إذا فهمنا كلام مدير المركز السينمائي المغربي جيدا فهو يقول لنا انه لن يسمح بحذف أية مشاهد من الأفلام كما يحدث في إيران، في إشارة واضحة للمشاهد الإباحية التي ترفضها السينما الإيرانية كما ترفض المتاجرة بجسد المرأة ولا تسمح لها حتى أن تكشف غطاء رأسها، عكس ما يحصل عندنا في السينما المغربية التي تحولت إلى دعارة تجارية. لكن الذي يغيب على السيد المدير هو أن قطار الثورة الإسلامية حمل المرأة الإيرانية إلى عالم الإخراج السينمائي وساعدها على استعادة مكانتها ومنزلتها التي فقدتها على عصر الشاه، وصنعت منها الثورة إنسانا كاملا وفرضت على العالم أن ينظر إليها بإعجاب وتقدير واحترام، وهيأت لها آفاق رحبة في عالم السينما وزودتها بالحرية والثقة في النفس وأنشأت لها مؤسسات دعم مادي رسمي لا مثيل له في جميع أرجاء المنطقة. وظهرت المخرجات الإيرانيات بقوة وبحضور متميز وفاعل على الساحة العالمية بعد الثورة الإسلامية، وقدمن صورة مشرفة عن بلدهن، وحصدن الجوائز في المهرجانات السينمائية الدولية بالجملة. وأثارت هؤلاء المخرجات الاهتمام بما طرحته أفلامهن من رؤية شجاعة في تناول مشاكل المرأة خاصة، ومشاكل المجتمع كافة، وتعددت إبداعاتهن الفنية وتسابقت معها المهرجانات السينمائية الدولية وأكاديميات الفن في كل أنحاء العالم على استضافتهن وعرض أفلامهن إلى درجة أن اليوم العالمي للمرأة لا يخلو من عرض أفلام المخرجات الإيرانيات، مما يشكل دليلا دامغا على عظمة إبداع المرأة الإيرانية في السينما و قدرتها الراسخة على إثبات وجودها. واستطاعت السينما الإيرانية، الخالية بالتمام من الفجور والمشاهد الساخنة، أن تكسر بعبقريتها، بعد الثورة الإسلامية وعلى مدى ثلاثة عقود متواصلة كل الحواجز الوطنية والدولية وتمكنت أن تبرز وتفرض نفسها عالميا وتكرم في أكبر المحافل والمهرجانات. وأضحت بعض الدول مثل أمريكا وأستراليا وبريطانيا وألمانيا واليابان وغيرها تقيم مهرجانات خاصة بالأفلام الإيرانية. وباتت السينما الإيرانية تعد من الدول الثلاث الأولى في العالم وذلك بفوزها بأكثر من ألف ومائتين جائزة دولية ومشاركتها في أكثر من خمسة عشرة ألف مهرجان دولي في مختلف أنحاء العالم. كما شارك خبراء السينما الإيرانية في تشكيلة لجان التحكيم للمهرجانات الدولية لأكثر من ثلاثة مائة مرة. وحصلت خمسة عشرة إيرانيات على جوائز أحسن ممثلة من اكبر المهرجانات الدولية مثل برلين ومونريال، ولوكارنو، وموسكو، والقاهرة، ونانت. كما رشحت بعض الممثلات الأخريات إلى أحسن ممثلة في القسم الأجنبي في الأوسكار الأمريكية. وحصل رضى ناجي على جائزة أحسن ممثل من مهرجان برلين سنة 2008 وكان تنافس عليها مع الممثل الأمريكي "دانيال دي لويس" الحائز على جائزة الأوسكار. كما حصلت بطلتا فيلم "انفصال نادر وسمين" (ليلى حاتمي وسرينة فرهادي) على جائزة أحسن ممثلتين من نفس المهرجان. وكانت ذروة نجاح السينما الإيرانية على الصعيد الدولي هي حصول المخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" الفرنسي على فيلمه "طعم الكرز" سنة 1997. وتكللت هذه الإبداعات الإيرانية بحصاد فيلم اصغر فرهادي "انفصال نادر وسمين" أهم الجوائز الدولية بدءا بالدب الذهبي من برلين ومرورا بالغولدن غلوب في أمريكا والسيزار في فرنسا وانتهاء بأعلى وأسمى جائزة سينمائية: الأوسكار الأمريكية. وما حصل عليه هذا الفيلم الإيراني لوحده يعتبر حدثا تاريخيا لم يستطع تحقيقه أي مخرج في كل أرجاء العالم وفي كل تاريخ السينما العالمية! والسينما الإيرانية هي الوحيدة التي استطاعت غزو سوق الولاياتالمتحدة بخطى ثابتة وواثقة نحو الصعود المستمر وتحطيم جميع الأرقام القياسية. فلا وجود للسينما الفرنسية أو السينما الايطالية أو أي سينما من سينمات العالم في أمريكا إلا السينما الإيرانية جنبا إلى جنب السينما الهوليودية! هذا مع العلم أن السينما المغربية التي يتباهى بها مدير المركز السينمائي المغربي لم تستطع أن تصل إلى الأوسكار الأمريكي منذ تاريخ تأسيسها إلى يومنا هذا ولو مرة في حياتها. لأنها غير مؤهلة ولا تحظى بالثقة أو أي اهتمام حقيقي ولا تحصل على الجوائز إلا من المهرجانات من صنف "وغادوغو" التي لا توجد فيها قاعة سينمائية واحدة! ويشاهد أزيد من 54 مليون زبون السينما الإيرانية في إيران كل سنة مقابل 432 ألف شخص فقط شاهدوا الأفلام المغربية في المغرب السنة الفارطة حسب أرقام الحصيلة السينمائية التي نشرها المركز السينمائي المغربي نفسه! العهر الفكري نحن نعي جيدا أن مثقفي التبعية أدعياء العولمة الامبريالية الذين ينفذون أوامر تحت الطلب لصياغة نقاش عبثي الغرض منه تقليد الغرب في كل مظاهره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية معتمدين على الخطاب التضليلي. لكن الذي يجهله أو يتجاهله دعاة التبعية الجديدة الذين يتبنون عقيدة التحرر الاجتماعي وقيم الثورة الجنسية، ظهور بوادر "ثورة مضادة" في المجتمع الغربي عموما والأمريكي خصوصا بعد عقود طويلة من الإيمان بالنموذج المفتوح لبناء المجتمع والتفاعل بين أفراده. حيث بدأ الغرب في مراجعة أدبياته الخاصة بالعلاقة بين الرجل والمرأة، بعدما أدرك أن العري علامة من علامات التخلف والرجوع بفكر الإنسان إلى العصور الوسطى. إلا أن مثقفي التبعية لا يزالون يؤمنون بنظرية فيلهلم رايش Wilhelm Reich الجنسية التي ترى أن الثورة الإنسانية الحقيقية لا يمكن لها أن تقوم إلا إذا ترافقت بثورة جنسية وهي في الأصل نظرية خاطئة، كما اثبت ذلك علماء النفس المتخصصون، ورفضتها أوروبا الفاشية كما رفضها أصدقاء دربه من الماركسيين. فهاجر رايش من أوروبا إلى أمريكا مع نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان متفائلا بتوافر الظروف الملائمة هناك لأفكاره اليسارية التي تصالح بين الجنس والسياسة وكان على قناعة أنها ستلقى حتما ترحيبا كبيرا من لدن الأمريكيين. لكن فكرة التحرر الجنسي، ووجهة نظره القائلة بان الثورة السياسية الحقيقية لن تتحقق إلا بإسقاط الكبت الجنسي لم تجد موقعها في الثقافة الأمريكية عموما. وبما أن رايش كان منظرا كبيرا حاول جاهدا إضفاء سلطة علمية على دعوته من أجل ثورة جنسية فدعا الأمريكيين بالتمرد على كل المحرمات بإلغاء الأخلاقيات القمعية (يقصد الدين) لدوافع الإنسان الطبيعية والتفكير في الجنس بطرق مختلفة وإطلاق العنان لرغباتهم وشهواتهم، تتفجر معها طاقاتهم وتُحررهم (الثورة الجنسية) سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الأخلاقية وتخلصهم مما يعانوه في ظل المجتمع الرجعي. لكن أمريكا المتفتحة و"المحافظة" جنسيا أجهضت مشروعه وزجت به في السجن حيث قضى، وحرقت كل كتبه سنة 1956 والتي بلغ وزنها ستة أطنان بما في ذلك كتاب "الثورة الجنسية". وارتأت أمريكا الامبريالية، خزان المتناقضات، أن تنشر الفساد والانحلال الخلقي، بعد الحرب العالمية الثانية، على طريقتها الخاصة باستغلال وسائل الإعلام لنشر وبناء"هوية جنسية" عن طريق "ثورة هادئة"، عكس ما نادى به رايش، لتفادي "الصدمة المباشرة" واختراق كل الخلايا المجتمعية وفرض نقاش حول الحرية الجنسية. ونهجت الحكومة الأمريكية "نهج التساهل والتسامح" وعدم تقيد وسائل الإعلام بقوانين تنظم عملها، وسمحت لها بإضعاف كل الروادع القيمية والدينية والأخلاقية والقضاء على المبادئ الإنسانية والاجتماعية في المجتمع الأميركي وإحلال مكانها نوعا من أنواع النزعة الفردية المتطرفة والمرتبطة بالثقافة الاستهلاكية الوحشية. فظهرت أولا للوجود مجلة "بلاي بوي" Playboy (1953) التي روجت على صفحاتها للعري الناعم (تماما كما بدأ يحصل عندنا)، وتبعتها "بنتهاوس" Penthouse (1969) التي كانت أكثر جرأة في طرح مواضيع الجنس، وتلتها "هاسلر" Hustler (1974) التي فتحت الباب على مصراعيه للثقافة الجنسية بكافة أشكالها السوية والشاذة. فجاء بعد هذه التجارب الثلاثة الطوفان واغرق السوق الأمريكية بما لا يقل عن 150 ألف جريدة ومجلة إباحية وبورنوغرافية. والكل يعرف البقية وما خلفته الفوضوية الجنسية حتى قال عنها احد الصحفيين الأمريكان "إن الثورة الهادئة -يقصد الثورة الجنسية- كانت أكثر فتكا من الثورة الفرنسية". وجدير بالذكر أن "الثورة المضادة" للثورة الجنسية تسير الآن على قدم وساق في الولاياتالمتحدةالأمريكية ويتزعمها المحافظون الجدد مدججين بالفلسفة الستراوسينية (نسبة إلى الفيلسوف الأمريكي ليو ستراوس Leo Strauss) لتقوية نفوذ المؤسسات الدينية في المجتمع الأمريكي بعدما استوعبت هذه الفلسفة الدروس الكارثية للثورة الجنسية. ولسوء الحظ، نعتر في مجتمعنا على أنصار التبعية وحُماة الثورة الجنسية، المشحونين بكراهية التراث الإسلامي، غارقين في مشروعهم السيئ، يهتزون طربا لترويض الشعب المغربي، أولا، على معاداة الدين، وثانيا على "التحرر" من ضوابط الفضيلة والأخلاق، لترسيخ أسس نظرية "الفوضوية الجنسية" التي ترفضها أمريكا اليوم.