بالرغم من مرور مئة سنة على تاريخ عقد الحماية الذي أبرم في تاريخ 30 مارس 1912، و انطلاق المد الاستعماري العسكري، الاقتصادي و السياسي ببلادنا، لا زلنا في حاجة لفهم هذه الصفحات التاريخية المهمة من تاريخنا المعاصر، وما نتج عنها من أحداث ووقائع استمرت إلى ما بعد الاستقلال بكثير. وإذا كانت المادة التاريخية لا يمكن النظر إليها إلا في امتدادها، فيجب الاعتراف مسبقا أن التاريخ لا يمكن معالجته سطحيا، فنصفه- كما يقول محمد زنيبر في كتابه "صفحات من الوطنية المغربية: من الثورة الريفية إلى الحركة الوطنية"- أسرار وخلفيات تحتاج إلى كشف، و في هذا الكشف يظهر مجهود المؤرخ و براعته. و لهذا، لفهم العديد من الأمور اليوم، و لتقييم حصيلة الهيكلة الحالية للنظام المغربي وسلطاته الفرعية وطقوسه ، لا بد من الرجوع إلى ما أفرزته الدينامية الاستعمارية من تغيرات جذرية في حياة المغاربة لازالت تابعاتها تطوقنا من كل صوب وحدب. فالزحف الكاسح الذي شنته القوى الاستعمارية على العديد من الأصعدة، والذي تمت مقاومته حتى قبل التوقيع على معاهدة الحماية ولى الاتفاقية الاسبانية-الفرنسية التي حددت منطقة الاحتلال الاسباني، ظل محط بحث ودراسة من طرف العديد من التخصصات العلمية، وموضوع مناقشات وتأويلات لدى العديد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والثقافيين. وأمام عجز الحكومات السابقة للاهتمام بالذاكرة وفتح أوراش مختصة لكتابة تاريخ بلادنا كتابة علمية وموضوعية، حاولت العديد من الأطراف استغلال غياب الوثائق و المخطوطات والأرشيفات المتعلقة بهذه المراحل التاريخية، واستغلال النفوذ الإعلامي المتوفر لديها والاستحواذ على سوق النشر والتوزيع، والركوب على أمية الشعب بجهله للقراءة و الكتابة، لكتابة تاريخ مبتور ومشوه ساهم بشكل حاسم في إضعاف الحركات المتنورة، التحررية والمعادية لاستعمار بشكل خاص والإمبريالية بشكل عام. و من المهم بمكان الإشارة هنا إلى كون المد الاستعماري، قوبل بمقاومة شجاعة قبل و بعد الحماية، وأن "تيار العروبة و الإسلام" الذي كان مواليا للشرق العربي والعالم الإسلامي آنذاك، لم يكن وحده في ساحة المقاومة والتحرر. و هذا موضوع يتطلب جرأة زائدة و حنكة عالية للكشف عن أغوار مسارات المقاومة المغربية والانعتاق والتحرر، غير الروايات الرسمية الجاهزة التي تقدم لنا في كل المناسبات. فكما تمت عرقلة عمل المقاومة وجيش التحرير في العديد من مناطق المغرب، وتهميش دور الوطنيين المتنورين الشباب الأوائل، تنكرت العديد من الدراسات (كتلك التي يقدمها حزب الاستقلال مثلا) لمقاومة ونضالات الشعب المغربي ضد الاستعمار وعملائه قبل وبعد 1925، ناسية أو متناسية أن الحركة الوطنية هي تراث جماعي بكل صفحاته الخالدة، وأن الحركة الوطنية حركة جماعية وتاريخ شعب بأكمله، لا يقتصر على منطقة ما من مناطق المغرب، ولا عن جماعة ما من جماعاته. وربما كان هذا التنكر مفكرا فيه، واستراتيجية قديمة لنبذ التعددية والاختلاف ومعاداة الحداثة و الحداثيين. وهو ما ميز تاريخيا حزب الاستقلال عن باقي الأحزاب المغربية، وسار على نهجه الإسلاميون من الذين اعتبروا –تاريخيا- أن "حياة الناس" من صنع الجاهلية (على حد قول سيد قطب، معالم في الطريق)، إلى دعوة عبد السلام ياسين إلى القومة، وهو الذي اقترح على "الفضلاء الديمقراطيين" منظومة من القرارات الجبرية الملزمة للحوار. وبهذا الخصوص، لابد من التذكير كيف رفض حزب الاستقلال منذ البداية و جود الحزب الشيوعي المغربي في الساحة السياسية الوطنية، ونزع عنه مغربيته، رغم مواقفه الوطنية التحررية والمناضلة. بل وصفه بالعمالة لإسرائيل عشية الهجوم على مقره بالدار البيضاء سنة 1957. كما كان يصفه المرحوم علال الفاسي بالخيانة العظمى، كل ما أتيحت له الفرصة. وظل حزب الاستقلال يطارد حزب العمال والفلاحين والطلبة و النخبة المتعلمة، متهما مناضليه بالزندقة و الإلحاد، إلى أن اطمأن على حله سنة 1959. كما فعل المرحوم علال الفاسي نفس الشيء -حتى قبل الاستقلال- مع "الأمير الحداثي" (التسمية من عندنا) محمد بلحسن الوزاني سواء في سنة 1936، تاريخ نشوء كتلة العمل الوطني، أو حين أسس الحركة القومية سنة 1937، أو يوم ولادة حزب الشورى والاستقلال سنة 1946. حيث تمت ملاحقة الوزاني و تصفية بعض أنصاره قبل وبعد الاستقلال، والتاريخ المؤلم الذي يشهد على الصراع بين الحزبين خير دليل، وجزء كبير منه لم يكتب بعد، خاصة الصدام المعلن عنه أواخر الخمسينات من القرن الماضي. كما أن أطماع هذا الحزب غير المحدودة، قادته إلى اتهام كل الأحزاب السياسية المغربية بالرجعية والخيانة، مخرجا أنيابه للسيطرة على البلاد رغم رفض حكومته من طرف سكان الريف بقيادة "كيفارة الريف" محمد الحاج سلام، الذي اعتبر أهل فاس بقيادة علال الفاسي وعائلته بمثابة الاستعمار الجديد (كما جاء في كتاب الريف بين القصر، جيش التحرير و حزب الاستقلال، للكاتب مصطفى أعراب). ولم يسلم الشهيد المهدي بنبركة من نفس الصراع و المواجهة مع علال الفاسي وأنصاره، حيث يقول بعض المؤرخين أنه تم توظيف الخطيب و ابن عمه عبد الكبير الفاسي في سد الخناق على بنبركة و جماعته داخل حزب الاستقلال، مستعملين الدين ضد الجناح اليساري، متهمين رموزه بالشيوعية والإلحاد والعمالة للمعسكر الشرقي و المؤامرة ضد الوطن والعداء للملك، مما أدى بالمهدي ورفاقه في الخامس والعشرين من يناير 1959 للإعلان عن تأسيس " كونفدرالية الاستقلال" التي أصبحت فيما بعد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كما أن التاريخ يشهد كذالك على محاولة هدم الاتحاد المغربي للشغل، وبناء الاتحاد العام للشغالين على أنقاضه سنة 1960، ليستمر نفس النهج مع الاتحاد الوطني لطلبة الغرب، إذ سيعلن حزب الاستقلال سنة 1962 على ولادة غير طبيعية لنقابة صفراء، طلابية جديدة سماها الاتحاد العام لطلبة المغرب. و من نفس المدرسة، تخرج الدكتور الخطيب، الذي غادر حزب الاستقلال في مهمة غامضة لمعانقة الضابط العسكري السابق، المحجوب أحرضان، وتأسيس الحركة الشعبية، للمزيد من تلغيم الساحة السياسية لمغرب محمد الخامس، متهما حزب الاستقلال بالتآمر ضد الملك، بعدما – تقول بعض المصادر التاريخية – رفض عمالته الجنيرال فرانكو. لكن موت المقاوم عباس ألمسعدي، وبعده بسنوات قليلة موت القائد الوطني عبد الكريم الخطابي في منفاه القسري بمصر يوم سادس فبراير 1963، سيكون إعلانا عن نهاية مرحلة وبداية أخرى. مرحلة جديدة ستقود الدكتور الخطيب وبعض أنصاره من الحركة الشعبية إلى الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، لينتهي به الأمر باحتضان الإسلاميين وتجنيدهم ضد الحداثيين والديمقراطيين والتقدميين اليساريين بمختلف أطيافهم، منذ بداية التسعينات، وفي وسط التسعينات بشكل رسمي من خلال "حركة التوحيد و الإصلاح" التي أتت بعد الوحدة الاندماجية بين كل من حركة الإصلاح و التجديد و رابطة المستقبل الإسلامي. "شيطان القصر" هذا، كما تسميه الشبيبة الإسلامية، سيتابع المسير، مستغلا علاقته بوزارة الداخلية وبالأجهزة الأمنية، السرية منها و العلنية، ليقدم أكبر خدمة لإدريس البصري وحراسه من خلال الوقوف في وجه الحداثيين الديمقراطيين، الذين أفرجت عنهم التطورات الداخلية في علاقتها مع التطورات العالمية، بعد نهج سياسة البيروسترويكا في الاتحاد السوفياتي الذي بدأ يتخلى عن الدور الذي ظل يلعبه منذ الحرب العالمية الثانية، وبداية تغيير أنظمة الحكم في أوروبا الشرقية، و ما تلا ذلك من توحيد ألمانيا و حل حلف فارصوفيا، والاستعداد لخلق أوروبا الموحدة، و شروع الدول العظمى في إعادة النظر في النظام الدولي الجديد و التفكير في إستراتيجية جديدة لقلب العالم من أجل توازانات جديدة، و انعكاس كل هذا على إفريقيا والدول العربية و دول أمريكا اللاتينية، وكانت الحلقة الأولى لتنفيذ هذا المسلسل، حرب الخليج، و هزيمة البعثيين و دعاة الاشتراكية العربية. ففي الوقت الذي كانت فيه أقبية الخزي و العار تقذف إلى الخارج بمن تبقى من أحياء تازمامارت و قلعة مكونة و أكدز و درب مولاي الشريف وكل سجون النظام في مختلف مدن المغرب، كان الدكتور الخطيب يحرض جماعته لمواجهة الزحف التقدمي و اليساري في الساحة السياسية المغربية، ومواجهته في الجامعات والمعاهد العليا بميلشيات منظمة ومؤطرة ومدججة بالأسلحة البيضاء وبالهراوات، تمهيدا للمؤتمر الاستثنائي من أجل إعادة الهيكلة تحت مظلته كوسيط للمخزن بكل أصنافه، هذا كله مهد الطريق للمد الإسلامي الرجعي وشجع اتجاهات وتيارات سياسية مستلبة بقشور وفتاوي شيوخ الإخوان المسلمين و كل من يدور في فلكهم. لقد تزامنت خطة "شيطان المخزن"مع خروج اليسار المغربي للعمل في الشرعية العلنية والبحث عن خلق إطار سياسي جديد بالمغرب، والتفكير في معارضة جذرية، والتركيز على الديمقراطية السياسية والنظر إلى مشكل السلطة بواقعية، والحل الديمقراطي لللأمازيغية، واعتبار العمل الجمعوي والصحفي لا يشكل بديلا للعمل السياسي، وخلق منابر إعلامية مثل الأفق والمواطن والمطالبة بمراجعة الدستور وتكوين وزارة حقوق الإنسان والغلاء ظهير 1935 و العفو عن المعتقلين السياسيين، و... كما انطلق التفكير في إطلاق أرضية لتجميع الديمقراطيين في ارتباط بمطالب حيوية و تاريخية مثل إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين، وإعادة الاعتبار لكل ضحايا القمع منذ الاستقلال وتغيير مدونة الأحوال الشخصية والتركيز على الديمقراطية السياسية. فباستثناء منظمة العمل الديمقرطي الشعبي التي مدت يدها إلى الإسلاميين وأعطت توجيها صريح لطلبتها في الجامعة للاعتراف بالتيار الإسلامي الطلابي في الجامعة داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وإعلانها في كل أدبياتها اعتزازها بأنها أول حزب من المعارضة فتح صدره للإسلاميين؛ لم يستطع الفكر الظلامي غزو الجامعة رغم محاولاته المتكررة منذ 1977. وهو ما أجج الصراع والمواجهة مع أنصار الدكتور الخطيب الذين كانت مهمتهم الأساسية بتنسيق مع وزير الداخلية إدريس البصري هو احتلال الجامعة المغربية، واجتثاث أبناء الشعب المتنورين. و مع حصل لجرير نور الدين و رفاقه سيظل موشوما في الذاكرة الجماعية، ذاكرة مقاومة الزحف الظلامي على الجامعة المغربية. فاس كانت طوال تاريخها الأكاديمي و العلمي بؤرة الجامعيين المغاربة الأحرار. فاس عاصمة أبناء جبالة والريف والشرق و الشمال والغرب من أجل التحرر والنضال والمقاومة، رغم القمع والمحاكمات والحصار والعنف وإطلاق الرصاص الحي ضد العزل، فاس و رغم الاختفاء القسري والمنفى، فاس رغم الهشاشة و سوء التغذية و الحرمان الاجتماعي والعنف الطبقي و الميز الاجتماعي، كانت وستستمر مدرسة النضال من أجل الحداثة والديمقراطية و في مقدمة مواجهة الدكتور الخطيب وتركته. ويأتي اغتيال الشهيد محمد أيت الجديد بن عيسى سنة 1993 في هذا السياق. حين كانت فتاوي الخطيب في قمة أوجها.. حيث تعتبر اكبر جريمة بشعة اقترفها المتورطون بمن فيهم حامي الدين، العضو السابق لحركة التجديد والإصلاح، وعضو الأمانة العامة للحزب الحاكم، حسب عائلة الشهيد... وبعد سنة عن اغتيال محمد، أعلن المجلس الاستشاري عن تكوين خلية لدراسة ملفات الاختطاف, و كل الجرائم السياسية، و لم تتوصل عائلة الشهيد بأي نوع من الحقيقة منذ ذلك الحين. و اليوم ما رأي المجلس الوطني لحقوق الإنسان في ما تتداوله و سائل الإعلام الوطنية والرأي العام و في ما ورد في بيان عائلة الشهيد محمد؟ وهل سيستدعي مجلس إدريس اليزمي حامي الدين للاستماع إليه؟ إن الرأي العام و كل القوى الحقوقية و المنظمات الإنسانية في الداخل و الخارج، لا زال ينتظر الحقيقة في قضية اغتيال محمد. و مهما كان الحال، فعلى كل الضمائر الحية تبني ملف الشهيد محمد بنعيسى و المساهمة في الوصول إلى الحقيقة. إن من لقن دروس العنف و الإرهاب لحامي الدين و أمثاله، هو من كان يلقن الحروف الأبجدية لغيرهم حول الوهابية و قوانين قطع اليد و الجلد و رجم الزانية وإدخال الطوائف الدينية المشرقية و إغراق الساحة الوطنية بالفصائل الإسلامية. أما لماذا حشر حامي الدين اسمه في لائحة الطلبة القاعديين التقدميين لحظة اعتقاله، سؤال لن يجيب عنه سوى المعني بالأمر. فمهما طال الزمن، إن الحقيقة ستظهر في يوم من الأيام، و على العدالة أن تستدعي حامي الدين لإعادة البحث معه في موضوع القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، و معاقبة الجاني أو الجناة طبقا للقانون. كما على بن كيران كأمين عام حزب العدالة و التنمية، أن يجرد حامي الدين من كل مهامه الحزبية و الإدارية، إلى حين إعادة فتح التحقيق في الملف. وفي النهاية، يبقى من قتل محمد؟ و لماذا؟...أسئلة معلقة و جزء من ذاكرة الصراع التاريخي بين العلمانيين و بين الأصوليين حول الديمقراطية و الحداثة و السلم والقيم والحرية و التعليم و المرأة و العنف، الخ.