الاتحاد الأوروبي يمنح المغرب 190 مليون أورو لإعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الحوز    الوالي التازي يترأس لجنة تتبع إنجاز مشروع مدينة محمد السادس "طنجة تيك"    السكوري يلتقي الفرق البرلمانية بخصوص تعديلات مشروع قانون الإضراب    تعزيز وتقوية التعاون الأمني يجمع الحموشي بالمديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    في سابقة له.. طواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية يعبر صحراء الربع الخالي        الإنترنت.. معدل انتشار قياسي بلغ 112,7 في المائة عند متم شتنبر    المدعو ولد الشنوية يعجز عن إيجاد محامي يترافع عنه.. تفاصيل مثيرة عن أولى جلسات المحاكمة    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    لاعبتان من الجيش في تشكيل العصبة    "الهاكا" تواكب مناهضة تعنيف النساء    لفتيت: مخطط مكافحة آثار البرد يهم 872 ألف نسمة في حوالي 2014 دوارا    تكريم منظمة مغربية في مؤتمر دولي    المغرب يفقد 12 مركزاً في مؤشر السياحة.. هل يحتاج إلى خارطة طريق جديدة؟    ليبيا: مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي يجدد التأكيد على أهمية مسلسلي الصخيرات وبوزنيقة    غرق مركب سياحي في مصر يحمل 45 شخصاً مع استمرار البحث عن المفقودين    حموشي يستقبل المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية بالرباط    "البيجيدي": الشرعي تجاوز الخطوط الحمراء بمقاله المتماهي مع الصهاينة وينبغي متابعته قانونيا    ريال مدريد يعلن غياب فينسيوس بسبب الإصابة    «الأيام الرمادية» يفوز بالجائزة الكبرى للمسابقة الوطنية بالدورة 13 لمهرجان طنجة للفيلم    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    تكريم الكاتب والاعلامي عبد الرحيم عاشر بالمهرجان الدولي للفيلم القصير بطنجة    انعقاد مجلس للحكومة يوم الخميس المقبل    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    الشرطة توقف مسؤولة مزورة بوزارة العدل نصبت على ضحايا بالناظور    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق الإنسان بين الخصوصية والكونية
نشر في المساء يوم 26 - 03 - 2011

مع ظهور خطاب حقوق الإنسان، تم النظر إلى هذا الأخير لأول مرة من وجهة نظر قانونية، باعتباره «ذاتا للحق» (Sujet de droit) وإلى إنسانيته، باعتبارها مستوى قانونيا تحفظ حرمتَه وكرامتَه مجموعة من الحقوق
المتفق عليها بين واضعي هذه المواثيق والأشخاص والهيآت التي سطرت بنودها وموادَّها.
وقد ارتبط التأسيس الأول لحقوق الإنسان، كخطاب، بالثورة الفرنسية التي وضعت الإعلان الأول باسم «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، لأن إنسانية الإنسان، كما فهمها وجسّدها قادة الثورة الفرنسية، لم تكن في نظرهم تنفصل عن مواطنته، وهو ما يؤكد بحدة وجلاء الطابع السياسي الذي اتخذته هذه الحقوق حينها. إن كلمة «إعلان» (déclaration) نفسها تشير إلى أن الأمر يتعلق بتأسيس شيء لم يكن موجودا من قبل، لا على مستوى الممارسة الحقوقية والسياسية ولا على مستوى الممارسة الخطابية. إن الخطاب الحقوقي، إذن، هو الذي أسس «ذات الحق»، التي لم يكن لها وجود قبله، بمعنى أن الخطاب سابق على الواقع، وهو الذي يؤسسه ويمنحه مشروعيته وطابعه الملموس. ثم أتت اللحظة الثانية التي تجسدت في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، الذي وضعته لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، لتليها المواثيق الخاصة بالحقوق الثقافية والاجتماعية وغيرها، بدءا من عقد الستينيات في القرن الماضي. من الدال هنا الإشارة إلى أن خطاب حقوق الإنسان، سواء في لحظته التأسيسية الأولى أو الثانية، وُلِد في خضمّ الصراعات والعنف الثوري والحروب الماحقة، التي طالت الشَّرْطية الإنسانية نفسَها، عبر الإبادة العرقية والمجازر، كما تجسدت بوضوح في «الحل النهائي»، الذي وضعه هتلر، لذا فإنها انبنت، منذ البداية، على عنصر مجرد كائن ما وراء الثقافات والعقائد والحضارات والإثنيات والهويات، هو الإنسان، في إنسانيته المجردة، بعيدا عن كل تمترس طائفي أو هوياتي، ضمن منظور مثالي «إنسانوي»، وهنا بالذات تكمن خطوتها الافتتاحية غير المسبوقة والعصب المؤسّسُ لها.
طبيعة خطاب حقوق الإنسان
يستدعي خطاب حقوق الإنسان كائنا مجردا، شيئا ما، كنموذج أصلي (Prototype)، فيه تتجسد كل السمات المثالية التي «لم تلوثها» الانتماءات والإقصاءات والاختزالات، أي كائنا أسسه الخطاب ويحاول إيجاد ركائز ملموسة له في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والحضاري. لكن الحقائق التاريخية البيّنة تؤكد، بالملموس، أن الإنسان، أيَّ إنسان، لا يمكن استدعاؤه من حيث هو كذلك، إلا انطلاقا من انتمائه الخاص إلى لغة وثقافة وهوية، وهو ما يطرح العديد من الإشكالات بصدد تلقي خطاب حقوق الإنسان وتماهيه مع أوضاع وسياقات متنوعة ومتناقضة. من نافل القول إن حقوق الإنسان وُلِدت منذ البداية مشوبة بالمرجعية التي أفرزتها، وهي «النزعة العرقية المركزية الأوربية»، لأن «أسباب نزولها» ارتبطت بسياقات ومرجعيات تاريخية أوربية قبل أن يتم تعميم الخطاب، انطلاقا من رغبة إرادوية لباقي ساكنة الأرض، والتعامل معها انطلاقا من ذلك، بغض النظر عن اختلافاتها وتمظهراتها، الثقافية والتاريخية. إن ارتباط هذه الحقوق ب»النزعة المركزية الأوربية» خلق العديد من ردود الفعل الرافضة لها وأفرز العديد من المقاومات، لِما تحتويه من بنود ومواد، رغم أن هذه المواد تظل، في منطوقها المباشر والمعلن، في صالح الإنسان أولا وأخيرا، وفي صالح إنسانيته المفترضة، لأنها غير متحققة هنا -الآن على أرض الواقع.
ينضاف إلى هذا أن اللحظة التأسيسية الثانية، كما تجسدت في إعلان ما بعد الحرب العالمية الثانية، أتت في سياق تاريخي اتسم بهيمنة القوى الكولونيالية الأوربية على العديد من البلدان والشعوب في إفريقيا وآسيا وغيرها، وهو البعد الذي كشف العديد من التناقضات أمام أعين العديد من مثقفي العالم الثالث، إذ كيف يمكن الحديث عن حقوق إنسان ذات مرجعية فلسفية وقانونية أوربية أصلا، أمام الأفراد المنتمين إلى الشعوب المستعمَرة من طرف هذه القوى الأوربية نفسها؟ كيف يمكن الحديث عن الإنسان ك«ذات للحق» بالنسبة إلى الفرد المستعمَر، المعرَّض لشراسة القهر والاستغلال الذي أفرزه التقسيم الدولي للشغل من طرف الدول الكولونيالية؟...
أفرز تأسيس خطاب الإنسان، المشوب بتناقضاته، واقعا ملتبسا متعلقا بطبيعة تلقيه من طرف شعوب وجماعات بشرية أخرى مغايرة ثقافيا للمرجعية الأوربية، وأيضا بطبيعة تأويله وفهمه، وخصوصا انطلاقا من ثنائية الخصوصية الثقافية والمنظومة الكونية، أو ما يسمى عالمية هذه الحقوق. صحيح أن جزءا كبيرا من البشرية لم يشارك في لحظة التأسيس العالمي لهذه الحقوق ولم يكن، بحكم وضعه الاعتباري المهمَّش والمستغَل، معنيا بها. يرفض دعاة الخصوصية الثقافية، سواء كانوا من اليمين أو اليسار، خطاب حقوق الإنسان، بدعوى الحفاظ على مقومات الهوية والكيان الثقافي والحضاري أو ثوابت الأمة وعقائدها أو انتمائها الحضاري، إلى غير ذلك من الحجج الإقناعية التي تؤثث خطاباتهم. إن رفض حقوق الإنسان باسم الخصوصية الثقافية والحضارية يعني، ضمن ما يعنيه، أن مفهوم «إنسان» يظل نسبيا ولا يسري على كل الثقافات والخصوصيات، التي تمتلك كل واحدة منها فهمها الخاص له. إنها تستعمل مفهوم «إنسان» في معناه الحصري الضيق، تماما كما تستعمل في الفرنسية الكلمة «homme»، بحرف «h» صغير، لنعني بها شخصا بعينه، أو بحرف «H» كبير، لنعني بها الإنسان ككل، أي في بعده الكوني المجرد. إن الصراع بين الخصوصية والكونية ليس مجرد صراع ثقافي أو حضاري أو عقائدي، كما يدّعي الكثيرون من دعاة الحفاظ على الخصوصية، بل هو صراع حول الهيمنة، يخاض كصراع بين مشاريع وخطابات، يشرعن بعضها ل«يوتوبيا» (utopie) محافِظة واستبدادية تروم الإبقاء على الوضع كما هو، خدمة لأهداف سياسية وإيديولوجية، معلَنة أو خفية، ويشرعن بعضها الآخر كمدافع عن كونية أو عالمية هذه الحقوق، ل«يوتوبيا» كونية وتحررية، همُّها الأساس إخراج الإنسان، من حيث هو إنسان أولا وأخيرا، من أسر الهويات والانتماءات والإيديولوجيات القاتلة والقاهرة، ليتحقق في إنسانيته، بغض النظر عن كل مرجعية إثنو -ثقافية مختزَلة.
الدستور المغربي وإشكالية الحريات
في ما يخصنا نحن في المغرب، فقد نص أحد التعديلات الدستورية التي تمت إبان حكم الحسن الثاني، في إحدى مواده، على وجوب احترام حقوق الإنسان كما هو متوافق عليها عالميا. كان الأمر، حينها، خطوة هامة إلى الأمام، ولو على مستوى الخطاب الدستوري، خصوصا أنه أتى في خضم سنوات الجمر والرصاص. لكن صراع المرجعية الثقافية بين الخصوصية المغربية وكونية حقوق الإنسان ظل حاضرا، بقوة، في الساحة السياسية ويشهد، باستمرار، لحظات مد وجزر، تتحكم فيها لحظات التشدد السياسي والارتخاء الذي تتحكم فيها، في أغلب الأحيان، عوامل خارجية.
لقد ظل النظام السياسي في المغرب، وخصوصا في مرحلة الانفراج السياسي التي دشنتها تجربة «التناوب التوافقي» مع المناضل عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول، محافظا، باستمرار، على توازن هش بين الخصوصية على مستوى الخطاب والممارسة السياسيين وهوامش محدودة جدا تراعى فيها مبادئ الكونية وموادها. اللافت للنظر هو أن المدافعين عن كونية حقوق الإنسان وارتباطها بالمنظومة الدولية في المغرب كانوا، دوما، يأتون وما زالوا كذلك من المجتمع المدني، بجمعياته ومنظماته الحقوقية، وهو ما يعني تقاسما وتبادلا غيرَ متفق عليهما في الأدوار والوظائف. واللافت للنظر، أيضا، أن السنوات القليلة الماضية شهدت تنوعا في المشهد الحقوقي في المغرب وبرزت جمعيات ومنظمات أصبحت، بحكم المرجعية الإيديولوجية لمؤسسيها، تدافع بوضوح عن الخصوصية، ممزوجة بالقليل جدا من كونية هذه الحقوق، وهو ما أفرز فعَلة آخرين، غير السلطة السياسية، ينافسون الجمعيات والمنظمات الحقوقية، التي ارتبطت بأحزاب اليسار أو الأحزاب الليبرالية، شرعيةَ دفاعها عن هذه الحقوق. مع بروز هذا المعطي الجديد، تنوعت أهداف ومسارات الرافضين لكونية حقوق الإنسان والمدافعين عن الخصوصية الثقافية المغربية والمناضلين من أجل الاعتراف بالمرجعية الكونية، باعتبارها المرجعية الوحيدة التي يمكن أن تضع المغرب في مصافّ الدول والمجتمعات المتقدمة حقوقيا وقانونيا.
لن ننسى في هذا السياق الدور الهام الذي لعبته «هيأة الإنصاف والمصالحة» في خلق نوع من التصالح الحقوقي مع ذاتنا المغربية المكلومة، من خلال التوصيات التي نصت عليها، ولا الدور الذي لعبه أشخاص ومناضلون مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة.
أحيانا كثيرة، يبدو الصراع من أجل الالتزام بنوع من الخصوصية أو الاستثناء الثقافي شبيها بمعركة ماكرة ومخادعة، تخفي وراءها مجموعة من النوايا التي غالبا ما تُعبّد الطريق نحو الجحيم. إنها معركة ترهن مستقبل حقوق الإنسان، كخطاب وكممارسة، وتعوقها، وإلا فإننا يمكن أن نتساءل: ما الأهم، هل هو الإنسان في إنسانيته الكونية، خصوصا في زمن أصبح فيه كل شيء معولَماً، من المجازر والحروب وحتى الأزمات المالية والاقتصادية والكوارث الطبيعية، أم الإنسان المتقوقع على انتماءاته الضيقة؟ لنتأمل، مثلا، كيف أن جريمة اغتيال همّت فردا واحدا، هو رفيق الحريري، في بلد صغير كلبنان، أصبحت شأنا حقوقيا وقانونيا دوليا من أجله نصّبت الأمم المتحدة محكمة خاصة، ولنتأمل، في المقابل، كيف أن جرائم إبادة عرقية، كالتي ارتُكِبت في دارفور، لم توقظ «الضمير» الدولي إلا بعد أن بلغ عدد ضحاياها سقف 200 ألف ضحية... يقودنا هذا بالذات، وفي الجانب الآخر إلى القول إن مسألة حقوق الإنسان نفسَها تظل، دوما، مرتبطة بمصالح الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. إن المنظمات الدولية، باعتبارها مُهيمَنا عليها من طرف الغرب، تحت الزعامة الأمريكية، موسوعة بعقيدة خاصة بالغرب، لكن دولا وشعوبا أخرى ترفضها، لأسباب خاصة، عقيدة الديمقراطية وحقوق الإنسان والسوق.
إنها عقيدة وصفها فوكوياما قائلا «إنها شكل دنيوي للكونية المسيحية»، أي عقيدة الغرب الديمقراطي. لكن هذا الأمر ليس أبدا حجة لتبرير استمرار أنظمة استبدادية لا تعترف بإنسانية الإنسان وحقوقه، بدعوى الحفاظ على خصوصية تظل، في كل الأحوال، مجرد مبرر لإبقاء الوضع كما هو، أيا كانت مرجعية هذا التبرير. إن أغلب النقد الذي يوجهه دارسون وفاعلون سياسيون وفلاسفة غربيون لحقوق الإنسان ينحصر في تحول هذه الحقوق إلى إيديولوجيا منتجة للضحايا أو لذوات منذورة للتماهي، وهذا المعنى الأضحوي (Victinaire)، وخصوصا بعد أن انزاحت حقوق الإنسان في اتجاه النزعة الإنسانوية الأخلاقية المرتبطة سياسيا بأخلاق العطف والرأفة. إذا كانت سياسة حقوق الإنسان، في كونيتها، مرتبطة فقط بسياسة العطف والرأفة، فإنها حتما ستنتمي إلى منطق التشويه الإيديولوجي. من الضروري تحقق الإنسان من حيث هو «ذات للحق»، مفترضة وممكنة. إن أي تفكير ممكن في حقوق الإنسان يجب أن يأخذ بعين الاعتبار إمكانية تفكير إنسان حقوق الإنسان كحامل لدلالة جماعية قوية تميزه، خاصة كذات سياسية. ذاك ما يجعل سياسة حقوق الإنسان نفسَها تقييما للبعد الكوني للمواطن، بطريقة مغايرة لكل تصور تجريدي عقلاني، وتقييما لموقف الرفض، الناهض على خصوصية تُعلي من شأن الانتماءات الهوياتية والطائفية الدينية والعرقية وتكرس الخصوصيات كنوع من المقاومات الخارجية لسياسة كهذه...
إنه الابتعاد عن تصور تجريري للإنسان ككائن حي يعاني، أي الإنسان ككائن يسير على قدمين بلا ريش، حسب الصورة الأرسطية التي وظفها الفيلسوف الفرنسي ألان باديو في كتابه «الإطيقا» والابتعاد، أيضا، عن صورة الإنسان كرهين لانتماءات هوياتية تلغي حريته وشرطيته كإنسان.


مبدأ الدفاع عن الخوصصة في مجال حقوق الأنسان
إن الرافضين لحقوق الإنسان، انطلاقا من مبدأ الدفاع عن الخصوصية الثقافية أو الدينية أو التاريخية أو غيرها، نوعان، أما النوع الأول فينحصر في مالكي السلطة السياسية والمتحكمين في القرار السياسي ومصائر شعوبهم، وأغلب هؤلاء يرفضون حقوق الإنسان، لهدف غير مُعلَن، وهو الدفاع عن سلطهم ومصالحهم السياسية: بعض هؤلاء يرفضونها، لأن شرعية حقوق الإنسان قد تحد من شرعيتهم السياسية المفترضة، خصوصا أن الأمر يتعلق بإنسان ذي حقوق، في الوقت الذي تعيش شعوبهم في ظل وضع يعرف الغياب التام للديمقراطية والعدالة الاجتماعية ويعرف الخرق الدائم لهذه الحقوق، كما هو الحال في الأنظمة التسلطية الاستبدادية التي تمنحنا الآن الكثير من المناطق في العالم العربي «نموذجا» دالا عليها. هنا بالذات، تصير الخصوصية ملونة بطبيعة السلطة السياسية للحاكم أو لنظامه، أي خصوصية مفترى عليها، المراد منها أساس إقصاء أي خطاب آخر من شأنه منافسة النظام في شرعيته الثابتة، التي لا حدود لها، في ممارسة كل أشكال العسف والتنكيل. فباسم هذه الخصوصية ترفض الصين، مثلا، وأنظمة عربية و»عالمثالثية» حقوق الإنسان. أما النوع الثاني فينحصر في مالكي السلطة الدينية، أي في التيارات والحركات المرتبطة بالإسلام السياسي، هؤلاء يدافعون عن خصوصية ذات طابع ديني سياسي محض، بدعوى أن الخطاب الديني أعلى شأنا وأهمية من الخطاب الحقوقي وأن الأول مصدره إلهي -ديني، والثاني مصدره بشري -وضعي ودنيوي. يقول المدافعون عن الخصوصية الدينية الرافضة لحقوق الإنسان إن العبودية لله، والوضع الاعتباري للفرد كعبد مرتبط بعبادة الخالق، في مختلف تجلياتها، تحتل مكان الأولوية على مقام الإنسان. أما الطرح الآخر الذي يدافعون عنه فيرتبط بطبيعة المرجعية الكامنة خلف خطاب حقوق الإنسان، والتي يُجرّمها الكثيرون منهم ويكفرها المتطرفون منهم، باعتبارها علمانية ولائكية ولا تراعي منطق الألوهية واحترام العقيدة، خصوصا بالنظر إلى المادة التي تنص على حرية التديُّن وعدمه ضمن «الإعلان العالمي» لسنة 1984.
الأمر الآخر الذي يشدد عليه الرافضون لحقوق الإنسان، انطلاقا من مبدأ الخصوصية الدينية، هو أنه لا وجود لمفهوم «إنسانية» في خطاباتهم، التي تنص، خلاف ذلك، على مفهوم «الأمة»، المنتمي إلى حقل دلالي ديني، لأن «الإنسانية» تتكون، أصلا، من مجموعة الشعوب التي تعيش فوق الكرة الأرضية، ومفهوم «شعب» ذو مدلول سياسي محض، ينظم جماعة المواطنين في المقام الأخير، بينما ينتظم مفهوم «أمة»، ذو الطابع الهلامي المتعذر تحديده عمليا، جماعة المؤمنين.
ينضاف إلى هذا طرح «الشرعية» وحدها كمصدر لتشريع بالنسبة إلى دعاة هذا الموقف، وهو ما لا يقصي بالضرورة حقوق الإنسان وحدها، بل وأيضا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والحريات الفردية والجماعية... إلخ. من المفاهيم والاصطلاحات ذات الطابع السياسي والاجتماعي المحض، ذاك ما يقود، أحيانا، مفكري هذا التيار، المدافعين عن الخصوصية الدينية، إلى الحديث، أحيانا، عن «حقوق دينية للإنسان»، تظل غير واضحة المعالم والنوايا، إذ كيف سيتم التعامل، في مجتمع متعدد الأديان والطوائف، مع الأقليات المنتمية إلى أديان وعقائد أخرى، كالأقباط في مصر أو المسيحيين في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها؟ وكيف يمكن، إذن، بالنظر إلى خطورة التحديات التي يعرفها واقع التعايش والتسامح والمخاطر الذي تتهدده باستمرار، ضمان حرية التدين بالنسبة إلى هذه الأقليات؟...
لقد رأينا كيف أن المد المتطرف الذي يجتاح باكستان، بمختلف شرائحها الاجتماعية والسياسية والثقافية، يرفض هذا بالنسبة إلى أقليات دينية لا تتراوح نسبتها، بين مجموع الساكنة المسلمة، ما بين 2 و6%. إن الأمر يتجاوز، إذن، بعد طرح خطابات حول الخصوصية والدفاع عنها، إلى الواقع التاريخي الملموس، وهو تحد مطروح وسيظل مطروحا إلى حين، أي إلى أن يتم التفكير، نظريا وعمليا، في مفهوم «الدولة -المدينة»، التي تضمن حقوق الطوائف والأقليات، أيا كانت، عرقية أو دينية أو ثقافية. إن الدفاع عن الخصوصية، إذن، لا يتم، دائما، للأسباب ذاتها، فهو يُطرَح إما لضمان استمرارية نظام قمعي تسلطي أو لدواع سياسية لاهوتية، بهدف تأسيس الدولة التيوقراطية، ذات المرجعية الدينية الموحدة، التي تُعامَل أقلياتها كهوامشَ نشاز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.