سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    زياش: عندما لا يتعلق الأمر بالأطفال يفرون    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شفشاون والسويقة والشارع
نشر في هسبريس يوم 02 - 08 - 2012

اتسعت دائرة العلاقات داخل الحي الجامعي مولاي اسماعيل. ولم يعد الأمر يقتصر على المجموعة السودانية أو رفاق السكن، بل إن الدائرة ستكبر تدريجياً .
كانت أماكن اللقاء إما في مقصف الحي أو في الملاعب الرياضية أو داخل مكتبة متواضعة .
بعد الأيام الأولى لم يعد المقصف يستهويني، بدا لي مكاناً ليس فقط لتزجية الوقت، بل لقتله دون معنى.
أما بالنسبة للملاعب الرياضية فقد اقتصر الأمر على كرة اليد، وهي رياضة لا أفهم فيها شيئاً، والكرة الطائرة، ثم كرة القدم.
وعلى الرغم من أنني مارست كرة القدم لفترة لابأس بها، فقد كنت منقطعاً عن ممارستها عندما جئت للمغرب، لذلك اكتفيت بالتفرج على المباريات التي تجرى بين الفينة والأخرى في ملعب الحي الجامعي.
كنت أمضي وقتاً لا بأس به داخل المكتبة، لكن سرعان ما شعرت بالضجر إذ أن المكتبة كانت فقيرة من حيث المراجع، كما اتسمت بالتسيب، يعلو فيها الضجيج، وتنعدم فيها وسائل الراحة واحياناً تعرف مشاجرات لأتفه الأسباب، لذلك عزفت عن ارتيادها.
في شارع محمد الخامس
***
بين المقصف والملاعب الرياضية والمكتبة، تعرفت على مجموعة لا بأس بها من الزملاء، وكان من بين هؤلاء مجموعة طلاب من مدينة شفشاون.
كانوا جميعاً يدرسون في كلية الحقوق شعبة الاقتصاد، وكان من بينهم شاب لطيف مرح سريع البديهة يدعى مصطفى العلمي. ربط مصطفى علاقات حميمية مع مجموعتنا، حتى كاد أن يتعلم اللهجة السودانية. كان يفهم ما نقول ويحاكي أقوالنا بكيفية ساخرة. وكان يشاركنا جلسات السمر الليلية. إذ وجدنا فيه شخصاً حلو المعشر.
كانت تفصلنا عن عيد الأضحى بضعة أيام، فاقترح علي مصطفى مرافقته إلى شفشاون لتمضية عطلة العيد مع أسرته، راقتني الفكرة تماماً.
سافر مصطفى إلى شفشاون، أو"الشاون" كما تنطق أحيانا، وبعد يومين لحقت به، بعد أن ركبت حافلة إلى تطوان ومنها إلى الشاون. كانت تلك المرة الأولى التي أسافر فيها خارج الرباط بعد رحلة الدارالبيضاء التي ذهبت إليها بدعوة من نجية.
خلال رحلة الشاون أدركت كم هو متنوع هذا المغرب، وبدا لي وكأنه عوالم مندمجة في عالم واحد.
وفي اعتقادي أن المجتمع المغربي بمكوناته العرقية المتباينة يمثل حالة خاصة في التساكن الاجتماعي، فرغم أنه يتكون من خمسة أعراق: عرب، وأمازيغ، وأفارقة، وموريسكيين، ويهود، فإن هذا التباين تغطيه قشرة سميكة من التمازج.
والواقع أن رحلة الشاون نبهتني إلى هذه الخاصية من خصوصيات المجتمع المغربي .
كانت الأمطار تهطل بغزارة عندما وصلت الشاون، ووجدت أن بردها ليس قارساً فقط، بل" قارصاً" ويلسع، ربما لأنها تقع في منخفض تحيط به الجبال من كل جهة.
كان أول ما لفت نظري جمال الطبيعة .
خرير المياه في زوايا المدينة لا ينقطع، وفي الجبال اخضرار. وحين تمرُّ الغيوم، تبدو قمم الجبال المخضرّة وكأنها تشرئب إلى سماء ترتدي عمامة بيضاء .
مدينة جميلة، والأجمل منها أناسها .
كان مصطفى يتحدر من أسرة فاضلة محافظة. رحب بي أهله ترحيباً حاراً، واحتفوا بهذا الكائن القادم من صحاري السودان احتفاء مميزاً، وكانوا يجتهدون بكيفية ملحوظة في أن تكون إقامتي معهم مريحة .
خلال وجودي هناك تعرفت جيداً على المدينة وأهلها، وبما أن الفصل كان شتاء فان معظم شبابها كان يتدثرون بدفء المقاهي المنتشرة في الزوايا وتقاطع الأزقة والشوارع.
داخل هذه المقاهي كانت لي نقاشات طيبة مع شباب جاءوا من مختلف أنحاء المغرب لتمضية عطلة العيد مع ذويهم .
ومن اللقاءات التي ظلت عالقة بذاكرتي لقاء مع الشاعر محمد الميموني صاحب ديوان " تخطيطات في هندسة الفقر" خلال ذلك اللقاء كان لنا نقاش حار حول الناصرية والماركسية والإسلام .
كان من بين أصدقاء مصطفى شاب ودود يدعى عبد الواحد
تعرفت عليه في الرباط . كان قد جاء لتوه من روسيا للدراسة في كلية الحقوق، والتقينا في الشاون.
أصر عبد الواحد أن أتناول فطُور عيد الأضحى مع أسرته وهكذا كان. بعد نحر الأضحية في منزلهم تقدمت لمساعدة الجزار في سلخها وكان ذلك مثار تعجب وإعجاب، وهو ما اعتقدته أمراً عاديّاً، فأنا في الأصل ابن بيئة فلاحية وأهلي مزارعون.
ومن الأشياء التى أثارت حيرتي أنهم بعد سلخ الأضحية لم يطهوا شيئاً من لحمها، بل قدمت لنا والدة عبد الواحد فطوراً يتكون من البيض والحليب والحلويات وبيصارة لذيذة المذاق، زادها لذة زيت الزيتون .
تلك كانت أول مرة أعرف أن الأضحية في المغرب لا تؤكل إلا في اليوم التالي، أما في السودان فما ان تغيب الشمس حتى تكون الأضحية قد تحولت الى عظام رميم، لأن حرارة الطقس تحتم أكلها كاملة وإلا فسدت .
لا تظنوا بالطبع أنني ظللت منشغلاً في الشاون بأضحية أسرة عبد الواحد، فقد تعلمت أشياء كثيرة واستفدت استفادة كبيرة من تلك الأيام الخمسة التي أمضيتها بصحبة مصطفى وعبد الواحد وباقي شباب المدينة .
ومن الذكريات التي لا تنسى حول تلك الرحلة، أنني أُهديت جلباباً من الوبر ظل معي لسنوات. كنت كلما أرتديه أتذكر أيام الشاون. بعدها لم يتسن لي زيارة المدينة إلا مرة واحدة، زيارة قصيرة لم تشف الغليل.
وهأنذا أتمنى زيارتها بأضحية أو بدونها.
مع الزميلين النور محمد أحمد وعبدالله خالد في وسط الرباط أيام الدراسة
***
مع مرور الأيام حدثت عملية اندماج شبه تامة، سواء على صعيد الكلية أو الحي الجامعي أو الأحياء السكنية المجاورة له.
وبعد مضي بضعة أشهر، لم نكن نحتاج الى التجول جماعة في الرباط، بل أضحى لكل واحد من مجموعتنا عالمه الخاص فقد بدأنا عملية إندماج سنكتشف لاحقاً أنها تمت بسرعة، ربما لوجود عدة خصائص مشتركة لا تظهر على السطح للوهلة الأولى، تجمع بين سمات المجتمعين المغربي والسوداني، لعل أبرزها النزوع نحو التساكن والعناية بالغرباء .
وهكذا رحنا نكتشف الرباط ببطء وتلذذ. كانت البداية من المدينة العتيقة، فقد شكل طابعها بالنسبة لنا شيئاً جديداً.
كنا نجد متعة للتجول في أزقتها وتأمل الحوانيت والناس. ونستغرب كثيراً لماذا يتزاحم الناس إلى هذا الحد، ولكن، سرعان ما أصبحنا جزءاً من هذا الزحام .ورغم تنوع وتعدد أصوات الباعة فإن إحساساً يراود زائر الرباط العتيقة، أن ثمة شيئاً مشتركاً بين هذه الأصوات، قد لا يدركه في الحين، ولكن مع التعود تكتشف أنه التناغم الحاصل بين المكان والأصوات.
فهو ليس ضجيجاً، وإن كان فيه من الضجيج الشيء الكثير. وهو ليس غناءً وإن كان يتداخل مع أصوات المغنين المنبعثة من آلات التسجيل والراديوهات، وهو ليس كلاماً رغم أن الكلام يعلو على ماعداه .
لم تكن المدينة العتيقة بالنسبة لنا في تلك الأيام التي باتت بعيدة هي فقط ما أسلفت، بل كانت هي أيضاً "سينما موريتانيا "و"استوديو موريتانيا".
كنا نرتاد كثيراً تلك السينما، لأنها تقدم أفلاماً عربية. نذهب قبل العرض لنأكل ساندوتش مقانق (صوصيص) من رجل يضع مشواة قبالة السينما، ثم نسهر مع الشريط إلى ما شاء الله .
أما استوديو موريتانيا المجاور للسينما فقد كان يحرص على عمل "رتوش" للصور التي يلتقطها لنا بالأبيض والأسود، فيخفي الخيوط التي رسمتها معاناة الطفولة على وجوه أولئك الفتية.
ارتبطت شخصياً بالمدينة العتيقة بثلاثة أماكن .
كنا عندما نتسلم المنحة، أذهب رفقة الصديق مصطفى البطل وهو أحد رفاق المجموعة، كان يدرس في كلية الحقوق، وعمل بعد ذلك في رئاسة مجلس الوزراء في السودان، إلى مطعم يسمى "مطعم الاتحاد" في مدخل السويقة، لنأكل وجبة دسمة تجعلنا نحس بدفء الفلوس في جيوبنا يسري إلى أجسادنا .
أما المكان الثاني فهو دكان صغير يبيع اللحم المفروم (الكفتة) يقع قرب المسجد الذي يتوسط المدينة العتيقة، كنا نتناول فيه طبق الكفتة مع البيض والزيتون والفلفل الأخضر الحراق. وجبة شهية مايزال طعمها تحت اللسان .
المكان الثالث لم يكن له علاقة بالأكل، حتى لا تظنوا أنني أكتب بإيحاءات مَعِديّة. في بداية أيامنا في الرباط، اكتشفنا أن الملابس التي جئنا نحملها من بلادنا لا تتلاءم وحالة الطقس، فقد جئنا من بلاد صيفها لاهب، وشتاؤها ساخن، ووصلنا الرباط وحالة الطقس خريف وزمهرير.
تحملنا ذلك البرد القارس حتى تسلمنا المنحة، شرعنا بعدها في البحث عن ملابس تقينا البرد، فكان أن نزلنا إلى السويقة (1)
لفت انتباهنا باعة يضعون ملابس صوفية أو جلدية فوق أكتافهم يعرضونها على المارة عند مدخل السويقة. اكتشف أحدنا أن تلك الملابس تباع بأثمان بخسة، مقارنة بما يباع في محلات بيع الملابس.
ويبدو أن في سلوكنا أيامئذٍ شيئاً من سلوك الجراد، ما أن يكتشف أحدنا أمراً مفيداً حتى تقبل عليه الجماعة بشغف وحماس.
أتذكر الآن أنني ذهبت مع أحد الزملاء إلى السويقة بحثاً عن ملابس شتوية من هذا النوع المعلق على أكتاف الباعة المتجولين.
رحب بنا البائع وطلب منا مرافقته حيث توجد فرصة اختيار أفضل. وقادنا عبر أزقة ضيقة إلى منزل متداعٍ، وجدنا هناك غرفة مليئة بالملابس، اخترنا ما تيسر، وخرجنا من ذلك المنزل ونحن نرتدي تلك الملابس : معطف جلدي وسروال(بنطلون) وقبعة على غرار قبعات البحارة .
عدنا إلى الحي الجامعي فرحين مسرورين بتلك الملابس واكتشفنا بعد فترة أن سبب الأسعار الزهيدة يعود إلى وجود عيوب في التصنيع، إذ تتخلص معامل الخياطة من تلك الملابس وتبيعها بأثمنة بخسة لتجار يسوّقونها عبر الباعة المتجولين وحتى لا يدفعوا إيجاراً أوضرائب يلجأون إلى هذه الحيلة، أي أن يحمل أحد الباعة نماذج من تلك الملابس، ثم يقود بعد ذلك الزبون الى حيث توجد البضاعة في منزل مجاور.
والواقع أن عيوب تلك الملابس لا تظهر إلا بعد فترة، لكن ما كان يهمنا أنها ساعدتنا على اتقاء برد تلك الايام. والخلاصة أننا كنا نلبس" قمامة" معامل النسيج والخياطة ونتبختر بها وندعو الله أن يكثر من عيوب الملابس .
في شارع محمد الخامس
***
عند قدومنا من الخرطوم، كان أول مكان بدأت علاقتنا به في الرباط هو شارع محمد الخامس.
وكما أسلفت، طلبنا آنذاك من سائق سيارة الأجرة أن يحملنا من مطار النواصر إلى جامعة محمد الخامس، فاعتقد أننا نقصد شارع محمد الخامس، فتركنا في الشارع وذهب إلى حال سبيله.
مرت فترة طويلة قبل أن نستعيد علاقتنا بالشارع.
كنا بين الفينة والأخرى نذهب إلى الشارع، نذرعه جيئة وذهاباً، كما يفعل الناس، وفي أغلب الأحيان كان صعوداً وهبوطاً بدون هدف محدد. وفي بعض الحالات كنا نلتقط صوراً جماعية في وسط الشارع وهي صور يلتقطها مصورون جوالون يحملون كاميراتهم ويقتنصون الزبائن الراغبين في التقاط صور في وسط الشارع.
كنا أحياناً نجلس قليلاً في مقهى باليما الذي مايزال يشكل رئة الشارع .هناك سنتعرف على "سلطان باليما" تلك الشخصية العجائبية التي مايزال أهل الرباط يتذكرون قصصها وعلاقاتها المتشعبة مع شرائح مختلفة من المجتمع، ويجدون متعة في سرد حكاياتها ومقالبها حتى ولو كانوا من ضحاياها .
كان سلطان باليما عندما يرانا يكتفي بجملة واحدة: أهلاً بشعب جعفر نميري . ولو كان يدري، رحمه الله، أن تلك الجملة هي التي تثير في أنفسنا استياءً، إذ كان معظمنا من معارضي حكم نميري، لكان قد كف عن ترديدها.
أتذكر الآن، أنه بعد سنوات طويلة وعندما توطدت معرفتي به، قلت له إن ما كان ينفرنا منه هو تلك الجملة، فرد قائلاً: لماذا لم تنبهني حتى أقول لكم أهلاً بمعارضي نميري.
مع زملاء الدراسة قرب السويقة
***
ولعل من الأشياء التي لم تحبب لنا المحلات والمقاهي في الشارع أن الفرنسية هي اللغة المتداولة، وحتى إذا لم يتحدث الناس معك بالفرنسية على افتراض أن إجادة الحديث بها من المسلمات، فإن الأرقام كانت تنطق بالفرنسية.
فإذا اشتريت كتاباً أو تناولت فنجاناً من القهوة، فان السعر يكون دائماً بالفرنسية. والمفارقة أحياناً أنك إذا طلبت من مخاطبك ترجمة الأرقام إلى العربية فهو إما أن يحولها إلى سنتيم أو إلى الريال (2)، في حين كنا لا نعرف أن نحسب النقود إلا بالدرهم.
لم أكن أتردد كثيراً على شارع محمد الخامس، إلا عند الذهاب إلى مبنى البريد المركزي لإيداع رسالة للأهل في السودان، كنا لا نثق كثيراً في صناديق البريد الموجودة في الشوارع، ظناً منا أنه لا توجد ضمانة في وصول الرسائل التي تودع في هذه الصناديق.
لازمني هذا الإحساس الخاطئ حتى اليوم، فهي تبدو لي صناديق للمهملات وليست للرسائل ولعل مما عزز هذا الإحساس أنني لم أر مطلقاً ساعي بريد يفرغ تلك الصناديق من محتوياتها.
أما المكان الذي كنت أتردد عليه فهو مقر المركز الثقافي البريطاني وكان يوجد آنذاك في" شارع مولاي يوسف" كنت أرتاد مكتبته لاستعارة بعض الكتب. ومن خلال عملية التنقل بين الحي الجامعي والشارع والكلية كنا نكتشف باستمرار بعض الأماكن والمصالح والمؤسسات.
ذات يوم، أبلغنا أحد الزملاء أنه خلال تجواله ما بين الحي الجامعي وكلية الحقوق والشارع، قرر دخول" المدرسة الوطنية للإدارة العمومية" التي تقع على مقربة من شارع محمد الخامس.
وهناك استفسر عن شروط التسجيل ليكتشف وجود إمكانية لمتابعة الدراسة في المدرسة دون أن يتعارض ذلك مع الدراسة في الكلية، ولم تكن المدرسة تشترط على الطلبة الأجانب إجراء مباراة (3) كما هو الشأن بالنسبة للمغاربة، وهكذا قرر زميلنا التسجيل في المدرسة الإدارية ولحق به ثلاثة آخرون .
كان أحد هؤلاء الزملاء الصديق كمال شرف الذي سأجده إلى جانبي مرات لا تحصى. أقنعني كمال بالتسجيل في المدرسة الإدارية إسوة بالزملاء الآخرين، وهكذا كان .
تسجلت في السنة الأولى في المدرسة الإدارية إلى جانب متابعة دراستي الأصلية في كلية الآداب .
أعجبتني المدرسة الإدارية بأناقتها ونظامها الداخلي، لكن تعذر علي حضور الدروس بسبب تضارب توقيتها مع دروس كلية الآداب. والواقع أن الصديق كمال بذل معي جهداً استثنائياً من أجل الانتظام في المدرسة الإدارية، كان يقول لي مازحاً: ليسانس فلسفة مع دبلوم إدارة، معناها وظيفة محترمة في السودان.
ظل الوضع هكذا إلى أن حان موعد الامتحانات، هنا سيظهر كمال شرف مجدداً لإقناعي بالمشاركة في الامتحانات ولو في مادة واحدة لضمان تسجيلي في السنة التالية، وبالفعل حضرت امتحان مادة كتابية وكانت من حسن حظي تتعلق بعلم الاجتماع ولم أحضر باقي المواد.
كانت المفاجأة أنني نجحت في تلك المادة لكن بعد ذلك طويت فكرة مواصلة الدراسة في المدرسة الإدارية .وبالطبع تبخرت حكاية الوظيفة المحترمة، إذ لا توجد وظيفة محترمة في العالم برمته، يمكن الحصول عليها بالنجاح في مادة واحدة في السنة الأولى من المدرسة الإدارية .
_____
(1) يطلق المغاربة على حوانيت مدينة الرباط العتيقة اسم السويقة ولعلها تصغير لكلمة سوق.
(2) الدرهم المغربي يساوي 20 ريالا .
(3) يصطلح المغاربة على إطلاق لفظة "مباراة "على الاختبار أو "المسابقة" الذي يسبق دخول أية مؤسسة جامعية أو الالتحاق بوظيفة .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.