المهمة الأولى لدور القرآن هي تحفيظ كتاب الله وذلك عن طريق أسلوب الحلقات تضع جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة مثلها مثل جميع الجمعيات السلفية على عاتقها مهاما عديدة تعبئ لها دور القرآن التابعة لها، وهي: - خدمة القرآن وتعميمه في كل صفوف الأمة، لا فرق بين صغير وكبير، أو بين غني وفقير. - ربط الأمة بكتاب الله وسنة الرسول قدر الإمكان. - الرجوع بالأمة إلى عهد سلفها الصالح في قراءة القرآن مجودا مرتلا، ومحاربة كل ما يخالف ذلك. - العناية بمتون التجويد بالطريق التربوي المتسلسل من الأدنى إلى الأعلى، أو من الأصغر إلى الأكبر. - العناية بحلقات القرآن وتفويجها على الأعمار. يتضح إذن، أن المهمة الأولى لدور القرآن هي تحفيظ كتاب الله وذلك عن طريق أسلوب الحلقات، التي تتفرع إلى حلقات الحفظ التي يقرأ فيها القرآن ويستظهر. وحلقات الإقراء، وفيها يتدرب الأتباع على التجويد على يد شيخ الحلقة، ثم حلقات المتون، وتلقن فيها قواعد التجويد المصاغة في نظم ليسهل حفظها بالإضافة. في دور القرآن يدرس القرآن بطريقة فردية، حيث تتكون الحلقة من حوالي عشرين طالبا يتوسطهم الشيخ الذي يقوم بتحديد مقدار معين لجميع طلاب الحلقة تتم تلاوته من قبله على الطلاب أولا، ثم تلاوته من قبلهم عليه ثانيا قراءة فردية، ثم يكلفون بحفظه، ليتم التسميع لهم من قبل المدرس فيما بعد. ويعتبر تفويج الطلبة حسب الحلقات والعمر والقدر المحفوظ نوعا من التوزيع العقلاني يساعد عليه اتساع مساحة دور القرآن، خلافا للمدرسة القرآنية المغربية التي تحتوي على مستويات متعددة يلقن فيها القرآن في حجرة واحدة بالرغم من تفاوت الطلبة أعمارا وذكاء واستيعابا وحفظا. الملاحظ عدم اهتمام الشيوخ دور القرآن بالرسم القرآني، بخلاف ما عرفت به المدارس العتيقة من كبير المحافظة على رسم الكلمة القرآنية وضبطها على ما كانت عليه في المصحف العثماني، إلى حد أن الشيوخ التقليديين وضعوا نصوصا ومنظومات تساعد على تحفيظ هذا الرسم، فكان الطالب لا يعد شيخا ولا يعتد بعلمه إلا إذا أصبح ضابطا لرسم القرآن يكتبه على لوحه كما هو، ويصححه لغيره كما هو في المصحف الشريف. ومن خلال فضاء القراءة، وتوزيع الأتباع، والإجراءات التي تتيح للفرد الكلام، والكيفية التي يتموضع فيها المتلقون، يمكن اعتبار الحلقة شبكة تواصل متمحورة حول الشيخ، بحيث يظل التواصل عموديا والتدريس تلقينيا، إذ تمر جميع التدخلات والمعلومات من خلاله. وتظهر المهمة التلقينية لدور القرآن من خلال الدمج بين مرحلتي الاستئناس والاكتساب، أي عندما ينتقل الشيخ إلى استخلاص الغايات الأخلاقية والسلوكية التي تتضمنها الآيات والسور. أما محصلة التلقين، فتختبر بعد الشرح المبسط لها، وعندما يطلب الشيخ التابع التذكير بالدرس السابق. ففي الوقت الذي ينتج فيه الدرس التلقيني الاستعدادات النفسية والذهنية ويعبئ القدرات لاستبطان العقيدة، يكون شرح الشيخ بمثابة منبهات بسيطة تهدف إلى تحقيق تغير في السلوك أو إنتاج مواقف معينة تشكل في مجموعها إنجازات (performances) تختلف من متلق إلى آخر وتعكس درجة التعبئة لدى الأفراد. وعلى العموم، فإن العلاقة التربوية داخل دور القرآن تندرج ضمن النموذج التربوي التقليدي، وذلك من خلال مركزية الشيخ وامتلاكه لسلطة شبه مطلقة، تجعل منه مصدرا للمعرفة. أما المتلقي، فهو مجرد ناقل سلبي يتلقى المعرفة وتمارس عليه سلطة المدرس، كما تمر التفاعلات في اتجاه وحيد من الشيخ نحو الأتباع، ويتجلى ذلك من مظاهر عديدة: الصمت الذي يسود داخل قاعة الدرس، طاعة الشيخ التامة، واحترام القواعد الموضوعة من طرف الإدارة، مما يؤدي إلى افتقار الدروس إلى الحيوية والتبادلية، تعززها وحدة الخلفية المذهبية للشيخ والطلبة. وفي المقابل، تنجح هذه الوحدة عملية التواصل التي تجري بين الطرفين، بحيث يتمكن الأتباع من استيعاب الدروس بسهولة. لتقييم فائدة هذه الطريقة في التدريس، قمنا باستجواب العديد من الأتباع، الذين لاحظوا ما للطريقة الجماعية من فوائد على مستوى سهولة حفظ المقاطع المقترحة نظرا لتكرارها عليهم مرارا، ثم سهولة استخدام وسائل الإيضاح، ومنها الكتابة على السبورة وذلك لتوضيح بعض الأحكام أو للتنبيه على بعض الأخطاء. أما بالنسبة إلى رأي الشيوخ، فقد سجلوا ما توفره هذه الطريقة من قدرة على متابعة الطلاب أداء وحفظا وسلوكا، ثم تسهيل مهمتهم في الإشراف على الحلقة، وملاحظة ما يدور فيها، ورفع تقرير بذلك إلى إدارة الجمعية. وقد خصصت لفترة المراجعة الأوقات التالية: 1 - وقت السحر، أي قبل الفجر. 2 - بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. 3 - القراءة من المحفوظ وفق ترتيب معين في الصلوات المفروضة والنافلة. 4 - بين الأذان وإقامة الصلوات الخمس. 5 - بين المغرب والعشاء. تستغرق عملية الحفظ إذن جميع أوقات الأتباع، مما يؤدي إلى ارتفاع حظوظ نجاح عملية التعبئة، وذلك لأن الشخص يكون معزولا عن المجتمع، وبدون أي أفق مرجعي، حين يطرح عليه ذلك الخطاب التعبوي. يتعرض هذا النظام التدريسي في دور القرآن لاضطرابات كثيرة، ذلك أن انشغال الشيوخ بأنشطتهم المهنية لا يمكنهم من احترام أوقات التدريس، كما يؤثر كذلك على وتيرة تتبع الأتباع لمختلف المتون التي يتلقونها، أضف إلى ذلك غياب مراقبة جدية من طرف المشرفين على الدار، إذ ليس هناك تسجيل للطلاب ولا إحصاء لهم، سواء أثناء انعقاد الحلقة أو في فترة المراجعة، مما يبين ضعف التأطير المؤسسي والإداري داخل هذه الدور. إن ما يميز هذه الممارسة التلقينية في دور القرآن هو أن عملية الحفظ تتم بتواز مع تلقين دروس قواعد القرآن وقواعد التجويد، فما أن يتم التابع حفظه لأجزاء معينة من القرآن، حتى يصبح قارئا متمكنا ومجودا في نفس الوقت، وفي ذلك اختلاف واضح مع أسلوب تحفيظ القرآن في المدارس العتيقة، حيث يعتمد التلقين أسلوب القراءة الجماعية الصاخبة، إذ يستعين الطلبة في عملية الحفظ برفع أصواتهم، مما يسبب تداخلا في القراءة يستحيل معه تمييز صوت بذاته سوى عندما يتقدم الطالب لاستعراض ما حفظه أمام الشيخ. وعلى عكس الممارسة في دور القرآن، وبفعل غياب دروس في التجويد لا يتمكن الطالب من قواعد القراءة إلا عن طريق التدرب من خلال القراءة الجماعية عند قراءة الحزب. ويزيد اعتناء دور القرآن بالتجويد من الاستحسان الذي تلاقيه عند العامة، إذ تحول تجويد القرآن إلى طقس يتزايد الطلب عليه في المناسبات، وبدأ يزيح الطريقة التقليدية (القراءة الجماعية) من هذا المجال. وتكفل طريقة التلقين هاته التمييز بين الطلبة وتأكيد تفردهم في حال إتقانهم للتجويد، مما يخول لهم كسب مكانة اعتبارية من أهم مظاهرها إمامة الصلاة التي تقام داخل دار القرآن، علاوة على تفوقهم في العديد من مسابقات تجويد القرآن الكريم التي تقام على المستوى الجهوي والوطني والدولي، وانتدابهم لإمامة صلاة التراويح في غير واحد من مساجد مراكش. بالنسبة إلى الدروس الخاصة التي يستفيد منها طلبة دور القرآن، فتختلف المواد المدرسة فيها والتوزيع الزمني الذي ينظمها بين دار وأخرى. وعلى العموم، تقدم هذه الدروس مباشرة بعد نهاية صلاة العشاء، وتلقن فيها دروس العقيدة والتجويد والفقه، ويتم فيها شرح ما اكتنف المتون المحفوظة من لبس وغموض، وما علق بها من تفسيرات خاطئة، أو ما استجد من مخالفات لها في الممارسة. أما الدروس العامة فلها نكهة خاصة، ذلك أن تنشيطها من طرف الزعامات السلفية يجر معه جمهورا غفيرا ومتحمسا، إذ لا يقتصر الأمر عندئذ على المريدين التابعين لدار القرآن التي يقام فيها الدرس، وإنما يحج إليها تابعو دور القرآن الأخرى، إضافة إلى العموم. في الواقع، يمكن تفسير هذا الإقبال بعاملين أساسيين. فمن جهة، تحمل مواضيع الدروس مضمونا عقائديا يتناسب مع الحس العفوي للمستمعين أيا كان مستواهم الثقافي، كما يتناسب، من جهة أخرى، مع حسهم العملي، خصوصا دروس كل من المغراوي، رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة، والشيخ زهرات الشيخ الأكبر سنا في الجمعية، حيث يتميز خطاب المغراوي بقدر كبير من الشعبوية، من خلال استعمال اللغة الدراجة والألفاظ العامية والتبسيط المبالغ فيه لمواضيع الدروس، ومن خلال الأمثلة التي يستعملها للدلالة على صحة أفكاره ورجحانها، وأيضا من خلال توظيفه للموروث الشعبي الديني بغرض نقده والنيل منه والاستهزاء به، بحيث لا يمر درس من دروسه إلا وقد احتوى على أوصاف غاية في القدح للممارسات الدينية المعيشة، كما يتميز الخطاب الحامل لهذه الدروس باستعماله للغة الدارجة. ويتلقى هذا الخطاب استحسانا من طرف الجمهور المتتبع الذي يتجاوب معه عن طريق الابتسام والضحك والابتهاج، تدل على ذلك التعليقات التي يتبادلها الأتباع بعد انتهاء الدرس، ولا يعبر ذلك الاستحسان بالضرورة عن فهم الموضوع وتحقق المعرفة العميقة بعناصره، بقدر ما يدل على انسجام ما حمله الدرس من مواقف وتعليقات وأحكام مع عقيدة المتلقين وآرائهم المعيارية، حيث لا يكاد مضمون العام للدرس أو محوره الأساسي، يتردد على الألسنة أثناء تبادل هذه التعليقات، لكن هذا المضمون يخرج فيما بعد مسجلا في شريط مسموع بعد أن يزيل المونتاج كل الزوائد. وللشيخ زهرات طريقة أخرى أكثر إثارة، وتتجلى في شرح مضامين كتاب لأحد الأعلام السلفيين، بعد أن يقوم أحد الأتباع بسرد الأجزاء موضوع الشرح، لينهي الشيخ درسه بالتذكير بأحد مبادئ المذهب السلفي التي لها صلة بموضوع الدرس، لكن ما يمتاز به الشيخ زهرات هو استخدامه اللغة الدارجة، وكذا توظيفه للأمثال الشعبية، ومزواجته بين بث المذهبية والإحالة على أمثلة من الواقع المعيش بشكل يضمن الفعالية المطلوبة لعملية التعبئة. وبالعكس من ذلك، يسبب الاطراد في استعمال اللغة الفقهية عند الشيخ نفورا للجمهور، إذ لا يكاد يتجاوز الحضور 20 شخصا، وتتخلل الدرس استطرادات كثيرة في تحقيق الحديث وإخراجه (لنا مع هذا الحديث وقفات)، كما تكثر الإحالات إلى المراجع والمصادر المشيرة إلى رواة الأحاديث ومراتبهم في الرواية. بالنسبة إلى تقييم مردودية الطالب، فيتم بالنسبة إلى حفظ القرآن داخل الحلقة نفسها من خلال استعراض المتون المحفوظة على الشيخ، كما تقام بين الفينة والأخرى مسابقات استظهار القرآن وتجويده بين الأتباع بعد تقسيمهم إلى مجموعات يراعى في تحديدها الدار التي ينتمي إليها الطالب وسنه والقدر الذي يحفظه من القرآن ومن بقية المتون الحديثية. أما بالنسبة إلى الدروس الخاصة، فتقام امتحانات سنوية، يتطوع لاجتيازها من أراد من الأشخاص الذين يتابعونها على مدار السنة، وبذلك تعتبر الدراسة في دور القرآن غير نظامية، مهمتها هي تلقين القرآن ومتون القراءة والتجويد لمن يرغب في ذلك خارج المؤسسات التربوية الرسمية.