هل للضرر المعنوي قيمة مادية؟ هل للاعتذار وطلب الفصح دور في جبر الضرر يمكن أن يقوم، من وجهة نظر أخلاقية، مقام استصدار الحكم؟ لماذا لم يطالب نواب وكلاء الملك بالقصر الملكي بدرهم رمزي ونشر الحكم لتأكيد الاعتذار الذي سبق ل "المساء" أن قدمته؟ وهل التعويض عن الضرر يرتفع كلما ارتفعت قيمة الغرامة المحكوم بها؟ هذه مجموعة من الاسئلة تطرح نفسها بإلحاح بعد صدور الحكم بتغريم جريدة "المساء" 6 ملايين درهم لصالح نواب وكلاء الملك الذين رفعوا دعوى ضدها بدعوى القذف والتجريح. نعم لاستقلالية القضاء ووجوب احترام أحكامه ولكن مع ذلك للرأي العام الحق كذلك في مناقشة المقتضيات القانونية والاخلاقية والفكرية للأحكام ومراميهما والمبادئ التي استندت إليها... أولا، الضرر هو حالة إما معنوية أو جسدية تكون مصدر ألم أو أسى أو معاناة نفسية أو فزيقية تلحق بالشخص جراء فعل شخص آخر قولا كان أو عملا، غير أن الضرر هو حالة غير قابلة للتكميم، لأنه بمجرد الاحساس بالضرر تحصل حالة التضرر، والضرر ليس درجات، تضرر بسيط وآخر أكثر منه. أي أن الضرر هو حالة معنوية تكون أو لا تكون. لهذا فمن الغريب أخلاقيا إعطاؤه بعدا كميا متدرجا: أي أن الضرر مرتفع، لهذا يجب المطالبة بمبلغ مرتفع للتعويض عنه. على العكس من ذلك، فإن تكميم الضرر أي إعطاؤه قيمة نقدية ترتفع بارتفاع المبلغ تعطيه بعدا ماديا وتبعده عن مقتضيات القذف والتجريح التي تكون آثارها غالبا معنوية ونفسية (اللهم اذا كان لعملية القذف تأثير على أعمال المتضرر أو مصالحه المادية أو الاقتصادية(. ما طالب به المتضررون الأربعة ووافق عليه القاضي يوحي بأنه لو تم الحكم على "المساء" بقدر أقل بكثير رمزي أو في حدود المعقول فإن ذلك من شأنه أن يؤدي الى الانتقاص من قدر الضرر والحد من قيمته. ليست للضرر سومة قيمية يتم قياسها في سوق أو بورصة، وذلك لأنه حالة ذاتية ليس لأحد المسؤولية الأخلاقية للبت فيها. ثانيا، القدف والتجريح يقتضيان وجود نية مبيتة تؤدي إليهما. باعتذارها تكون "المساء" قد أظهرت عدم وجود نية القذف والتجريح، خصوصا وأن لها مسؤولية اخلاقية تجاه قرائها والرأي العام. أن تعتذر جريدة عن خبر سبق أن نشرته ليس بالشيء الهين لأن عشرات الآلاف قرؤوا الخبر على أساس أنه موثوق من صحته. أن تعتذر يعني أنها لم تكن لها نية في الاساءة ولكن حدث سوء تقدير بالنسبة الى صحة الخبر. نعم يكون الضرر المعنوي قد حدث ولكن التراجع عن خبر من شأنه أن يعيد بعضا من الاعتبار لا كله للمتضررين (حتى الأحكام نفسها مهما كانت قيمة الغرامات المطلوبة لا ترد الاعتبار كله الى المتضرر(. الحكم على الذات من خلال الاعتذار يبدو موقفا أخلاقيا يجب التنويه به بدل التغاضي عنه. حبذا لو أن نواب وكلاء الملك الذين لهم الحق في الدفاع عن شرفهم نحوا نحوا أخلاقيا مماثلا بدل إعطاء قيمة مادية لعملية جبر الضرر. الفصح عند الاعتذار ليس فقط فعلا جميلا من الناحية الاخلاقية، ولكنه موقف حضاري نحن في أمس الحاجة إليه في مغرب اليوم. ثالثا، ماذا لو طالبوا فقط بدرهم رمزي مع نشر الحكم والاعتذار على صفحات المساء؟ ماذا سيكون وقع ذلك على الرأي العام وعلى أدوار كل من القضاء والصحافة؟ أولا، سنتجاوز هذا التقليد الجديد الذي أصبح فيه استصدار أحكام قاسية من حيث قيمة الغرامة المطلوبة وسيلة لإقبار منابر إعلامية مستقلة (ليتنا كانت لنا مقتضيات قانونية تقول بعدم وجوب إصدار أحكام تكون تبعاتها إعاقة أو إقبار أو إلحاق ضرر مستديم بمقاولات لها مستخدمون وتعيش منها عائلات). ثانيا، سنساعد الصحف والصحافيين على التحلي أكثر بالمسؤولية الأخلاقية الكامنة في التأكد من الخبر والتحري بشأنه ومقارنة الدلائل والمصادر قبل النشر. ثالثا، سنؤسس لممارسة حضارية في التقاضي تبعدنا عن النزعة المادية التي صارت تلاحق مفهوم الضرر وجبره. رابعا سنبعد عن المغرب شبهات التضييق على الصحافة والصحافيين التي أصبحت تلاحقه على المستوى الدولي. لا أريد أن أختم هذه المساهمة دون أن أقول إن أحداث القصر الكبير وما تبعها من تفاعلات، تمثلت في تأسيس جمعية الدفاع عن الحقوق الفردية وإصدار منظمات حقوقية لتقارير تدين فيها الطريقة التي تمت بها معالجة الملف، وتنظيم حزب إسلامي لمسيرة حول الأخلاق، والتراشق الذي تم بين العديد من الصحفيين حول مسؤولية الصحافة في هذا الإطار. ومحاكمة "المساء" بدعوى القذف والتجريح، كل هذا يعني أننا مازلنا لم نباشر بعد مرحلة التقعيد لخلق نقاش مسؤول حول قضايا أساسية تتعلق بالحرية والجنس في علاقتهما بالدين، ومسؤولية الصحافة في ما يخص هذه القضايا، ودور القضاء في رد الاعتبار الى المتضررين ومفهوم الضرر ومفهوم حرية الصحافة وغيرها من الأمور التي يمكن أن تساعدنا على العيش في مجتمع بدا يعي تعدديته وتنوعه واختلافه إن على المستوى الفكري أو الأخلاقي أو الطقوسي. لا يمكن للمجتمع المتنوع والمختلف أن يقعد لأبجديات التعايش والحوار دون الاتفاق على الأقل على مبادئ أساسية ألا وهي الحرية والمسؤولية، حرية الصحافة (دون قيود إلا تلك التي تفرضها المهنة على ذاتها)، نسبية الاخلاق، فردانية الوازع الأخلاقي (بعيدا عن المزايدات الدينية)، العدالة المنصفة والمتجردة عن كل اعتبارات سياسية، الاحتكام الى القانون ونبذ سلطة الجماعة مهما كانت قضيتها عادلة. إن اتفقنا على المحاور الأساسية لهذه الأرضية الفكرية نكون آنذاك تجاوزنا الرجات المثيرة التي أصبحت تميز حقلنا الإعلامي والسياسي والايديولوجي والتي تعتبر محاكمة "المساء" آخر فصولها. ""