمكين السلطتين المذكورتين من الآليات التي من شأنها التأثير على استقلال السلطة القضائية بما في ذلك مسألة الأجور. وعودة إلى الواقع المغربي على ضوء هذه الملاحظة، سنجد بأنه يتعارض تماما مع هذا المتطلب، فلا زالت تجربة الفوج 36 من القضاة شاخصة أمام الأعين حيث حرم قضاة الفوج 36 من رواتبهم لأشهر عدة تركوا خلالها عرضة للمعاناة، والحال أن ملاحظة اللجنة الأممية لحقوق الإنسان تعتبر التأخر في دفع رواتب السادة القضاة، أحد العوامل المؤثرة سلبا في استقلال السلطة القضائية، أما الحديث عن تأمين سلامتنا فهي رفاهية لا نطمع فيها في ظل حرماننا من أبسط الضروريات. 3 : أما على المستوى الإقليمي فقد اعتبرت لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان من خلال تقريرها المنجز عن حالة حقوق الإنسان في المكسيك ما يلي : (L'absence d'autonomie structurelle du ministère public par rapport à l'exécutif a incité la Commission interaméricaine des droits de l'homme à recom¬mander que le gouvernement mexicain examine la situation et renforce l'autonomie et l'indépendance de ce ministère) oea/ser.l/v/ii.100 فمن خلال هذا التقرير يتضح أن لجنة حقوق الإنسان الأمريكية قد أشارت إلى أن مكتب المدعي العام يجب أن يكون مستقلا عن السلطة التنفيذية، وأوصت الحكومة المكسيكية بتعزيز استقلال جهاز النيابة العامة، لما في تبعيتها للسلطة التنفيذية من تأثير على استقلال السلطة القضائية. ويبدو أن واقع السلطة القضائية ببلادنا، ليس أفضل حالا منه في المكسيك، حيث يظل السيد وزير العدل والحريات رئيسا لجهاز النيابة العامة بحكم الواقع لا القانون، رغم تنصيص المادة 107 من الدستور على كون السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، مع العلم أن مكونات السلطة القضائية هم قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة، فقد جاء في المادة الأولى من النظام الأساسي لرجال القضاء ما يلي : ( يؤلف السلك القضائي بالمملكة من هيئة واحدة تشمل قضاة الأحكام والنيابة العامة...)، و رغم ذلك لازالت السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل والحريات ببلادنا متشبثة بترؤسها لجهاز قضاء النيابة العامة، مستغلة في ذلك عدم ملائمة قانون المسطرة الجنائية، للجديد الذي حمله الدستور حين نص على استقلال السلطة القضائية بجميع مكوناتها، والحال أنه طبقا لقاعدة تراتبية القوانين لا يمكن للنص العادي أن يسبق على النص الدستوري في حال التعارض، فالمادة 107 من الدستور تلغي بشكل ضمني صلاحية السيد وزير العدل في ترؤس جهاز قضاء النيابة العامة، وبالتالي يعدم سنده القانوني في ذلك، ويبقى ترؤسه هيمنة واقعية أكثر منه اختصاص قانوني. هذا ونشير في الأخير إلى أن مختلف المواثيق الحقوقية الدولية نصت بشكل واضح على الاستقلال الكلي للسلطة القضائية دون تجزيء، ذلك أنها، لم تحصر هذا الاستقلال في قضاة الحكم، وإنما استخدمت عبارة المحكمة المستقلة، وهكذا نجد أن المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية ينص على أنه : ( من حق كل فرد...أن تكون قضيته محل نظر عادل وعلني من قبل محكمة مستقلة ...)، كما نصت المادة 26 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب على أنه : (يتعين على الدول الأطراف في هذا الميثاق ضمان استقلال المحاكم ...)، كما نص المبدأ 1-1 من مبادئ مجلس بيرغ بشأن استقلال السلطة القضائية، على أنه : ( يمارس كل من القضاة والمحكمة مهامهم بدون تدخل أو تأثير سواء أكان مباشرا أو غير مباشر، من أي شخص أو مجموعة أو كيان)، إذن فجميع هذه المواثيق تتحدث عن استقلال كلي غير مجزأ، لذلك استعملت عبارة استقلال المحكمة، لا استقلال قضاة الحكم. وكخلاصة يمكن القول أن الاستقلال المؤسساتي الفعلي للسلطة القضائية كل لا يتجزأ، لأن تجزئته هي ما يفتح الباب أمام توغل السلطة التنفيذية في عملية صنع القرار القضائي، وتنتفي معه بالتالي معايير المحاكمة العادلة. ثانيا : في بعض مقومات الاستقلال الاقتصادي. إذا كان الاستقلال المؤسساتي يهدف إلى جعل السلطة القضائية مستقلة مؤسساتيا عن السلطتين التنفيذية و التشريعية، فإن الاستقلال الاقتصادي يهدف من جهة إلى عدم تمكين السلطتين التشريعية والتنفيذية من آليات للضغط على السلطة القضائية بالشكل الذي ينتفي معه الاستقلال الفعلي، كما يهدف من جهة أخرى إلى جعل القضاة في منأى عن أي تأثير من سلطة المال، لذا نجد أن مختلف المواثيق الحقوقية الدولية قد أولت عناية كبيرة لمسألة الاستقلال الاقتصادي أو المالي، و هو نفس الأمر الذي سبقها إليه خلفاء الدولة الإسلامية، فها هو الإمام علي كرَّم الله وجهه، يكتب إلى عامله في مصر الأشتر النخعي بشأن التولية في القضاء قائلا : " ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم،... ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل بما يزيل علته، وتقلّ معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك بليغاً "، وعلى نفس النهج سارت المواثيق الحقوقية الدولية، حيث أكدت جميعها على ضرورة تحقيق الاستقلال الاقتصادي كأحد دعائم الاستقلال الفعلي للسلطة القضائية، فنصت المادة 13 من الميثاق العالمي للقضاة على أنه : ( يجب أن يحصل القاضي على الأجر الكافي لتأمين استقلاله الاقتصادي)، كما نص البند 7 من مبادئ الأممالمتحدة بشأن استقلال السلطة القضائية على أنه : ( من واجب كل دولة عضو أن توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة)، و نص المبدأ التوجيهي رقم 8 من مبادئ لاتيمر التوجيهية للكومنولت حول السيادة البرلمانية و استقلال السلطة القضائية على أنه : ( يتعين توفير التمويل الكافي والدائم لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها وفق أعلى مستوى من المعايير ... ولا يجوز استخدام هذه المخصصات أو حجب التمويل كوسيلة لممارسة الرقابة على السلطة القضائية )، وجاء في المبدأ 1 مكرر 6 من الميثاق الأوربي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ما يلي : ( على الدولة ضمان الوسائل اللازمة للقضاة لإنجاز مهامهم على الوجه السليم)، كما نص المبدأ 6 مكرر 1 من نفس الميثاق، على أنه : ( يحصل القضاة الذين يمارسون وظائفهم القضائية بصفة مهنية على أجر بمستوى ثابت بغية حمايتهم من الضغوط الهادفة إلى التأثير على قراراتهم، وبصفة عامة على سلوكهم أثناء ولايتهم القضائية ومن ثم المس باستقلالهم ونزاهتهم)، فيما نص الإجراء الخامس من الإجراءات الفعالة لتنفيذ المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية، على أنه : ( في ضوء تطبيق المبدأ السابع والحادي عشر من المبادئ الأساسية يتعين على الدول أن تولي اهتماما خاصا لضرورة توفير الموارد الكافية لعمل النظام القضائي، ويشمل ذلك تعيين عدد كاف من القضاة لمواجهة الأعباء القضائية، وتوفير الدعم اللازم للمحاكم من الموظفين والمعدات، وتوفير الأمن الشخصي للقضاة وكذلك الأجور والمكافآت المناسبة)، هذا ولا يقتصر الأمر على توفير الموارد المالية الكافية للسلطة القضائية قصد أداء مهامها بعيدا عن أي تأثير، بل إن المواثيق الحقوقية الدولية ذهبت أبعد من ذلك حين أوجبت ضرورة مشاركة السلطة القضائية في تحديد الميزانية، فقد ورد في المبدأ 22 من المبادئ التوجيهية المتعلقة بالحق في محاكمة عادلة في إفريقيا، ما يلي : ( يتعين على الدول إمداد الهيئات القضائية بالموارد الكافية لتسيير وأداء وظائفها، ويستشار القضاة فيما يتعلق بإعداد الميزانية و تنفيذها)، كما نصت المادة 14 من الميثاق العالمي للقضاة على أنه:( يتعين على السلطات الأخرى في الدولة تزويد الجهاز القضائي بالوسائل اللازمة والملائمة لأداء وظيفته، ويجب أن تتاح للسلطة القضائية الفرصة في أن تشارك أو تكون على علم بالقرارات المتخذة فيما يتعلق بهذه المسألة)، بل والأكثر من ذلك فالمواثيق الدولية جعلت تمويل السلطة القضائية ذو أولوية حتى في حال وجود معيقات اقتصادية، إذ جاء في الفقرة 42 من بيان بكين بشأن استقلال السلطة القضائية، ما يلي : ( في الحالات التي تحول المعوقات الاقتصادية دون تخصيص موارد كافية لمرافق أنظمة المحاكم، والتي من شأنها أن تمنع القضاة من أداء وظائفهم، تتطلب المحافظة على سيادة القانون وحقوق الإنسان إبلاء درجة عالية من الأولوية لتخصيص الموارد للجهاز القضائي والمحاكم). مقابل هذه التخمة في المعاهدات والمواثيق الدولية الضامنة للإستقلال الإقتصادي للسلطة القضائية، يطل علينا الواقع المغربي بفقر مدقع يجهد في إحالة جسد السلطة القضائية إلى هيكل متهالك تتلاعب به وتحركه خيوط الإقتصاد، فخلافا للإجراء الخامس من الإجراءات الفعالة لتنفيذ المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية المشار إليه أعلاه، والذي يفرض على الدول توفير الموارد الكافية لعمل النظام القضائي، خاصة فيما يتعلق بتعيين عدد كاف من القضاة لمواجهة الأعباء القضائية، نجد أن عدد القضاة المعينين ببلادنا غير كاف لمواجهة الأعباء القضائية، إذ لا يتجاوز عدد القضاة المعينين 3000 قاض تقريبا بمجموع ربوع المملكة – مع الإشارة إلى أن عددا منهم يلحق بالمصالح الوزارية للعمل-، وأمام هذا الخصاص المهول، سيدرك المتقاضي أحد أسباب التأخر في البت في القضايا. وإذا كان الأمر على هذا النحو بخصوص الموارد البشرية، فإن نفس الأمر قائم بشأن الموارد المادية، سواء المتعلقة بالأجور أو بالتجهيزات، فإذا كانت المواثيق الدولية السالف ذكرها توجب على الدول إمداد الهيئات القضائية بالموارد الكافية لتسيير وأداء وظائفها، فإنه يكفي فقط الإشارة إلى أن معظم القضاة لا يتوفرون حتى على مكاتب مستقلة داخل بنايات المحاكم، ناهيك عن التجهيزات الأخرى، التي قد تجدها في أبسط إدارة أخرى... أما على مستوى الأجور فعلى خلاف ما تضمنته المواثيق المذكورة، من وجوب تمكين السادة القضاة من أجور كافية لتأمين استقلالهم الاقتصادي، وجعلهم في منأى عن أي تأثير من سلطة المال، فإن الواقع يصدح بخلاف ذلك، بالنظر لضعف أجور السادة القضاة التي لا تتجاوز 9000 درهم، مع ما يرتبط بها من التزامات مفروضة عليهم من حيث السكن والهندام والتنقل...مع الإشارة إلى أن أجور القضاة وعلى خلاف ما يروج له البعض من كونها تندرج ضمن أعلى الأجور، فهي لا تعادل حتى الأجر الممنوح لرجل سلطة( قائد ) مع العلم أن الأمر يتعلق بأعضاء للسلطة قضائية، إن كنا نؤمن بمفهوم السلطة القضائية، التي تقابلها السلطة التنفيذية بأعضائها(الوزراء)، والسلطة التشريعية بأعضائها(البرلمانيين)، لكن للأسف فالعديد لا يستوعب مفهوم السلطة القضائية، وينظر لأعضائها على أنهم موظفين إداريين. أما بخصوص مشاركة السلطة القضائية ببلادنا في إعداد الميزانية، وفق ما هو منصوص عليه في المبدأ 22 من المبادئ التوجيهية المتعلقة بالحق في محاكمة عادلة في إفريقيا، والمادة 14 من الميثاق العالمي للقضاة فهو حديث ضد التيار، ما دام أننا حرمنا حتى من حقنا الطبيعي في المشاركة في بناء السلطة القضائية المنشودة، فبالأحرى أن نطمح إلى المشاركة في إعداد الميزانية.... ثالثا : مقومات الاستقلال الفردي أو الشخصي. إن الاستقلال الشخصي أو الفردي للقاضي لا يقل أهمية عن الاستقلال المؤسساتي و الاقتصادي، فهو دال على استقلال قرار القاضي عن أي مؤثر خارجي من شأنه المس بحياده وعدله، سواء أكان ذلك المؤثر في شكل آراء أو أوامر أو تعليمات توجه إليه، وقد تم التنصيص على هذا المستوى من مستويات الاستقلالية في المادة 4 من الميثاق العالمي للقضاة، والتي جاءت تحت عنوان : (الاستقلال الشخصي)، فنصت على أنه : ( لا يجوز لأحد أن يملي على القاضي آراء أو يحاول أن يعطيه أوامرا أو تعليمات من أي نوع، قد يكون لها تأثير على الأحكام القضائية الصادرة عنه...)، وإذا ما حاولنا كذلك مقارنة ما ضمن في المادة 4 أعلاه، مع واقع السلطة القضائية ببلادنا، فستعجز هذه السطور عن استيعاب كل الخروقات التي تم تسجيلها بهذا الصدد، ولعل أهمها وأبرزها في الآونة الأخيرة، ما عبر عنه أحد مسؤولي إدارة السجون بشأن " عدم لجوء القضاة لتفعيل العقوبات البديلة وتحميلهم المسؤولية عما تعيشه أوضاع السجون"، و كذلك الحملة الإعلامية غبر المسبوقة التي صاحبت قرار السيد وزير العدل والحريات في ملف الجمارك المشار إليه أعلاه، والتي حرص خلالها السيد الوزير وموظفوه على الترويج بحماس لرأيهم الرسمي في تمتيع المعتقلين بالسراح المؤقت طيلة الفترة السابقة لعرض الملف على أنظار الغرفة الجنحية لمحكمة الإستئناف بنفس المدينة، هذا بخصوص الآراء أما التعليمات الموجهة لأعضاء السلطة القضائية، فهي تارة تبرز بشكل مباشر وواضح، كما هو الحال بالنسبة للتعليمات التي يوجهها السيد وزير العدل والحريات للنيابة العامة، وتارة أخرى توجه هذه التعليمات بشكل غير مباشر عبر مجموعة من القنوات المتشعبة التي تستعمل لبث وجهة نظر معينة بخصوص بعض القضايا. من كل ما سبق، يتضح أن مقومات الاستقلال الفعلي للسلطة القضائية وفق المعايير أعلاه، لا تزال غائبة عن بلادنا، أو بالأحرى مغيبة، وأن الأماني وحدها لن تعجل بفرجها، لذا كان لزاما علينا كقضاة أن نتحمل مسؤوليتنا في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ أمتنا وأن نتصدى بكل جد لبناء سلطة قضائية مستقلة والدفاع عنها، وما الوقفة الاحتجاجية المزمع تنفيذها أمام محكمة النقض بتاريخ 6/10/ 2012 إلا حلقة من مسلسل البناء هذا الذي قد يطول أو يقصر بحسب المجهودات و التضحيات المقدمة من قبلنا. المراجع المعتمدة. 1 : الدستور المغربي الجديد. 2 : النظام الأساسي لرجال القضاء بالمغرب. 3 : العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية المعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار عدد 2200أ(د-21) المؤرخ في 16 ديسمبر 1966). 4 : مبادئ الأممالمتحدة بشأن استقلال القضاء والتي تم إقرارها في مؤتمر الأممالمتحدة السابع لمنع الجريمة و معاملة المجرمين، المنعقد خلال شهر دجنبر من سنة 1985 بميلانو، والمصادق عليها من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 40/32، المؤرخ في 29 نوفمبر 1985. 5 : الإجراءات الفعالة لتنفيذ المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية، المعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 44/162 المؤرخ في 15 دجنبر 1989. 6 : الميثاق العالمي للقضاة، الذي تم إقراره بإجماع المجلس المركزي للإتحاد الدولي للقضاة بتاريخ 17 نونبر 1999. 7 : مبادئ بنغالور للسلوك القضائي والتي تم إقرارها من قبل مجموعة النزاهة القضائية في بانغالور بالهند في الفترة ما بين 24 و26 من فبراير 2001، قبل أن يتم مراجعتها خلال المائدة المستديرة لرؤساء المحاكم العليا المنعقدة بقصر السلام في لاهاي بهولندا خلال الفترة الممتدة مابين 25 و26 نونبر 2002، والتي تم إقرارها كذلك من قبل لجنة حقوق الإنسان بالأممالمتحدة بمقتضى القرار عدد 43/2003 8 : الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المعتمد بتاريخ 27 يونيو 1981. 9 : المبادئ التوجيهية المتعلقة بالحق في محاكمة عادلة في إفريقيا، و المعتمد بقمة رؤساء دول الإتحاد الإفريقي في مابوتو خلال الفترة الممتدة ما بين 4 و 12 يوليوز 2003. 10 : مبادئ مجلس بيرغ بشأن استقلال السلطة القضائية . 11 : مبادئ لاتيمر التوجيهية للكومنولت حول السيادة البرلمانية و استقلال السلطة القضائية المعتمد بتاريخ 19 يونيو 1998 . 12 : الميثاق الأوربي بشأن النظام الأساسي للقضاة و المذكرة التوضيحية (ستراتبورغ 8 يونيو 1998). 13 : بيان بكين بشأن استقلال السلطة القضائية المعتمد من قبل الرابطة القانونية لدول أسيا والمحيط الهادئ سنة 2001 . 14 : نهج البلاغة، 2/97 15 : Concluding Observations of the Human Rights Committee : Romania. 07/28/1999. CCPR/C/79/Add.111. (Concluding Observations/Comments) : 16 Concluding observations on the second periodic report of Georgia: Georgia. 04/19/2002. CCPR/CO/74/GEO. (Concluding Observations/Comments) 17 : تقرير لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان عن حالة حقوق الإنسان في المكسي oea/ser.l/v/ii.100 *عضو المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب