في خضم انشغال الشعوب العربية بمعاركها من أجل التغيير والكرامة ومواجهة الفساد والاستبداد والتبعية، يواصل الصهاينة العمل على اختراق، ما يعتقدون أنه مناطق هشة قابلة للاختراق، لإيجاد مواقع لهم في العالم العربي. وفي هذا السياق يصلون الليل بالنهار لضمان مكان لهم بالمغرب عبر اعتماد استراتيجية ناعمة تتجاوز منطق تطبيع العلاقات بشكل علني على الصعيد الرسمي، الذي انتهى تحت ضغط الاحتجاج الكبير الذي شهده الشارع العربي والمغربي إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. حيث تم إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالمغرب ونظيره المغربي في تل أبيب يوم 23 أكتوبر 2000، بعد العريضة الشهيرة للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني التي وقعتها قيادات الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات على إثر مسيرة مليونية يوم 8 أكتوبر 2000 حملت شعار "كلنا فلسطينيون"، طالبت من خلالها بإغلاق مكتب الاتصال الصهيوني. وإذا كان هذا الأخير قد أغلق بعد معركة استمرت لسنوات فإن الاتصال بقي قائما حيث عمد الكيان الإسرائيلي إلى تغيير استراتيجيته السابقة القائمة على تحقيق تطبيع اقتصادي يشمل مجالات الصناعة والفلاحة والتبادل التجاري ليستبدله باختراق ثقافي، يمكن أن يشكل في اعتقاده أساسا لبناء علاقات على المدى المتوسط والبعيد يمكن البناء عليها في مستقبل الأيام. استراتيجية الاختراق : في هذا السياق أصبحت دوائر القرار الإسرائيلي تنطلق في استراتيجيتها للاختراق مما تنتجه أدبيات عدد من مراكز الأبحاث والتفكير من رؤى وتصورات. وفيما يتعلق بهذا الموضوع تأتي مساهمة "مركز موشي ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا" التابع لجامعة تل أبيب في المقدمة، وهو المعهد الذي اشتهر بعملية سرقة أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني بعد اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، وقد تأسس بقرار من الرئيس المؤسس لجهاز الموساد "رؤوفين شيلواح" سنة 1959، حيث يضع هذا المركز منطقة المغرب العربي الكبير ضمن أولوياته في المرحلة الحالية والمستقبلية، بعد أن اشتغل فترة طويلة في السابق على ملفين شكلا بامتياز مصدر هشاشة للأمن العربي في مناطق استراتيجية، وذلك في إقليم كردستان شمال العراق وجنوب السودان الذي انتهى دولة مستقلة انفصلت عن السودان. وقد أصبح لهذا المركز، بفعل إمكانياته المالية وما يصدره من أبحاث ودراسات، تأثير كبير على صانع القرار في الكيان الصهيوني، حيث يتم اعتماد دراساته من طرف رئيس الحكومة، وزارة الحرب (المكتب الخاص)، وزارة الخارجية (المكتب الخاص)، أجهزة الاستخبارات الثلاث (الموساد، شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، وجهاز الأمن العام "الشاباك") ثم البرلمان (الكنيست). وبعد تحقيق دراساته وأبحاثه حول العراق والسودان لنجاحات كبيرة بدأ اهتمامه يتجه منذ سنة 2005 نحو أقطار المغرب الكبير بإيعاز من عدة هيئات استخباراتية وسياسية إسرائيلية، كما أكد ذلك رئيس قسم شمال إفريقيا السابق في المركز العقيد "جدعون جرا" (نائب سابق لرئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية، وحاصل على دكتوراه حول ليبيا). وذلك عبر سلسلة من الندوات والأوراش تم تنظيمها تحت إشراف المركز يستضيف فيها مشاركين أمازيغ من المغرب والجزائر، اهتمت بما أسماه "المشكلة الأمازيغية في المغرب والجزائر في أبعادها وتطوراتها المختلفة"، إضافة لموضوع "العلاقات التاريخية بين اليهود والأمازيغ في منطقة شمال إفريقيا". معتمدا مجموعة من الأدوات في بناء وقائع على الأرض انطلاقا من توصيات يتم الاشتغال عليها بكثافة أهمها تأسيس لجان صداقة أمازيغية إسرائيلية في كل من المغرب والكيان الإسرائيلي، وتسويق منشورات وكتب تحرض على الانفصال وتدعو إلى توظيف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الموجودة لخلق كيانات انفصالية بالمنطقة تماما مثلما وقع شمال العراق وجنوب السودان. وقد أفرز هذا الاهتمام بعد مرور خمس سنوات مشروعا ضخما لهذا المركز، يقضي بتخصيص جانب مهم من بؤرة انشغاله لما أسماه "التنوع الإثني بالمغرب والجزائر"، حيث كشفت دراسة أصدرها المعهد ذاته في غشت من سنة 2010 عن "الإمكانيات الواعدة لاستثمار الحركة الأمازيغية بهدف تحقيق اختراق في منطقة المغرب العربي الكبير"، لتجاوز ما اعتبرته أكبر عائق أمام التطبيع مع الصهاينة، متمثلا في الحركات القومية والإسلامية، "انطلاقا من أربع مرتكزات: القطع مع الرصيد الحضاري العربي الإسلامي، الارتباط بالنموذج الغربي والدفاع عن قيمه الكونية، التركيز على المشاكل الداخلية الحقيقية لتجنب الاهتمام بالصراع العربي الإسرائيلي ثم العمل على إلغاء فكرة العداء لإسرائيل من خلال التأصيل التاريخي والثقافي لفكرة التقارب الأمازيغي الإسرائيلي". وكان صاحب البحث هو "بروس مادي فايتسمان" الرئيس الحالي لقسم شمال إفريقيا بمركز موشي ديان والباحث في معهد فيلاديلفيا لبحوث السياسة الخارجية بأمريكا، وصاحب الدعوة الشهيرة إلى ضرورة استغلال ورقة الأمازيغ للتغلغل والتطبيع مع المغرب، وهو كثير الحضور إلى المغرب، وقد أصدر في ربيع 2011 كتابا يتضمن رؤية المركز التي تختزل وجهة نظر الكيان الصهيوني لهذه المسألة تحت عنوان : "الحركة الهوياتية الأمازيغية تحدي لأنظمة شمال إفريقيا"، وهو عمليا الخيط الرابط بين مجموعة من النشطاء الذين ينسبون أنفسهم للحركة الأمازيغية في المغرب والجزائر. في مظاهر الاختراق : وانطلاقا من تلك الاستراتيجية أعلاه، حقق الصهاينة اختراقا جزئيا تمثل في نجاحهم بتنظيم مجموعة من الأنشطة والندوات مثل: - ندوة في معهد موشي ديان نفسه حول التركيبة السكانية لدول المغرب العربي وإمكانية اختراقها والعمل على تفكيكها مثلما حدث شمال العراق وجنوب السودان، شارك فيها مجموعة من نشطاء الحركة الأمازيغية الذين تتسم مواقفهم بالعنصرية والتطرف. بل وصل الاختراق إلى حدود توظيف المركز لأحد المغاربة ضمن طاقم المركز (اسمه سمير بلعياشي). - قيام معهد "ياد فاشيم" بالقدسالمحتلة المهتم بما يسمى المحرقة بتنظيم دورة تكوينية حول "الهولوكوست الصهيوني" أيام 6-14 نونبر 2009 ، حضرها وفد من ثمانية عشر شخصا تشكل في معظمه من أساتذة التعليم الابتدائي بتنسيق مع جمعية ماتت في المهد اسمها "جمعية سوس العالمة للصداقة الأمازيغية اليهودية"، حيث كان أول وفد من العالم الإسلامي ومن الوطن العربي يحضر هذه الدورة كما قالت "دوريت نوفاك" مديرة المعهد. وقد تلقى أعضاء الوفد دروسا عن ما يعرف في الأدبيات الصهيونية بالمحرقة وكذا محاضرات حول "القواسم المشتركة بين اليهود والجماعات الإثنية والطائفية في العالم العربي وكيفية الاستفادة من التجربة اليهودية في الخلاص، عن طريق تدبير المصير والعيش المستقل ووسائل المقاومة التي استخدمها اليهود من أجل إقامة دولتهم". غير أن المفارقة هنا هي أنه في الوقت الذي كان فيه هؤلاء يخوضون غمار هذه "الدورة التكوينية" في القدسالمحتلة، كان الأديب المغربي اليهودي المرحوم "إدمون عمران المالح" المعروف بمناهضته للصهيونية يخوض معركة شرسة في مواجهة مشروع تدريس ما يعرف بالمحرقة أريد إقحامه بالمناهج التعليمية المغربية، في تجسيد حي لمواقف الإرث اليهودي العربي بالمنطقة المغاربية الذي يأخذ طابعا مناهضا للصهيونية مثلما هو عليه الأمر مع آخرين غيره مثل أبراهام السرفاتي وسيون أسيدون بالمغرب وجورج عدة وجيزيل حليمي في تونس على سبيل المثال لا الحصر. كما كان العالم يعج بتأسيس منظمات يهودية تعلن مقاطعتها للكيان الصهيوني عقب جرائمه في محرقة غزة، أو على الأقل تعلن خلافها معه وترفض تبني جميع أطروحاته كما هو الحال مع منظمة "جي ستريت" في أمريكا و "جي كول" في أوروبا. - وضع مخطط لتأسيس شبكة من الجمعيات المساعدة على الاختراق تحت مسمى الصداقة الأمازيغية الإسرائيلية، غير أن الرفض التلقائي للرأي العام المغربي لجمعيات من هذا القبيل، جعل الذين قبلوا القيام بهذا الدور من بعض المكونات المتطرفة والمعزولة في الحركة الأمازيغية، يلجؤون إلى تسميتها بجمعيات الصداقة الأمازيغية اليهودية، علما أن اسما كهذا في المغرب لا معنى له ما دام أن المجتمع المغربي ينطوي على مكون يهودي لا بأس به يشكل جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي المغربي على مر حوالي ألفين من السنين، وجزء منه ناطق بإحدى اللغات الأمازيغية الثلاث الأساسية، مثلما يتكلم اللغة العربية إضافة إلى عبرية السفارديم الأقرب إلى اللغة العربية بحكم منشئهما التاريخي المشترك. وفي هذا السياق لم يكتب النجاح للجمعيات التي تم تأسيسها تحت هذا المسمى كذلك؛ حيث ولدت جمعية "الصداقة الريفية الإسرائيلية" ميتة بمدينة الحسيمة حاضنة الإرث التحرري لثورة المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي الذي ألهمت، دعوته من القاهرة للتطوع للقتال في فلسطين قبيل إعلان اغتصابها من طرف الصهاينة، مئات من المغاربة والعرب سنة 1947، وبقي هذا الإرث التحرري عاصما لمنطقة الريف من الاختراق الصهيوني. وهو المصير نفسه الذي عرفته جمعية أخرى تأسست بمنطقة سوس جنوب المغرب تحت مسمى "جمعية الصداقة الأمازيغية اليهودية" ورفعت شعارا لها حوار الأديان والثقافات، في منطقة أنجبت رموزا نضالية مؤثرة في الوجدان المغربي مثل المناضل "محمد بنسعيد أيت يدر" أحد قادة المقاومة إبان الاستعمار وأبرز قادة اليسار المغربي الذي طالما أكد أن نكبة فلسطين هي التي ألهمته للالتحاق بحزب الاستقلال في المرحلة الاستعمارية، على إثر مراسلاته مع أحد أصدقائه الذي لبى نداء عبد الكريم الخطابي للتطوع في حرب 1947 – 1948 حيث كان مرابطا بمدينة بيت لحم. - تنظيم زيارات لبعض السياسيين الذين لا ثقل لهم في المشهد السياسي؛ مثل زيارة أحمد الدغرني (رئيس حزب مغربي هامشي)، أو زيارات المغني الجزائري فرحات مهني المتعددة للكيان الصهيوني طلبا للاعتراف بانفصال منطقة القبائل، وهي الزيارات التي كرست نبذهما داخل المشهد السياسي المغربي والجزائري على حد سواء. آفاق واعدة لمواجهة التطبيع : لقد كانت يقظة الشعب المغربي عاملا حاسما في إفشال استراتيجية الاختراق الصهيونية، حيث لعبت "مجموعة العمل الوطنية لمساندة العراق وفلسطين" التي تمثل طيفا واسعا من النسيج المدني والسياسي المغربي أدوارا بارزة في فضح هذه الاختراقات، لذا لجأ المطبعون إلى وسائل مخادعة حيث تم تسخير مؤسسات من المفروض أن تكون بعيدة عن شبهة التطبيع؛ مثل مؤسسة "آنا ليند للحوار بين الثقافات" (يمثلها داخل الكيان الصهيوني معهد "فان لير") التي يترأسها أحد أبرز رموز اللوبي الصهيوني بالمغرب وهو المستشار الملكي "أندري أزولاي" الذي اتهمه الكاتب المغربي "جاكوب كوهين" بأنه أحد عملاء الموساد. و"مؤسسة الثقافات الثلاث" التي أنشئت بمبادرة من الحكومة المغربية وحكومة إقليم الأندلس بإسبانيا، ويعتبر أزولاي كذلك رئيسها المنتدب. وهكذا بعد فشل الإستراتيجية السابقة في الاختراق، بدأ الصهاينة يتسللون عبر طرق ملتوية لتحقيق اختراق ثقافي، وفي هذا السياق ساهمت "مؤسسة الثقافات الثلاث" (إلى جانب مؤسسات وشخصيات صهيونية أخرى) في إنتاج شريط وثائقي تحت عنوان "تنغير، القدس : أصداء الملاح" يحكي قصة مجموعة من المستوطنين الصهاينة من أصول مغربية تم تهجيرهم قسرا مطلع الستينات من القرن الماضي من منطقة تنغير بالجنوب الشرقي للمغرب، لكن بطريقة تجعلهم ضحايا داخل فلسطينالمحتلة، وهو الشريط الذي تم عرضه على قناة تلفزيونية عمومية هي القناة الثانية مما أثار ضجة واسعة في المغرب حيث عبرت القوى السياسية والمدنية بمنطقة الجنوب الشرقي عن إدانتها لهذه الخطوة التطبيعية وطالبت الدولة المغربية بتحمل مسؤوليتها في مواجهة هذا الاختراق، لتتواتر المبادرات في التصدي له، حيث أطلقت القوى المدنية والسياسية بالمنطقة "رابطة إيمازيغن من أجل فلسطين" بهدف التصدي للاختراق الصهيوني وتفعيل عملية التضامن مع الشعب الفلسطيني، لتنضاف إلى شقيقتها "الجمعية الأمازيغية الفلسطينية" التي تنشط بمنطقة الريف شمال شرق المغرب منذ ما بعد محرقة غزة. وهي المبادرات التي أحبطت سعي بعض المتطرفين داخل الحركة الأمازيغية إلى اختطاف الأمازيغية وربطها بأقلية معزولة تعيش على هامش المجتمع، بهدف العمل على اغتيال ذاكرة المغاربة الجمعية التي لعب فيها قادة أمازيغ أدوارا طلائعية في الدفاع عن فلسطين وربطها بالوعي الوطني لعموم المغاربة، مما فتح آفاقا واعدة أمام حركة مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي طالما اعتبرته أدبيات النضال المغربي المعاصر خيانة وطنية وقومية ودينية وإنسانية. عن الجزيرة نت