التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    لقاء يجمع وهبي بجمعية هيئات المحامين    هولندا.. إيقاف 62 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بشغب أحداث أمستردام    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    الأمانة العامة للحكومة تطلق ورش تحيين ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية وتُعد دليلا للمساطر    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    مجلة إسبانية: 49 عاما من التقدم والتنمية في الصحراء المغربية    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق الإنسان بين الخصوصية والكونية
نشر في المساء يوم 26 - 03 - 2011

مع ظهور خطاب حقوق الإنسان، تم النظر إلى هذا الأخير لأول مرة من وجهة نظر قانونية، باعتباره «ذاتا للحق» (Sujet de droit) وإلى إنسانيته، باعتبارها مستوى قانونيا تحفظ حرمتَه وكرامتَه مجموعة من الحقوق
المتفق عليها بين واضعي هذه المواثيق والأشخاص والهيآت التي سطرت بنودها وموادَّها.
وقد ارتبط التأسيس الأول لحقوق الإنسان، كخطاب، بالثورة الفرنسية التي وضعت الإعلان الأول باسم «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، لأن إنسانية الإنسان، كما فهمها وجسّدها قادة الثورة الفرنسية، لم تكن في نظرهم تنفصل عن مواطنته، وهو ما يؤكد بحدة وجلاء الطابع السياسي الذي اتخذته هذه الحقوق حينها. إن كلمة «إعلان» (déclaration) نفسها تشير إلى أن الأمر يتعلق بتأسيس شيء لم يكن موجودا من قبل، لا على مستوى الممارسة الحقوقية والسياسية ولا على مستوى الممارسة الخطابية. إن الخطاب الحقوقي، إذن، هو الذي أسس «ذات الحق»، التي لم يكن لها وجود قبله، بمعنى أن الخطاب سابق على الواقع، وهو الذي يؤسسه ويمنحه مشروعيته وطابعه الملموس. ثم أتت اللحظة الثانية التي تجسدت في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، الذي وضعته لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، لتليها المواثيق الخاصة بالحقوق الثقافية والاجتماعية وغيرها، بدءا من عقد الستينيات في القرن الماضي. من الدال هنا الإشارة إلى أن خطاب حقوق الإنسان، سواء في لحظته التأسيسية الأولى أو الثانية، وُلِد في خضمّ الصراعات والعنف الثوري والحروب الماحقة، التي طالت الشَّرْطية الإنسانية نفسَها، عبر الإبادة العرقية والمجازر، كما تجسدت بوضوح في «الحل النهائي»، الذي وضعه هتلر، لذا فإنها انبنت، منذ البداية، على عنصر مجرد كائن ما وراء الثقافات والعقائد والحضارات والإثنيات والهويات، هو الإنسان، في إنسانيته المجردة، بعيدا عن كل تمترس طائفي أو هوياتي، ضمن منظور مثالي «إنسانوي»، وهنا بالذات تكمن خطوتها الافتتاحية غير المسبوقة والعصب المؤسّسُ لها.
طبيعة خطاب حقوق الإنسان
يستدعي خطاب حقوق الإنسان كائنا مجردا، شيئا ما، كنموذج أصلي (Prototype)، فيه تتجسد كل السمات المثالية التي «لم تلوثها» الانتماءات والإقصاءات والاختزالات، أي كائنا أسسه الخطاب ويحاول إيجاد ركائز ملموسة له في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والحضاري. لكن الحقائق التاريخية البيّنة تؤكد، بالملموس، أن الإنسان، أيَّ إنسان، لا يمكن استدعاؤه من حيث هو كذلك، إلا انطلاقا من انتمائه الخاص إلى لغة وثقافة وهوية، وهو ما يطرح العديد من الإشكالات بصدد تلقي خطاب حقوق الإنسان وتماهيه مع أوضاع وسياقات متنوعة ومتناقضة. من نافل القول إن حقوق الإنسان وُلِدت منذ البداية مشوبة بالمرجعية التي أفرزتها، وهي «النزعة العرقية المركزية الأوربية»، لأن «أسباب نزولها» ارتبطت بسياقات ومرجعيات تاريخية أوربية قبل أن يتم تعميم الخطاب، انطلاقا من رغبة إرادوية لباقي ساكنة الأرض، والتعامل معها انطلاقا من ذلك، بغض النظر عن اختلافاتها وتمظهراتها، الثقافية والتاريخية. إن ارتباط هذه الحقوق ب»النزعة المركزية الأوربية» خلق العديد من ردود الفعل الرافضة لها وأفرز العديد من المقاومات، لِما تحتويه من بنود ومواد، رغم أن هذه المواد تظل، في منطوقها المباشر والمعلن، في صالح الإنسان أولا وأخيرا، وفي صالح إنسانيته المفترضة، لأنها غير متحققة هنا -الآن على أرض الواقع.
ينضاف إلى هذا أن اللحظة التأسيسية الثانية، كما تجسدت في إعلان ما بعد الحرب العالمية الثانية، أتت في سياق تاريخي اتسم بهيمنة القوى الكولونيالية الأوربية على العديد من البلدان والشعوب في إفريقيا وآسيا وغيرها، وهو البعد الذي كشف العديد من التناقضات أمام أعين العديد من مثقفي العالم الثالث، إذ كيف يمكن الحديث عن حقوق إنسان ذات مرجعية فلسفية وقانونية أوربية أصلا، أمام الأفراد المنتمين إلى الشعوب المستعمَرة من طرف هذه القوى الأوربية نفسها؟ كيف يمكن الحديث عن الإنسان ك«ذات للحق» بالنسبة إلى الفرد المستعمَر، المعرَّض لشراسة القهر والاستغلال الذي أفرزه التقسيم الدولي للشغل من طرف الدول الكولونيالية؟...
أفرز تأسيس خطاب الإنسان، المشوب بتناقضاته، واقعا ملتبسا متعلقا بطبيعة تلقيه من طرف شعوب وجماعات بشرية أخرى مغايرة ثقافيا للمرجعية الأوربية، وأيضا بطبيعة تأويله وفهمه، وخصوصا انطلاقا من ثنائية الخصوصية الثقافية والمنظومة الكونية، أو ما يسمى عالمية هذه الحقوق. صحيح أن جزءا كبيرا من البشرية لم يشارك في لحظة التأسيس العالمي لهذه الحقوق ولم يكن، بحكم وضعه الاعتباري المهمَّش والمستغَل، معنيا بها. يرفض دعاة الخصوصية الثقافية، سواء كانوا من اليمين أو اليسار، خطاب حقوق الإنسان، بدعوى الحفاظ على مقومات الهوية والكيان الثقافي والحضاري أو ثوابت الأمة وعقائدها أو انتمائها الحضاري، إلى غير ذلك من الحجج الإقناعية التي تؤثث خطاباتهم. إن رفض حقوق الإنسان باسم الخصوصية الثقافية والحضارية يعني، ضمن ما يعنيه، أن مفهوم «إنسان» يظل نسبيا ولا يسري على كل الثقافات والخصوصيات، التي تمتلك كل واحدة منها فهمها الخاص له. إنها تستعمل مفهوم «إنسان» في معناه الحصري الضيق، تماما كما تستعمل في الفرنسية الكلمة «homme»، بحرف «h» صغير، لنعني بها شخصا بعينه، أو بحرف «H» كبير، لنعني بها الإنسان ككل، أي في بعده الكوني المجرد. إن الصراع بين الخصوصية والكونية ليس مجرد صراع ثقافي أو حضاري أو عقائدي، كما يدّعي الكثيرون من دعاة الحفاظ على الخصوصية، بل هو صراع حول الهيمنة، يخاض كصراع بين مشاريع وخطابات، يشرعن بعضها ل«يوتوبيا» (utopie) محافِظة واستبدادية تروم الإبقاء على الوضع كما هو، خدمة لأهداف سياسية وإيديولوجية، معلَنة أو خفية، ويشرعن بعضها الآخر كمدافع عن كونية أو عالمية هذه الحقوق، ل«يوتوبيا» كونية وتحررية، همُّها الأساس إخراج الإنسان، من حيث هو إنسان أولا وأخيرا، من أسر الهويات والانتماءات والإيديولوجيات القاتلة والقاهرة، ليتحقق في إنسانيته، بغض النظر عن كل مرجعية إثنو -ثقافية مختزَلة.
الدستور المغربي وإشكالية الحريات
في ما يخصنا نحن في المغرب، فقد نص أحد التعديلات الدستورية التي تمت إبان حكم الحسن الثاني، في إحدى مواده، على وجوب احترام حقوق الإنسان كما هو متوافق عليها عالميا. كان الأمر، حينها، خطوة هامة إلى الأمام، ولو على مستوى الخطاب الدستوري، خصوصا أنه أتى في خضم سنوات الجمر والرصاص. لكن صراع المرجعية الثقافية بين الخصوصية المغربية وكونية حقوق الإنسان ظل حاضرا، بقوة، في الساحة السياسية ويشهد، باستمرار، لحظات مد وجزر، تتحكم فيها لحظات التشدد السياسي والارتخاء الذي تتحكم فيها، في أغلب الأحيان، عوامل خارجية.
لقد ظل النظام السياسي في المغرب، وخصوصا في مرحلة الانفراج السياسي التي دشنتها تجربة «التناوب التوافقي» مع المناضل عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول، محافظا، باستمرار، على توازن هش بين الخصوصية على مستوى الخطاب والممارسة السياسيين وهوامش محدودة جدا تراعى فيها مبادئ الكونية وموادها. اللافت للنظر هو أن المدافعين عن كونية حقوق الإنسان وارتباطها بالمنظومة الدولية في المغرب كانوا، دوما، يأتون وما زالوا كذلك من المجتمع المدني، بجمعياته ومنظماته الحقوقية، وهو ما يعني تقاسما وتبادلا غيرَ متفق عليهما في الأدوار والوظائف. واللافت للنظر، أيضا، أن السنوات القليلة الماضية شهدت تنوعا في المشهد الحقوقي في المغرب وبرزت جمعيات ومنظمات أصبحت، بحكم المرجعية الإيديولوجية لمؤسسيها، تدافع بوضوح عن الخصوصية، ممزوجة بالقليل جدا من كونية هذه الحقوق، وهو ما أفرز فعَلة آخرين، غير السلطة السياسية، ينافسون الجمعيات والمنظمات الحقوقية، التي ارتبطت بأحزاب اليسار أو الأحزاب الليبرالية، شرعيةَ دفاعها عن هذه الحقوق. مع بروز هذا المعطي الجديد، تنوعت أهداف ومسارات الرافضين لكونية حقوق الإنسان والمدافعين عن الخصوصية الثقافية المغربية والمناضلين من أجل الاعتراف بالمرجعية الكونية، باعتبارها المرجعية الوحيدة التي يمكن أن تضع المغرب في مصافّ الدول والمجتمعات المتقدمة حقوقيا وقانونيا.
لن ننسى في هذا السياق الدور الهام الذي لعبته «هيأة الإنصاف والمصالحة» في خلق نوع من التصالح الحقوقي مع ذاتنا المغربية المكلومة، من خلال التوصيات التي نصت عليها، ولا الدور الذي لعبه أشخاص ومناضلون مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة.
أحيانا كثيرة، يبدو الصراع من أجل الالتزام بنوع من الخصوصية أو الاستثناء الثقافي شبيها بمعركة ماكرة ومخادعة، تخفي وراءها مجموعة من النوايا التي غالبا ما تُعبّد الطريق نحو الجحيم. إنها معركة ترهن مستقبل حقوق الإنسان، كخطاب وكممارسة، وتعوقها، وإلا فإننا يمكن أن نتساءل: ما الأهم، هل هو الإنسان في إنسانيته الكونية، خصوصا في زمن أصبح فيه كل شيء معولَماً، من المجازر والحروب وحتى الأزمات المالية والاقتصادية والكوارث الطبيعية، أم الإنسان المتقوقع على انتماءاته الضيقة؟ لنتأمل، مثلا، كيف أن جريمة اغتيال همّت فردا واحدا، هو رفيق الحريري، في بلد صغير كلبنان، أصبحت شأنا حقوقيا وقانونيا دوليا من أجله نصّبت الأمم المتحدة محكمة خاصة، ولنتأمل، في المقابل، كيف أن جرائم إبادة عرقية، كالتي ارتُكِبت في دارفور، لم توقظ «الضمير» الدولي إلا بعد أن بلغ عدد ضحاياها سقف 200 ألف ضحية... يقودنا هذا بالذات، وفي الجانب الآخر إلى القول إن مسألة حقوق الإنسان نفسَها تظل، دوما، مرتبطة بمصالح الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. إن المنظمات الدولية، باعتبارها مُهيمَنا عليها من طرف الغرب، تحت الزعامة الأمريكية، موسوعة بعقيدة خاصة بالغرب، لكن دولا وشعوبا أخرى ترفضها، لأسباب خاصة، عقيدة الديمقراطية وحقوق الإنسان والسوق.
إنها عقيدة وصفها فوكوياما قائلا «إنها شكل دنيوي للكونية المسيحية»، أي عقيدة الغرب الديمقراطي. لكن هذا الأمر ليس أبدا حجة لتبرير استمرار أنظمة استبدادية لا تعترف بإنسانية الإنسان وحقوقه، بدعوى الحفاظ على خصوصية تظل، في كل الأحوال، مجرد مبرر لإبقاء الوضع كما هو، أيا كانت مرجعية هذا التبرير. إن أغلب النقد الذي يوجهه دارسون وفاعلون سياسيون وفلاسفة غربيون لحقوق الإنسان ينحصر في تحول هذه الحقوق إلى إيديولوجيا منتجة للضحايا أو لذوات منذورة للتماهي، وهذا المعنى الأضحوي (Victinaire)، وخصوصا بعد أن انزاحت حقوق الإنسان في اتجاه النزعة الإنسانوية الأخلاقية المرتبطة سياسيا بأخلاق العطف والرأفة. إذا كانت سياسة حقوق الإنسان، في كونيتها، مرتبطة فقط بسياسة العطف والرأفة، فإنها حتما ستنتمي إلى منطق التشويه الإيديولوجي. من الضروري تحقق الإنسان من حيث هو «ذات للحق»، مفترضة وممكنة. إن أي تفكير ممكن في حقوق الإنسان يجب أن يأخذ بعين الاعتبار إمكانية تفكير إنسان حقوق الإنسان كحامل لدلالة جماعية قوية تميزه، خاصة كذات سياسية. ذاك ما يجعل سياسة حقوق الإنسان نفسَها تقييما للبعد الكوني للمواطن، بطريقة مغايرة لكل تصور تجريدي عقلاني، وتقييما لموقف الرفض، الناهض على خصوصية تُعلي من شأن الانتماءات الهوياتية والطائفية الدينية والعرقية وتكرس الخصوصيات كنوع من المقاومات الخارجية لسياسة كهذه...
إنه الابتعاد عن تصور تجريري للإنسان ككائن حي يعاني، أي الإنسان ككائن يسير على قدمين بلا ريش، حسب الصورة الأرسطية التي وظفها الفيلسوف الفرنسي ألان باديو في كتابه «الإطيقا» والابتعاد، أيضا، عن صورة الإنسان كرهين لانتماءات هوياتية تلغي حريته وشرطيته كإنسان.


مبدأ الدفاع عن الخوصصة في مجال حقوق الأنسان
إن الرافضين لحقوق الإنسان، انطلاقا من مبدأ الدفاع عن الخصوصية الثقافية أو الدينية أو التاريخية أو غيرها، نوعان، أما النوع الأول فينحصر في مالكي السلطة السياسية والمتحكمين في القرار السياسي ومصائر شعوبهم، وأغلب هؤلاء يرفضون حقوق الإنسان، لهدف غير مُعلَن، وهو الدفاع عن سلطهم ومصالحهم السياسية: بعض هؤلاء يرفضونها، لأن شرعية حقوق الإنسان قد تحد من شرعيتهم السياسية المفترضة، خصوصا أن الأمر يتعلق بإنسان ذي حقوق، في الوقت الذي تعيش شعوبهم في ظل وضع يعرف الغياب التام للديمقراطية والعدالة الاجتماعية ويعرف الخرق الدائم لهذه الحقوق، كما هو الحال في الأنظمة التسلطية الاستبدادية التي تمنحنا الآن الكثير من المناطق في العالم العربي «نموذجا» دالا عليها. هنا بالذات، تصير الخصوصية ملونة بطبيعة السلطة السياسية للحاكم أو لنظامه، أي خصوصية مفترى عليها، المراد منها أساس إقصاء أي خطاب آخر من شأنه منافسة النظام في شرعيته الثابتة، التي لا حدود لها، في ممارسة كل أشكال العسف والتنكيل. فباسم هذه الخصوصية ترفض الصين، مثلا، وأنظمة عربية و»عالمثالثية» حقوق الإنسان. أما النوع الثاني فينحصر في مالكي السلطة الدينية، أي في التيارات والحركات المرتبطة بالإسلام السياسي، هؤلاء يدافعون عن خصوصية ذات طابع ديني سياسي محض، بدعوى أن الخطاب الديني أعلى شأنا وأهمية من الخطاب الحقوقي وأن الأول مصدره إلهي -ديني، والثاني مصدره بشري -وضعي ودنيوي. يقول المدافعون عن الخصوصية الدينية الرافضة لحقوق الإنسان إن العبودية لله، والوضع الاعتباري للفرد كعبد مرتبط بعبادة الخالق، في مختلف تجلياتها، تحتل مكان الأولوية على مقام الإنسان. أما الطرح الآخر الذي يدافعون عنه فيرتبط بطبيعة المرجعية الكامنة خلف خطاب حقوق الإنسان، والتي يُجرّمها الكثيرون منهم ويكفرها المتطرفون منهم، باعتبارها علمانية ولائكية ولا تراعي منطق الألوهية واحترام العقيدة، خصوصا بالنظر إلى المادة التي تنص على حرية التديُّن وعدمه ضمن «الإعلان العالمي» لسنة 1984.
الأمر الآخر الذي يشدد عليه الرافضون لحقوق الإنسان، انطلاقا من مبدأ الخصوصية الدينية، هو أنه لا وجود لمفهوم «إنسانية» في خطاباتهم، التي تنص، خلاف ذلك، على مفهوم «الأمة»، المنتمي إلى حقل دلالي ديني، لأن «الإنسانية» تتكون، أصلا، من مجموعة الشعوب التي تعيش فوق الكرة الأرضية، ومفهوم «شعب» ذو مدلول سياسي محض، ينظم جماعة المواطنين في المقام الأخير، بينما ينتظم مفهوم «أمة»، ذو الطابع الهلامي المتعذر تحديده عمليا، جماعة المؤمنين.
ينضاف إلى هذا طرح «الشرعية» وحدها كمصدر لتشريع بالنسبة إلى دعاة هذا الموقف، وهو ما لا يقصي بالضرورة حقوق الإنسان وحدها، بل وأيضا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والحريات الفردية والجماعية... إلخ. من المفاهيم والاصطلاحات ذات الطابع السياسي والاجتماعي المحض، ذاك ما يقود، أحيانا، مفكري هذا التيار، المدافعين عن الخصوصية الدينية، إلى الحديث، أحيانا، عن «حقوق دينية للإنسان»، تظل غير واضحة المعالم والنوايا، إذ كيف سيتم التعامل، في مجتمع متعدد الأديان والطوائف، مع الأقليات المنتمية إلى أديان وعقائد أخرى، كالأقباط في مصر أو المسيحيين في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها؟ وكيف يمكن، إذن، بالنظر إلى خطورة التحديات التي يعرفها واقع التعايش والتسامح والمخاطر الذي تتهدده باستمرار، ضمان حرية التدين بالنسبة إلى هذه الأقليات؟...
لقد رأينا كيف أن المد المتطرف الذي يجتاح باكستان، بمختلف شرائحها الاجتماعية والسياسية والثقافية، يرفض هذا بالنسبة إلى أقليات دينية لا تتراوح نسبتها، بين مجموع الساكنة المسلمة، ما بين 2 و6%. إن الأمر يتجاوز، إذن، بعد طرح خطابات حول الخصوصية والدفاع عنها، إلى الواقع التاريخي الملموس، وهو تحد مطروح وسيظل مطروحا إلى حين، أي إلى أن يتم التفكير، نظريا وعمليا، في مفهوم «الدولة -المدينة»، التي تضمن حقوق الطوائف والأقليات، أيا كانت، عرقية أو دينية أو ثقافية. إن الدفاع عن الخصوصية، إذن، لا يتم، دائما، للأسباب ذاتها، فهو يُطرَح إما لضمان استمرارية نظام قمعي تسلطي أو لدواع سياسية لاهوتية، بهدف تأسيس الدولة التيوقراطية، ذات المرجعية الدينية الموحدة، التي تُعامَل أقلياتها كهوامشَ نشاز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.