عدد متواضع من الأعمال المغربية التي تطرقت بالتفكيك أو التأمل لأحداث "الربيع العربي"، مقارنة مع ما صدر في الساحة العربية والغربية، وهو عدد يترجم في الواقع أداء الأقلام المغربية وواقع الكتاب والنشر والثقافة، وطبيعة "الأداء الثقافي" لحكومات "الاستثناء المغربي"، حيث كان الهم الثقافي/المعرفي، آخر شيء يمكن أن تهتم به مُجمل هذه الحكومات، بما في ذلك طبعا حكومة "الربيع المغربي"، التي تتجه لتكرار التجارب الثقافية المتواضعة للحكومات السابقة. كتاب "أسئلة حول انطلاق الربيع العربي"، يندرج إذا ضمن قائمة الأعمال المغربية التي تطرقت لأحداث "الربيع العربي"، وهو عمل مشترك صدر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، من تأليف الباحث عبد الحي مودن والباحث عبد الأحد السبتي والكاتب الصحفي إدريس كسيكس. (ط 1، 2012). نبدأ بالذي حرره الباحث عبد الحي مودن، في دراسة جاءت تحت عنوان: "الرجة الثورية العربية على ضوء نظريات الثورات الاحتجاجية"، مناقشا الأطروحات المركزية للنظريات التي درست الثورات، كما تناول المقاربات الرئيسية للحركات الاجتماعية، ومستعرضا ما يمكن أن تفيده مختلف هذه المقاربات في فهم أسباب وصيرورة ومآلات الرجة الثورية. يرى مودن أن مصدر المادة الأولى التي تغذي فضول الناس حول ما يحدث في وسائل الإعلام، التي أصبحت اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، قادرة على مواكبة سرعة الأحداث بفضل الإعلام الاجتماعي (الإنترنيت، "الفايسبوك"، "التويتر")، التي تسمح به تكنولوجيا الاتصال الإلكتروني، لولا أن أحداث "الربيع العربي" تشكل أيضا المادة الرئيسية لتخصصات أكاديمية ظلت منذ عقود، بل هي عدة قرون، تسعى لفهم ظواهر سياسية مماثلة لما يحدث اليوم، وقد لخص الباحث هذه التخصصات بالأساس في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والآداب والفنون، ولو أنه ركز في مبحثه على بعضها فقط، وعلى رأسها علم الاجتماعي السياسي، بحكم أن هذا الأخير راكم معرفة غنية في معالجته للسؤال الذي يطرح اليوم: لماذا يثور الناس ويحتجون؟ كيف يفعلون ذلك؟ ما هي مآلات الثورات والاحتجاجات؟ كما اعتبر الباحث إلى أن هناك مداخل عديدة ومتنوعة، ومتضاربة تشكل مواضيع لخلافات عميقة بين أصحابها، يتطلب أي حكم فاصل عليها القيام بدراسات تطبيقية مطولة، ولو أنه اكتفى بإلقاء نظرة مختصرة عن عينة من أبرز الأطروحات التي اهتمت بالثورات وبالحركات الاحتجاجية في العالم، وبإبراز العناصر التي توضحها كل أطروحة عند قراءة الرجة الثورية العربية على ضوئها، مشتغلا نموذجا على أداء المدرسة البنيوية لتحليل الثورة، والتي عرفت في صيغتها الماركسية والتنموية، تحولات مهمة، مضيفا أنه بالرغم من التجدد الذي تعرفه المدرسة البنيوية بصيغتها الماركسية والتنموية، فإنهما فقدتا منذ عقدين مركزهما المهيمن في السوسيولوجيا السياسية بصفة عامة وفي مجال التحول السياسي بصفة خاصة. ويرى أن "مفاتيح" البنيات السائدة لدى هذه المدرسة، توفر السياق العام للأحداث، ولكنها تعجز عن تفسير المسارات التي تتخذها هذه الأحداث. ولذلك، فأصحاب أطروحة الانتقال تخلُّوا عن البنيات وركزوا على الحسابات العقلانية التي اتبعتها كل من النخب الحاكمة والنخب المعارضة، بجناحيها الراديكالي والمعتدل والتي أدت في النهاية إلى تبني انتقال من أنظمة عسكرية إلى أنظمة مدنية ديمقراطية بشكل سلمي. وكانت نتيجة التوظيف الواسع لأطروحة الانتقال هي التخلي عن الاهتمام بالثورة كظاهرة سياسية وكإشكال نظري والاهتمام عوضها بمراحل الدَّمقرطة غير الثورية، لخصت هذه الوضعية عبارة "أن صندوق الاقتراع هو كفن الثورات". وأخيرا، استعرض عبد الحي مودن النظريات الرائدة في معالجة الحركات الاحتجاجية مُلخصة في ثلاثة مصطلحات: "تعبئة الموارد"، "الفرص السياسية" و"التأطير"، وقد استعرضها تباعا. وهكذا، يذهب مودن إلى أن تحليل الرجة العربية من منطلق "تعبئة الموارد" ستدعو إلى التركيز على الأهداف التي يضعها صانعوا الرجة لمشاريعهم عوض البحث في مدى إحساسهم بالحرمان والفشل، كما أنها ستشير أهمية الموارد غير التقليدية التي توظف في التعبئة من أجل التغيير والتي لا شك وأن الإعلام الاجتماعي سيكون أبرزها؛ أما "الفرص السياسية" فتُعرَّف بتلك الأبعاد من المناخ السياسي التي توفر حوافز الانتصار أو تمنعها والتي تتمثل في المؤسسات السياسية، والثقافات والأزمات والتحالفات والتحولات السياسية، والثقافات والأزمات والتحالفات والتحولات السياسية. لفهم الاحتجاجات من هذه الزاوية يتوجب البحث في التغيير الذي تعرفه بنيات الفرص السياسية ودورها في التحفيز على الفعل السياسي. وعلى ضوء هذا المقترب الذي يعرف بأطروحة "التأطير" ستكون الرجة الثورية العربية هي ثورة في المعاني وفي خلق معاني معبئة، وهنا يبدو الإطار المقدم من طرف الثوار، أنه فعال في إحداث ما لم تنجح الإطارات السابقة من تحقيقه: خلق تعبئة واسعة وسريعة عن طريق تركيزه على القيم المشتركة بين فئة الشباب. ومن أهم ما جاء في مبحث مودن، الإقرار بأن التنوع الكبير في المجال النظري الأكاديمي المتعلق بالثورات والاحتجاجات، كما هو سائد في الخارج (هناك في العوالم التي تحترم البحث العلمي)، فإن الأمور مختلفة في الساحة المغربية، حيث إننا، والتقييم لعبد الحي مودن، لم نراكم في المغرب معطيات حول الموضوع ولم نقم بعد بتجريب هذه الأطروحات ميدانيا، مؤكدا أنه إذا كان سياق الاستمرارية المملة للسلطوية يُعتبر أهم أسباب هذا النقص المعرفي لدينا، فإن الرجة الثورية تدعونا للاهتمام بالموضوع، خاصة وأن مناخ الحرية يوفر اليوم أكثر من أي وقت مضى إمكانية إنجاز الأبحاث الميدانية حول قضايا الثورات والاحتجاجات. بالنسبة لعبد الأحد السبتي، فقد اقترح في مقاله الذي يحمل عنوان: "الشعوب العربية وعودة الحدث"، قراءة للحدث ترتكز على المفارقة الكبرى: "جدلية العالمي والمحلي"، متناولا توظيف الشباب المنتفض للتكنولوجيا في معركتهم من أجل التعبئة، ووسائل الإعلام وعلاقتها بتحولات العالم العربي. وانطلق الباحث من دلالات هذا المشهد: عندما كنت أتتبع عبر شاشة التلفزة مظاهرات الفرح العارم التي تلت خبر تنحي الرئيس المصري حسني مبارك، لفت انتباهي شعار "ارفع رأسك أنت مصري". شعرت بقوة المفارقة في أن الحدث يجمع بين ثلاث دوائر: انتماء شباب "الفايسبوك" إلى قيم معولمة، وانتقال الرجة عبر المجال العربي، وتعبير الفاعلين عن الاعتزاز بانتمائهم لمجالهم الوطني. ويبدو لي أن هذه المفارقة تعبر عن تطورات جديدة في الهوية وأشكال التحديث السياسي. يهمنا أكثر قراءة الكاتب لتفاعلات الساحة المغربية مع أحداث "الربيع العربي"، معتبرا أن الاستثناء المغربي الحقيقي يجب أني تأسس على المزيد من الخطوات الرمزية والجريئة التي ترسخ الثقة في الانتقال من الدولة المخزنية إلى دولة حديثة، وفي التزام بين الخطاب والممارسة، ولا سيما في مجال شفافية القرارات، والإقرار الفعلي لثقافة المحاسبة، واحترام كرامة المواطن في الممارسة اليومية للسلطة، واستبعاد ظاهرة الريع من النظام الاقتصادي؛ كما طالب السبتي بإعادة النظر في ثقافة الإجماع، وإقرار مناخ حوار وطني متعدد الأصوات، لأنه من شأن ذلك أن يساعد على مد الجسور بين ثقافة الاحتجاج وثقافة الاقتراح، وهيكلة الحقل السياسي وفق تصورات وبرامج واضحة حول بنية الدولة، والجهوية، والنماذج التنموية، والمشاريع المجتمعية، والاستراتيجيات الثقافية. وفي ختام التأملات الباحث، توقف عند ملاحظتين: 1 نحن أمام تحولات بعيدة المدى وطويلة النفس، وبالتالي فإن ما نتمثله الآن هو الحدث الذي يعج بالممكنات والاحتمالات، وما سوف نتمثله أو يتمثله آخرون في وقت لاحق، هو الحدث الذي سوف يختزل فيما آل إليه على أرض الواقع. وبتعبير آخر نلتقي، في مثل هذا الظرف، بنوع من التوتر بين مبدأ الحرية ومبدأ الحتمية؛ 2 ملاحظة تهم مسألة الإعلام وعلاقته بتحولات العالم العربي، حيث يعيش المواطن حاليا تحت ضغط زمن متابعة الحدث، وهو يتطلع كذلك إلى زمن استيعاب الحدث، بين زمن التلفزة وزمن الكتاب. كما سجل السبتي غياب المؤرخ أو الباحث الاجتماعي، أو حتى الصحفي المتخصص في شؤون بلدان المغرب والمشرق، مؤكدا بدوره أن جامعاتنا لم تعمل على إنتاج هذا النوع من الباحثين في المغرب، حيث ظل الحديث عن "المصير المشترك" مجرد شعار لم يواكبه فضول الباحثين، أو برامج علمية محلية، أو علاقات ملموسة بين الجامعات العربية في مجالات البحث والتكوين. وهذا جزء من إرث العصر الذي بدأ يتلاشى منذ الثورة التونسية المباغتة. نأتي في الأخير لورقة الصحفي إدريس كسيكس، وجاءت تحت عنوان: "الظاهر والباطن في ثورة الشباب"، حيث ارتحل مع أداء الممارسة الإعلامية، التي برأيه، تسرف في وصف الآني، وتقوم باختزال الظاهرة الثورية في المنطقة في تعبيرات ضيقة، مثل: "ثورة الشباب"، "ثورة رقمية"، "ثورة ضد الاستبداد"، "ثورة من أجل الحرية"، "ثورة من لا حق له". واعتبر كسيكس أن ثورات 2011، تُجسّد انتفاضة شباب لم يعد قابلا بالسلطوية كذريعة لكبح الحركات الإسلامية، ولم يعد يؤمن بضرورة الانتظار والمرور إلى ضفة المتوسط المقابلة ليحقق أحلامه، بقدر ما هي ثورة شباب قرر أن يحقق حلم الحرية والديمقراطية في بلده، بوسائله الخاصة وبمعية الفرقاء المتواجدين على الساحة السياسية، إنها ثورة شباب واع سياسيا ومنزعج من عدم تكافؤ الفرص اجتماعيا، مما يعني أنها ليست لجميع الشباب، بل ثورة طبقة وسطى متعلمة تبحث عن فضاء عام وتجد لمطلبها المدوي صدى عند أجيال سابقة لم تعد تؤمن بإمكانية التغيير وبدا لها بجلاء أن باب الأمل فتح من جديد، بفضل جبل متحرر ليس له حسابات كابحة أو ذاكرة مثبطة تدفعه للقبول بأنصاف الحلول. قراءات الأسماء الثلاثة لحدث "الربيع العربي" جاءت في صيغة عناوين وشذرات، تكرس الكمي والنوعي للقراءات المغربية التي صدرت حول حدث الساعة العربية بامتياز، مع بعض الاستثناءات، سوف نتوقف عند أهمها، في عمل لاحق بحول الله.