إن ما يحدث في المغرب اليوم من تحولات متسارعة ومن اضطرابات، يطالبنا بإنتاج رؤية جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. فليس بالمعتقدات و الهويات فقط يعيش الإنسان، و لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال كل شيء في الدين و العبادة و التعبد. هناك حاجيات روحية لدى الإنسان يجب إدراكها بمعارف جديدة و التنقيب عليها في الفكر الإنساني، من أجل حياة جديدة قوامها الإبداع من أجل حياة أفضل. وللتذكير فقط، حين قرر العديد من المناضلين السياسيين و الحقوقيين رفع القناع عن الأسئلة و التحديات التي ظلت مكبوتة طوال سنوات الجمر و الرصاص، و شرعوا- بعد ملحمة تاريخية من التضحيات الفردية و الجماعية- في البحث عن أشكال جديدة لركوب التحديات التي يواجهها المغرب بعد موت المرحوم الحسن الثاني، و منها تنظيم التجمعات والتظاهرات و المنتديات، خلق تنظيمات سياسية جديدة للتنظيم و التكوين و التأطير والاستمرارية في الكفاح والنضال، وفتح نقاشات واسعة، علنية وجريئة، والدعوة للاشتغال على مشروع العمل المشترك بين العديد من الهيئات، ودعم تجارب الفعاليات الحقوقية ونشطاء حقوق الإنسان، من أجل إثراء النقاش في قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية من جهة، ومن جهة أخرى لتطوير الخبرة وتعزيز القدرات الحقوقية بين الفاعلين وإعطاء النضال الحقوقي بعده الحقيقي وربطه بقضايا الديمقراطية والسياسات العمومية المرتبطة بالفضاء العمومي; لم يكونوا خارج التاريخ، بل كانوا في قلبه يصنعونه على أكثر من صعيد. إنها مرحلة تاريخية من عمر الزمن السياسي المغربي، تلك الانطلاقة/الاستمرارية التي دشنتها بداية الألفية الثانية. و نحن نلفت النظر لهذه الأمور، لا يهمنا من قاد هذه الديناميكية المجتمعية، المهم هو قوة تأثيرها في مجريات التاريخ من و جهة نظر الأحداث الوطنية والعالمية الجديدة. نعم، لم يعش الشعب المغربي الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية ولا الثورة الوطنية الديمقراطية ولا الثورة الوطنية، ولا الثورة البورجوازية، ولا ثورة الفلاحين أو العمال، لكن "المضمون الاجتماعي الحداثي الديمقراطي" لتلك الأفكار المؤسسة للثورات كان حاضرا في التجربة التي ولدتها حركة التحرر المغربية بكل ألوانها، وهو النهج الذي ساهم في ترسيخه آلاف من أبناء الوطن الذين جذبهم تيار المدنية و الحداثة و الديمقراطية. طبعا، ليس من الممكن هنا استحضار كل التفاصيل والأحداث التاريخية التي غيرت وجه المغرب في زمن سريع، ربما سيقول المؤرخون في مرحلة قادمة كلمتهم في الموضوع بعيدا عن الإكراهات والحسابات والضغوطات، لكن هذا لا يعني أن نترك المجال للاستخفاف بالحرية وبالديمقراطية مهما كان الحال و الثمن، وهذا لا يعني التنازل لأي تفكير يرجع بنا إلى الوراء معتمدا على "الفنطزية" و"العنترية" والترهيب وإيقاع الألم بالآخرين وتكريس ثقافة الخنوع وإرجاء مطالب الشعب إلى الله. إن العطف على الكادحين لا يعني التشهير و تحقير وضعهم الاجتماعي والتهكم عليهم بما يأكلونه و يشربونه، كما أن العطف على الفاسدين و "السراق" لا يقود مسؤول في الدولة لتشويه مطالب الحركة الاجتماعية التي تطالب بالعدالة الاجتماعية والمحاسبة والمساءلة، والوصول إلى حقيقة "من أين لك هذا؟". فالعدالة هي الوحيدة التي يجب أن تقول كلمتها وليس أي أحد آخر. إنها إيديولوجية سخيفة تحتقر الجميع، وتفتح الطريق إلى الإجهاز على الحلم بالعدالة الاجتماعية و المساواة. بديهي اليوم أن يقارن المرء طبيعة الوزير الأول الحالي بباقي رؤساء الحكومات السابقة. إن |"الشجاعة السياسية" المفرطة، والمقنعة، التي يظهر بها المسؤول الأول في الحكومة وبعض أتباعه، إنما تهدف فقط إلى نشر الخوف والفزع في المجتمع من خلال الاستقواء بالله أحيانا، ومن خلال الخنوع أحيانا أخرى، بدل إزاحة احتكارات بقايا القرون الوسطى وعلاقات القرون الوسطى في المجال الزراعي والتجاري والسياسي الاجتماعي. إن الكلمات والمصطلحات التي يتبجح بها المسؤول الأول في الحكومة في كل المناسبات تخلق خطرا واضحا يؤدي إلى ظهور الشرور الكبيرة التي من حق الجميع أن يرفضها. كما أن اللغو اللغوي وتوزيع الاتهامات والتشكيك في كل شيء وتزوير الحقائق والاستخفاء بالتاريخ و الوقائع، مجرد " ميل" في الكلمات لأحداث الضرر بالآخرين و التهرب من الإعلان رسميا عن الهزيمة والفشل. إن كل ما قدمه الشعب المغربي من تضحيات من أجل بناء الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان، لا يمكن أن يصبح اليوم مهددا بالرجوع إلى المنطق القديم والبائد، منطق الحرب والمواجهة و رفض الآخر. و لهذا، استجابة لمنطق التاريخ و لعصرنا هذا، لا يمكن أن نرضى أو نقبل أي تهديد من دعاة الإغلاق و إضاعة المفاتيح. إن المقياس الحقيقي الوحيد للتشبث بالوطن والشعب هو إسعاد المواطن المغربي من خلال إبادة الاضطهاد والإقصاء و التهميش، ورد الاعتبار للعقل و القضاء على الظلام الدامس وعلى الاستبداد وعلى قصور العقل... و هذا لن يتأتى إلا إذا فتح المجال للمغاربة لعيش مرحلة الوعي الذاتي للخروج من المرحلة الظلامية و الدخول إلى المرحلة المدنية. *أستاذ باحث بكلية الآداب بمكناس