ما إن يحل شهر رمضان حتى يتغير شكل المغرب.. الإدارة تغير وقتها، الأسواق تبدل من بضائعها، التلفاز يضع خارطة برامج جديدة، والأهم من هذا أن المواطنين المغاربة يغيرون من طقوسهم وعاداتهم، بعضهم يغير من وقته ليحتل الدين عنده المكانة الأسمى من خلال قراءة القرآن الكريم وصلاة التراويح، وبعضهم يجعل من رمضان فرصة سنوية للراحة ولقضاء الكثير من الوقت بين العائلة والأصدقاء، فيما البعض الآخر لا يعنيه من رمضان سوى كونه مجرد طقس للصوم حتى لو قضى اليوم بطوله في ضيافة سلطان النوم، دون الحديث عمن لا يعنيهم لا رمضان ولا غيره من الشهور الهجرية ما داموا لا يدخلون في دائرة الإسلام. رفض غالبية المغاربة لقضية الإفطار العلني في رمضان أحدث جدلا متعلقا بتعامل المغاربة مع هذا الشهر الفضيل ما دامت طقوسهم خلاله تختلف ولا تصب جميعها في اتجاه الدين، مما جعل البعض يعتبر صراحة أن صوم رمضان في المغرب هو عادة وليس عبادة، وأن الذي يربط المغاربة برمضان هو "الحريرة" و"الشباكية" أكثر من الإحسان والذكر. فهل هذا القول صحيح؟ أم أن علاقة المغاربة بهذا الشهر الفضيل أكبر بكثير؟ لماذا تكثر الشجارات بين المغاربة بسبب ما يدعى ب"الترمضينة" رغم أن الصوم يشترط الكلام الطيب؟ هل الطقس الاجتماعي لرمضان بالمغرب لا ينفي أبدا طابعه الديني؟، لماذا يتساهل المغاربة مع تارك الصلاة ولا يتساهلون مع تارك الصيام؟، ألا يعبر رمضان عن تناقضات المجتمع المغربي الذي لا يتعامل بالدين سوى في حالات معينة ومعزولة؟ أم أن الإسلام كرافد من روافد الثقافة المغربية يجعل لرمضان بالمغرب طابعا خاصا وفريدا؟ حول علاقة المغاربة بشهر رمضان المبارك تأخذكم هسبريس عبر نافذة "زووم" الأسبوعية. "اللهم النعاس أولا بنادم" سعيد، أستاذ في الثالثة والثلاثين من عمره، تزامن رمضان هذه السنة مع فصل الصيف جعله يقضيه مع أسرته بعيدا عن أسوار المدرسة التي يشتغل فيها معلما، لا ينام حتى يتجاوز الصبح بساعة أو ساعتين، حيث يقضي الليل متقلبا بين صفحات الفايسبوك، أو متابعا لفيلم أجنبي يعرض على إحدى الفضائيات، أو لاعبا للنرد مع أصدقاءه، ولا يستيقظ في اليوم الموالي إلا في موعد صلاة العصر، فيصلي العصر والظهر مجتمعين لينطلق إلى السوق بسيارته قصد اقتناء بعض حاجيات الفطور لعائلته.. سعيد مدمن على التدخين، وهو السبب المباشر لنومه في أغلب فترات النهار مادام غير قادر على التركيز كما يقول، لذلك فهو يحاول ما أمكن تفادي أي شيء قد يزيد من عصبيته، غير أنه لا يفلح دائما، فالازدحام المروري كثيرا ما يفقده اتزانه الضعيف أصلا، وتدفق المواطنين على الأسواق يزاحمه ويجعل دقائق من التسوق تتحول إلى ساعات، وكثيرا ما تتسبب قدم مواطن داست على حذائه دون قصد إلى شجار من حسن حظه أن ذوي النيات الطيبة يتدخلون لإيقافه قبل أن يتطور إلى ما قد يصل به إما للمستشفى أو مركز الشرطة. "اللهم النعاس ولا نتساطح مع بنادم"، يقول سعيد الذي بمجرد ما إن يرتفع صوت المؤذن معلنا عن صلاة المغرب حتى يلتقط أقرب كأس ماء يروي به عطشه، ثم بعض التمر، ليشعل بعدها سيجارته التي فارقها طوال النهار، فتعود الابتسامة إلى وجهه بعد ملامح التبرم التي استعمرتها، فرمضان "صعيب أخويا بزاف، ولكن ضروري من الصيام"، يردد سعيد الذي لا يتحدث مع أبنائه إلا بعد مغيب الشمس، فيقضي معهم بعض الأجواء المرحة بعد أن أبعده الصيام عنهم، قبل أن ينطلق لمقهاه المفضل حيث يشرب قهوة سوداء يرى أنها تحقق بعضا من اتزانه المفقود. رمضان فرصة للصلاة عكس سعيد، يبدو أن خالد متمسك بروحانية الشهر الكريم، فحرارة الجو لم تمنعه من عمله كنجار، بل إن طاقته تزداد في رمضان كما يقول، فهذا الشهر الفضيل ليس موعدا للراحة بالنسبة إليه، ولكنه فرصة للعمل الدنيوي وكذلك للعمل الأخروي. يحرص سعيد على أداء جميع الصلوات في المسجد، حتى منها صلاة المغرب التي لا يأتي لبيته إلا بعد صلاتها مع الجماعة، وكثيرا ما يجد عائلته قد انتهت من فطورها، ليتناوله وحيدا دون ندم ما دامت فرحة لقاء ربه أفضل بالنسبة إليه من لحظات مع العائلة سيستدركها في وقت لاحق. "أنا ماشي من عبادين الحريرة حتى نصلي غير في رمضان"، هكذا يجيبنا سعيد عند سؤالنا له عن سبب التزامه في رمضان، فهو دائم الصلاة وقراءة القرآن الكريم في الأيام العادية، ومضاعفته لجهده الديني خلال رمضان يعود لمنزلة هذا الشهر عند المسلمين، ف"جميع الدعوات تتحقق خلاله، ومن الأفضل للإنسان أن يملأ وقته بما يشفع له في دنياه عوض متابعة البرامج الفارغة التي تبعد الإنسان عن ربه" يقول سعيد ذو ال21 سنة. لا أصلي إلا في رمضان أما خديجة 25 سنة، سكرتيرة بإحدى الشركات، فهي تعترف بأنها لا تصلي إلا خلال رمضان، أما خلال باقي أيام السنة فلا تواظب على أدائها، فالطقوس الروحانية خلال الشهر الكريم تساعدها على المداومة على الصلاة وحتى على حضور التراويح، أما طقوس اليومي بعد نهاية رمضان فهي لا تعينها أبدا على الإتيان بواجباتها الدينية كما تقول. "الله يهدينا وصافي..هاد الصلاة ما بغات تقاد لينا"، تقول خديجة، التي تلبس نصف حجاب خلال هذا الشهر يغطي بالكاد نصف شعرها، لتعود في نهايته إلى لباسها الذي اعتادت عليه من سراويل "الجينز" والتنورات التي تصل إلى مستوى الركبة. "إيوا حتا انت..حتا نكبرو وأرا ما نصليو"، هكذا ترد خديجة على كل من يزيد في لومها لتركها صلاتها، فالله غفور حريم كما تقول، وهي لا تزال بحاجة للاستمتاع بشبابها ما دام ذلك اليوم الذي سيتحتم عليها فيه أن تلبس الحجاب لم يعد بعيدا جدا، فقد خطفت قلب أحدهم، وصمم على التقدم لخطبتها بعدما أعجب بها وبجمالها الذي تبذل يوميا مجهودا كبيرا قصد جعله باديا للجميع. رمضان هو شهر الرزق الوفير لا يعرف بوشتى من رمضان سوى أمرين: الأول هو أنه شهر الصيام، والثاني هو أنه شهر الربح التجاري الوفير، فما يجنيه خلال هذا الشهر في تجارة الفواكه يتجاوز ما يجنيه خلال كل أشهر السنة، ما دامت موائد الإفطار المغربية من الصعب أن تخلو من عصير الفواكه. بوشتى الذي تجاوز ربيعه الأربع والأربعين لم يعرف اتجاه القبلة منذ سنوات، بل إن آخر مرة صلى فيها تعود لسنوات الطفولة، عندما كان يذهب مع أصدقائه لمسجد الدوار كي يكتشفوا ما هي الصلاة، أما القرآن فهو لم يقرأه أبدا مادامت مسيرته الدراسية توقفت في السنة الأولى ابتدائي، لذلك فكل ما يعرفه في حياته هو عربته التي يتاجر من خلالها في مجموعة من السلع.. "حنا كنصومو حيت الناس صايمين..وحيت إلا ما صمناش..تقدر تضربنا شي مصيبة والعياذ بالله"، هذا هو تفسير بوشتى لفريضة الصيام، أما طريقة قضائه لرمضان فهي تنقسم لثلاث محاور أساسية: جلسة سمر مع الأصدقاء بعد المغرب يدخنون فيها "السبسي"، سحور في منتصف الليل ونوم حتى الحادية عشر صباحا، ثم الانطلاق إلى السوق والبقاء فيه حتى قرب الأذان.."كون غير الله يديم علينا هاد رمضان..ديما كنربحو فيه شويا، غير ما يبقاش يجي فالحال سخون..حيت السلعة كتخسر" يقول بوشتى بكثير من الاقتناع.. أوكري: المغاربة معروفون بحرصهم على الصيام يرى الداعية الإسلامي عبد الكبير أوكري أن السبب في تقديس المغاربة بشكل عام لفريضة الصيام أكثر من باقي الفرائض الأخرى هو الكفارة الغليظة التي يعاقب بها الإسلام كل مفطر في رمضان، فصيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ولًد في المغاربة رهبة كبيرة من أي محاولة لإفطار رمضان بشكل متعمد، وهو ما لا يتواجد في الصلاة التي لم يتم تشريع كفارة مماثلة بالنسبة لتاركها. "أما التزام المغاربة بالعبادة خلال رمضان، فهو أمر جيد، لكنه يستلزم الاستمرارية بالمثل في باقي أيام السنة، وما يدفعهم للعبادة في رمضان هو عدم تواجد الشياطين التي تصفد، فيجد الإنسان قلبه منشرحا للإيمان بدون أية وساوس شيطانية، وهو ما يفسر إقبال الناس على المساجد في رمضان" يردف الشيخ. وتابع أوكري بأن المغاربة معروفون في المنطقة المغاربية بالتزامهم الشديد بالصيام، بينما يعرف الموريتانيون بالصلاة وبحرصهم الشديد عليها، أما الليبيون فهم يعضون بالنواجذ على فريضة الزكاة، فكل دولة من الدول الثلاث معروفة بحرصها الشديد على فريضة من فرائض الإسلام دون إغفال الباقي منها. معضور: الجانب المادي يغلب على رمضان ويرى الباحث يوسف معضور أن الواقع الاجتماعي يظهر على أن الصوم لدى المغاربة يبقى مجرد وفاء لطقوس اجتماعية من كف عن الأكل والشرب و الحاجيات البيولوجية الأخرى دون أخذ الحكمة من الصوم و التمعن في أصل تشريعه، وهو ما يظهر كذلك حسب قوله في صلاة التراويح التي تتحول عند الكثيرين إلى طقس مرتبط فقط بفضاء مسجد معين أو بصوت قارئ معين، وفي تلاوة القرآن الكريم التي أصبح التركيز فيها أكثر على عدد الختمات عوض تدبر الآيات و المعاني. ويضيف معضور أن الجانب المادي هو الذي يسود في شهر الصيام عوض الجانب الروحي، وهو ما يظهر من خلال التركيز على تحضير مائدة الإفطار و ما تحويه من أنواع المشروبات والأطباق، وكذلك من المتابعة الشديدة للبرامج التلفزيونية، ومن تسابق الفاعلين الاقتصاديين على تسويق منتوجاتهم في هذا الشهر. ورغم كل هذا، فيوسف معضور يؤكد على أن المغاربة يتمسكون بفريضة الصيام بشكل كبير، وهو يعود في رأيه إلى دواعي اجتماعية تدخل فيها الثقافة السائدة التي تخوف من الإفطار خلال رمضان، ما دام بعض الناس مقتنعين بأن "لي كيفطر ما كيدورش عليه العام"، إضافة لدواعي دينية متمثلة في استغلال فرصة هذا الشهر للمصالحة مع الخالق وغافر الذنوب. آراء فايسبوكية ويرى مجموعة من الفايسبوكيين بأن صيام رمضان بالمغرب يتم عن قناعة وليس مجرد عادة، والدليل على ذلك يقول بلعيد هو إقبال العديد من المغاربة على الصلاة في رمضان عكس باقي الأيام التي لا يصلون فيها، إضافة إلى كون مجموعة من الأشخاص يتغيرون للأفضل خلال هذا الشهر، وفئة كبيرة منهم تبقى على هذا المنوال الجديد. وزيادة على ذلك، يرى زكرياء أن ظاهرة توجه المغاربة خلال رمضان إلى المساجد تبقى ظاهرة صحية قد تكون سببا لتشبثهم مستقبلا بدينهم. وفي نفس الاتجاه، يلاحظ عبدو أن صلاة التراويح رغم كونها صلاة اختيارية إلا أنها تعرف إقبالا شديدا يوضح التزام المغاربة بالعبادة، وكذلك يؤكد أحمد على أن العبادة أصلها عادة، وأن المغاربة معروفون بعدم تفريطهم في عباداتهم وعاداتهم. غير أن مجموعة أخرى من مرتادي الفايسبوك ينظرون إلى الموضوع ذاته بشكل آخر، فمريم تقول إن السواد الأعظم من المغاربة لا يصومون سوى لأنهم اعتادوا على ذلك، ويمكن لأي واحد أن يكتشف الأمر بمجرد جولة صغيرة في أسواق المملكة لكي تظهر له حقيقة صيام المغاربة، ويوافقها إبراهيم على الأمر بقوله "بزاف ديال المغاربة كيصومو غير بالجميل، كنفضل وكالين رمضان على بحال هاد المنافقين". أما مصطفى فهو يؤكد على أن فريضة الصيام تحولت إلى فريضة اجتماعية، ما دامت الأغلبية تصوم بينما القلة هي من تصلي بشكل دائم، وما دامت المساجد تزدحم بشكل قياسي في صلاة التراويح مقابل شبه فراغها في باقي الصلوات الأخرى، في حين يقول حمزة على أن جل المغاربة يصومون لمجرد أنهم وجدوا آباءهم يصومون، وما يؤكد ذلك في نظره هو أن أغلب فئات المجتمع تتنافس حول إعداد موائد إفطار، بل إن بعضهم يقترض من البنوك حتى ينعم بهذه المائدة". إن رمضان في المغرب له نكهة خاصة قد لا تتواجد في الكثير من البلدان الإسلامية الأخرى، وسواء أكان صيام عادة أم صيام عبادة، فالمغاربة تربطهم علاقة خاصة بهذا الشهر الكريم، حيث تصير الأجواء العائلية هي الطاغية، ويتحول موعد الإفطار إلى لقاء يومي لجميع أفراد العائلة لا يفوتونه أبدا، بل إن تزامن شهر رمضان مع فصل الصيف للسنة الثالثة على التوالي، جعل الكثير من المغاربة يقررون قضاء عطلتهم مع أسرهم عوض التوجه للشواطئ والجبال، فلا اصطياف مع رمضان، ولا سباحة مع الصيام.. تلك هي قناعتهم، وتلك هي أفكارهم التي تقدم الدليل على قدسية الشهر الكريم. [email protected]