على السبورة الحائطية المعلقة في أعلى الباب الكبير دار القرآن بحي بوكار بمراكش يُعلن ما يلي: تقوم جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة ب: - خدمة القرآن وتعميمه في كل صفوف الأمة، لا فرق بين صغير وكبير، أو بين غني وفقير. - ربط الأمة بكتاب الله وسنة الرسول قدر الإمكان. - الرجوع بالأمة إلى عهد سلفها الصالح في قراءة القرآن مجودا مرتلا، ومحاربة كل ما يخالف ذلك. - العناية بمتون التجويد بالطريق التربوي المتسلسل من الأدنى إلى الأعلى، أو من الأصغر إلى الأكبر. - العناية بحلقات القرآن وتفويجها على الأعمار . مع دخول الدار يتم تحفيظ كتاب القرآن عن طريق أسلوب الحلقات، التي تتفرع إلى حلقات الحفظ التي يقرأ فيها القرآن ويستظهر. وحلقات الإقراء، وفيها يتدرب الأتباع على التجويد على يد شيخ الحلقة، ثم حلقات المتون، وتلقن فيها قواعد التجويد المصاغة في شكل نظم ليسهل حفظها بالإضافة، إلى كتاب الأربعين نووية، وهي مجموعة من الأحاديث الأكثر توظيفا للدلالة على رجحان المذهب السلفي. في دور القرآن التابعة لجمعية الدعوة يدرس القرآن بطريقة فردية، حيث تتكون الحلقة من حوالي عشرين طالبا يتوسطهم الشيخ الذي يقوم بتحديد مقدار معين لجميع طلاب الحلقة يتم تلاوته من قبله على الطلاب أولا، ثم تلاوته من قبلهم عليه ثانيا قراءة فردية، ثم يكلفون بحفظه، ليتم التسميع لهم من قبل المدرس فيما بعد. ويعتبر تفويج الطلبة حسب الحلقات والعمر والقدر المحفوظ نوعا من التوزيع العقلاني يساعد عليه اتساع مساحة دور القرآن، خلافا للمدرسة القرآنية المغربية التي تحتوي على مستويات متعددة يلقن لها القرآن في حجرة واحدة بالرغم من تفاوت الطلبة أعمارا وذكاء واستيعابا وحفظا.. ومن خلال فضاء القراءة، وتوزيع الأتباع، والإجراءات التي تتيح للفرد الكلام، والكيفية التي يتموضع فيها المتلقون، يمكن اعتبار الحلقة شبكة تواصل متمحورة حول الشيخ، بحيث يظل التواصل عموديا والتدريس تلقينيا، إذ تمر جميع التدخلات والمعلومات من خلاله. ويظهر تلقين السلفية جليا من خلال الدمج بين مرحلتي الاستئناس والاكتساب، أي عندما ينتقل الشيخ إلى استخلاص الغايات الأخلاقية و السلوكية التي تتضمنها الآيات والسور. أما محصلة التلقين، فتختبر بعد الشرح المبسط لها، وعند ما يطلب الشيخ التابع التذكير بالدرس السابق. ففي الوقت الذي ينتج فيه الدرس التلقيني الاستعدادات النفسية والذهنية ويعبئ القدرات لاستبطان العقيدة، يكون شرح الشيخ بمثابة منبهات بسيطة تهدف إلى تحقيق تغير في السلوك أو إنتاج مواقف معينة تشكل في مجموعها إنجازات (performances) تختلف من متلق إلى آخر وتعكس درجة التعبئة لدى الأفراد. وعلى العموم، فإن العلاقة التربوية داخل دور القرآن تندرج ضمن النموذج التربوي التقليدي، وذلك من خلال مركزية الشيخ وامتلاكه لسلطة شبه مطلقة، تجعل منه مصدرا للمعرفة. أما المتلقي، فهو مجرد ناقل سلبي يتلقى المعرفة وتمارس عليه سلطة المدرس، كما تمر التفاعلات في اتجاه وحيد من الشيخ نحو الأتباع ، ويتجلى ذلك من مظاهر عديدة: الصمت الذي يسود داخل قاعة الدرس، طاعة الشيخ التامة، واحترام القواعد الموضوعة من طرف الإدارة. مما يؤدي إلى افتقاد الدروس إلى الحيوية والتبادلية يعززها وحدة الخلفية المذهبية للشيخ والطلبة. وفي المقابل تنجح هذه الوحدة عملية التواصل التي تجري بين الطرفين بحيث يتمكن الأتباع من استيعاب الدروس بسهولة. يرى شيوخ الدار ان لهذه الطريقة في التلقين، فعالية من حيثة من قدرة على متابعة الطلاب أداء وحفظا وسلوكا، ثم تسهيل مهمتهم في الإشراف على الحلقة، وملاحظة ما يدور فيها، ورفع تقرير بذلك إلى إدارة الجمعية. ويقوم ادارة الدار بتخصيص فترات المراجعة: 1- وقت السحر، أي قبل الفجر. 2- بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. 3- القراءة من المحفوظ وفق ترتيب معين في الصلوات المفروضة والنافلة. 4- بين الأذان وإقامة الصلوات الخمس. 5- بين المغرب والعشاء. تستغرق عملية الحفظ إذن جميع أوقات الأتباع، مما يؤدي إلى ارتفاع حظوظ نجاح عملية التعبئة، وذلك لأن الشخص يكون معزولا عن المجتمع، وبدون أي أفق مرجعي، حين يطرح عليه ذلك الخطاب التعبوي. إن ما يميز هذه الممارسة التلقينية في دور القرآن هو أن عملية الحفظ تتم بتوازي مع تلقين دروس قواعد القرآن وقواعد التجويد، فما أن يتم التابع حفظه لأجزاء معينة من القرآن، حتى يصبح قارئا متمكنا ومجودا في نفس الوقت، وفي ذلك اختلاف واضح مع أسلوب تحفظ القرآن في المدارس العتيقة، حيث يعتمد التلقين أسلوب القراءة الجماعية الصاخبة، إذ يستعين الطلبة في عملية الحفظ برفع أصواتهم بعضهم تداخلا في القراءة يستحيل معه تمييز صوت بذاته سوى عندما يتقدم الطالب لاستعراض ما حفظه أمام الشيخ. وعلى عكس الممارسة في دور القرآن، وبفعل غياب دروس في التجويد لا يتمكن الطالب من قواعد القراءة إلا عن طريق التدرب من خلال القراءة الجماعية عند قراءة الحزب. و يزيد اعتناء دور القرآن بالتجويد من الاستحسان الذي تلاقيه عند العامة، إذ تحول تجويد القرآن إلى طقس يتزايد الطلب عليه في المناسبات، وبدأ يزيح الطريقة التقليدية ( القراءة الجماعية) من هذا المجال. وتكفل طريقة التلقين هاته التمييز بين الطلبة وتأكيد تفردهم في حال إتقانهم للتجويد، مما يخول لهم كسب مكانة اعتبارية من أهم مظاهرها إمامة الصلاة التي تقام داخل دار القرآن، علاوة على تفوقهم في عديد مسابقات تجويد القرآن الكريم التي تقام على المستوى الجهوي و الوطني و الدولي. وانتدابهم لإمامة صلاة التراويح في العديد من مساجد المغرب. بالنسبة للدروس الخاصة التي يستفيد منها طلبة دور القرآن، فتختلف المواد المدرسة فيها والتوزيع الزمني الذي ينظمها بين دار وأخرى. وعلى العموم، تقدم هذه الدروس مباشرة بعد نهاية صلاة العشاء ، وتلقن فيها دروس العقيدة والتجويد والفقه، ويتم فيها شرح ما اكتنف المتون المحفوظة من لبس وغموض، وما علق بها من تفسيرات خاطئة، أو ما استجد من مخالفات لها في الممارسة. أما الدروس العامة فلها نكهة خاصة، ذلك أن تنشيطها من طرف زعامات الحركة يجر معه جمهور غفير ومتحمس، إذ لا يقتصر الأمر عندئذ على المريدين التابعين لدار القرآن التي يقام فيها الدرس، وإنما يحج إليها تابعوا دور القرآن الأخرى إضافة إلى العموم . في الواقع ، يمكن تفسير هذا الإقبال بعاملين أساسيين.فمن جهة، تحمل مواضيع الدروس مضمونا عقائديا يتناسب مع الحس العفوي للمستمعين أيا كان مستواهم الثقافي، كما يتناسب، من جهة أخرى مع حسهم العملي، خصوصا دروس كل من المغراوي زعيم الحركة، والشيخ زهرات الشيخ الأكبر سنا في الجمعية، حيث يتميز خطاب المغراوي بقدر كبير من الشعبوية، من خلال استعمال اللغة الدراجة والألفاظ العامية والتبسيط المبالغ فيه لمواضيع الدروس، ومن خلال الأمثلة التي يستعملها للدلالة على صحة أفكاره ورجحانها ، وأيضا من خلال توظيفه للموروث الشعبي الديني بغرض نقده والنيل منه والاستهزاء به، بحيث لا يمر درس من دروسه إلا وقد احتوى على أوصاف غاية في القدح للممارسات الدينية المعيشة، كما يتميز الخطاب الحامل لهذه الدروس باستعماله للغة الدارجة. ويتلقى هذا الخطاب استحسانا من طرف الجمهور المتتبع الذي يتجاوب معه عن طريق الابتسام والضحك والابتهاج، يدل على ذلك التعليقات التي يتبادلها الأتباع بعد انتهاء الدرس، ولا يعبر ذلك الاستحسان بالضرورة عن فهم الموضوع وتحقق المعرفة العميقة بعناصره، بقدر ما يدل على انسجام ما حمله الدرس من مواقف وتعليقات وأحكام مع عقيدة المتلقين وآرائهم المعيارية، بحيث لا يكاد مضمون العام للدرس أو محوره الأساسي، يتردد على الألسنة أثناء تبادل هذه التعليقات، لكن هذا المضمون يخرج فيما بعد مسجلا في شريط مسموع بعد أن يزيل المونتاج كل الزوائد. وللشيخ زهرات، طريقة أخرى أكثر إثارة، وتتجلى في شرح مضامين كتاب لأحد الأعلام السلفيين، بعد أن يقوم أحد الأتباع بسرد الأجزاء موضوع الشرح، لينهي الشيخ درسه بالتذكير بأحد مبادئ المذهب السلفي التي لها صلة بموضوع الدرس، لكن ما يمتاز به الشيخ زهرات هو استخدامه اللغة الدارجة ، وكذا توظيفه للأمثال الشعبية، ومزواجته بين بث المذهبية والإحالة على أمثلة من الواقع المعيش بشكل يضمن الفعالية المطلوبة لعملية التعبئة. وبالعكس من ذلك، يسبب الاطراد في استعمال اللغة الفقهية عند الشيخ الدراري نفورا للجمهور، إذ لا يكاد يتجاوز الحضور 20 شخصا، وتتخلل الدرس استطرادات كثيرة في تحقيق الحديث وإخراجه ) لنا مع هذا الحديث وقفات(،كما تكثر الإحالات إلى المراجع والمصادر المشيرة إلى رواة الأحاديث ومراتبهم في الرواية. بالنسبة لتقييم مردودية الطالب، فيتم بالنسبة لحفظ القرآن داخل الحلقة نفسها من خلال استعراض المتون المحفوظة على الشيخ، كما تقام بين الفينة والأخرى مسابقات استظهار القرآن وتجويده بين الأتباع بعد تقسيمهم إلى مجموعات يراعى في تحديدها الدار التي ينتمي إليها الطالب وسنه و القدر الذي يحفظه من القرآن ومن بقية المتون الحديثية. أما بالنسبة للدروس الخاصة، فتقام امتحانات سنوية، يتطوع لاجتيازها من أراد من الأشخاص الذين يتابعونها على مدار السنة، وبذلك تعتبر الدراسة في دور القرآن غير نظامية، مهمتها هو تلقين القرآن ومتون القراءة والتجويد لمن يرغب في ذلك خارج المؤسسات التربوية الرسمية. لقد كشفت لنا المداومة على حضور دروس القرآن عن خاصية يتميز بها أسلوب التلقين داخل دور القرآن، فبخلاف تقنية الحفظ التي تعتبر أسلوبا مميزا لتلقين مختلف فروع المعرفة الدينية التي تدرس في المدارس الدينية العتيقة، لا تشدد دور القرآن على هذه التقنية سوى لحفظ القرآن وبعض المتون الحديثية ومبادئ العقيدة السلفية المدونة في متون خاصة، لكن حفظ القرآن لا يعتبر نقطة بداية لاكتساب المعرفة الدينية على نحو ما جرى عليه التقليد المغربي، ذلك أن نسبة كبيرة من الأتباع تكتفي بحفظ رصيد من القرآن والنصوص الأساسية ، بحيث يبقى التركيز شديدا على المتون العائدية بشكل يستهدف استبطان المبتدئين لأساسيات المذهب السلفي والانطلاق منها لفهم النصوص الأساسية قرآنا كانت أو سنة. في انتظار امتلاك أدوات الحجاج بها مع حاملي المذهبيات الأخرى. ويعي زعماء التيارات السلفية ما يترتب عن أسلوب التلقين في المدارس العتيقة من صعوبات في توصيل المعرفة الدينية إلى أتباعها، فعلاوة على انتقادهم لمرجعية هذا التعليم وروحه، فإنهم يعيبون اعتماده على حشو الذاكرة بمتون أصولية أشبه بالطلاسم من حيث مضمونها العصي على الفهم وانعدام الشرح الصريح لما يحفظ من نصوص، بالإضافة إلى اعتماده على مجرد الحفظ الذي يؤدي إلى تدجين الفكر وتبلد الذاكرة، وكثيرا ما يستعرض شيوخ دور القرآن هذه النقائص في حالة استقبالهم لطلبة المدارس القرآنية العتيقة، بحيث يتم إشعار هؤلاء أنهم أمام أسلوب تعليمي مختلف يعي المقروء أولا مع الترغيب في حفظه بعد ذلك، وأن ما يحمله الطالب الجديد الوافد إلى دور القرآن أو إلى المعاهد السلفية من معرف دينية، لا يعتبر رأسمالا ثقافيا يمكن أن يكون ذو حظوة في وسطه الجديد، وإن كان يعطيه نوعا من الامتياز على زملائه . وتتمحور المعرفة الدينية المعطاة بواسطة هذا الأسلوب حول بعض التعاليم الدينية البسيطة من حيث المحتوى القوية من حيث درجة الإقناع، و السهلة من حيث مؤهلات الولوج إليها، إذ لا تحتاج سوى لإتقان اللغة ولا تتضمن أي تحليل اجتماعي أو نقاش فلسفي، بحيث ينتهي المطاف بالتابع إلى توهم امتلاك جوهر المعرفة. ويظهر من هذا الجدول أن دور القرآن تعتبر نوعا من التعليم التعويضي غير النظامي، الذي يوفر فرص التعليم لفئات من كل الأعمار، الأطفال في سن الدراسة الذين لم يلتحقوا بالمدرسة، ثم الشباب والكبار الذين حرموا من فرص التعليم النظامي لسبب أو لآخر، بحيث يتوفر لهؤلاء تعليم أساسي مشتمل على القراءة والكتابة والحساب علاوة على حفظ القرآن وتجويده. وبشكل عام، تلقن في مرحلة الإنتاج أساسيات الإيديولوجيا السلفية، ففيها يتم بث المعتقد الديني، بطريق تراعي حداثة الملتحقين وحداثة المعتقدات بالنسبة إليهم وبشكل يحترم قدراتهم الإدراكية البسيطة، لذلك يعتمد في التلقين في هذه المرحلة على بعض المراجع الأساسية وهي بالتحديد: "كتاب التوحيد" و"الأصول الثلاثة" و"القواعد الأربع"، وكلها كتب لمحمد ابن عبد الوهاب و"الأربعين نووية" للإمام النووي، و"العقيدة الواسطية"، وهذه الأخيرة عبارة عن نظم لابن يتميه بسيط الأسلوب سهل الحفظ سلس اللغة، وبعيد عن الغموض والتعقيد التي يطبعان المنظومة العقائدية الأشعرية المسماة " المرشد المعين على الضروري من علوم الدين " لابن عاشر. وهو المرجع الذي يحال عليه في تلقين العقيدة والفقه المتصل بالفرائض والعبادات الإسلامي في المدارس العتيقة والمعاهد الدينية بالمغرب، والمنظومة الكلامية لكونها تقيم العقيدة على مسائل ذهنية ومعارف فكرية ومقدمات فلسفية وأقيسة منطقية يعسر فهمها على المتخصص فما بالك بالتابع المبتدأ. وفي مقابل بساطة المتون الديني، ثمّة عنف رمزي يتسم به شرح الشيوخ لهذه المتون، عبر الأمثلة التي تعطى في كل مرة يريد فيها شرح مقولة الواردة في المتن المعتمد كموضوع الدرس، إذ يقع الشديد على بساطة المقولات العقائدية السلفية وما تتسم به من صفاء وملائمة للفطرة، في مقابل تعقيد "المعتقدات المنحرفة وضلالها وما ينتج عنها من ممارسات غير مشروعة". إن لشرح الشيوخ للعقيدة السلفية وظيفة اتصالية، فلا يبارح الشيخ دار القرآن إلا وقد تأكد من أن المتلقي قد أعطى نفس المدلول لعناصر الدرس الملقى. وفعلا، فكثير ما تجيء تعليقات الأتباع عند نهاية الدرس مسجلة لمميزات العقيدة السلفية على ما عداها من عقائد دينية. مما يبين نجاح عملية التعبئة. *باحث في علم الاجتماع الديني