الصلابة الأخلاقية والصلابة النظرية وسؤال المستقبل،على هامش المؤتمر الوطني السابع لحزب العدالة والتنمية كتبت في صفحتي على الفايسوبك فور عودتي من الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية مايلي:"عدت قبل قليل من الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية بالرباط14 -15 يوليو 2012بدعوة كريمة من إخوة وأصدقاء خلص قياديين في الحزب.نظم المؤتمر في القاعة المغطاة بالمركب الرياضي المولى عبد الله.منذ استقبلنا في بوابات الدخول تتملك الفرد المهتم بشؤون الحركة الإسلامية أحاسيس كثيرة ومتداخلة تختلط فيها أبعاد الزمن بأبعاد المفاهيم وتاريخيتها بقضايا المنهج والفهم والتأويل بنوسطالجيا الذات.هذا أمر سأعود له في مقال مستقل،فقط أردت أن أنقل لأحبائي من متصفحي صفحتي أن الجلسة الافتتاحية جسدت مرة أخرى استعادة الخصوصيات الأساسية التي تحقق بهاأحزاب الحركة الإسلامية الفارق مع بقية الأحزاب؛وهي القدرة الهائلة على الحشد والتعبئة والتنظيم،والامتداد الاجتماعي الواسع،والصلابة الأخلاقية ،أخلاق الموعظة على الخصوص. لقد قدم حزب العدالة والتنمية قدرات مدهشة في التنظيم واستثمار فضاء القاعة من خلال اختيار اللافتات والصور وتنظيم الوافدين واختيار الموسيقى المصاحبة والتي انحصرت في أغاني جيل جيلالة وناس الغيوان والسهام ومرسيل خليفة،والتوزيعات الموسيقية الجديدة للقصيدة الثورية للشاعر الشاب أبي القاسم الشابي "إرادة الحياة"،وأغاني وطنية مشهورة. كما أضفى الضيوف على المؤتمر نكهة خاصة خصوصا خالد مشعل ،رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس،الذي ولج القاعة محاطا بكم كبير ومثير من حراسه مما لا نعهده عادة في المغرب إلا عند تحركات الملك.كانت كلمة مشعل حماسية وخطابية ومؤثرة خصوصا عند أبناء الحركة الإسلامية الذين خاطبهم بلغتهم،مشيدا بالتجربة المغربية،في مقابل برود واضح عند الاستماع إلى كلمة ممثل حركة فتح.كما كان التفاعل ملفتا مع ممثلي حزب العدالة والتنمية في تركيا ،في مقابل برود في التعامل مع ممثلي حزب السعادة التركي الذي كان يرأسه مؤسس الحركة الإسلامية المهندس المتخصص في صناعة الدبابة الألمانية المرحوم نجم الدين أربكان،مما يعني أن المؤتمرين من جيل الشباب أو من حديثي العهد بالحركة الإسلامية ولاعلم لهم برجل اسمه نجم الدين أربكان مع أنه هو الذي ربى أردوغان وصنعه.كان أيضا مثيرا اعتذار حزب النهضة في تونس بحجة تزامن مؤتمري الحزبين مع أن العدالة والتنمية المغربية أوفد يتيم للحضور في تونس،كما سجل الحضور الباهت لحزب الحرية والعدالة المصري وكذا تنظيم الإخوان المسلمون،أما مداخلة توكل كرمان الثائرة اليمنية والحائزة على جائزة نوبل فكانت طويلة ومشتتة ومفتقدة للضبط والدقة ومخللة بالأناشيد والشطحات الثورية على طول العالم العربي لكن بدون رؤية وبدون عمق ،ربما هذا قدر الثوار دائما.كما لم نسمع شيئا من المنصة عن حضور إسلاميي المغرب الآخرين؛العدل والإحسان والبديل الحضاري والحركة من أجل الأمة،وهم موجودون،مع تسجيل حضور من يسمونهم شيوخ السلفية:حسن الكتاني وأبوحفص ومحمد الفزازي. أعتقد بأن حزب العدالة والتنمية رفع السقف التنظيمي الداخلي أمام الأحزاب الأخرى،أما السقف الفكري والمنهجي فيحتاج الأمر إلى تداول وحوار مما سأذكره في مناسبة لاحقة،من خلال قراءة أولية في أطروحة المؤتمر السابع." والان أعود إلى المؤتمر السابع لأفصل القول،قدر الإمكان،في بعض العناصر الفكرية المرتبطة بالمشروع الإسلامي بعامة والذي يحمل لواءه اليوم على مستوى تدبير الشأن العام "حزب العدالة والتنمية"؛وهو أحد التجليات التنظيمية والسياسية للحركة الإسلامية المعاصرة في المغرب،وهي ملاحظات من وحي المؤتمر الوطني السابع للحزب. فمعروف أن الحركة الإسلامية تحقق الفرق دائما على بقية الأحزاب السياسية الأخرى من خلال قدرتها على احتضان أعضائها وإحداث تغييرات جوهرية فيهم بل في جزئيات حياتهم واهتماماتهم الشخصية،عبر برامج تربوية وأخلاقية وتكوينية دائمة وملزمة إلى حدما،خصوصا في التنظيم الدعوي،ومتساهل فيها في التنظيم السياسي،مما يخلق توترات مستمرة بين التنظيمين؛بين دعاة التربية وطلاب السياسة.وقد يحدث هذا الخلاف تقاطبات تنظيمية داخل الحزب السياسي أو داخل الحركة الدعوية. إن أحزاب الحركة الإسلامية تحرص،أكثر من غيرها،على تربية أفرادها وتوجيه سلوكهم،فتدخلهم،من خلال برامج غير معدة بشكل بيداغوجي أو أندراغوجي دقيق،في عالم مثالي متميز وممتع ولكنه حالم؛إذ تصنع هذه الطريقة التأطيرية شخصية حزبية مناضلة وملتزمة وقوية من حيث أخلاق النفس(الصلابة الأخلاقية)،لكنها تحمل معها مركبات نقص وثغرات وعقد ونقص كفاءة في جوانب أخرى متعلقة بأخلاق الفكر(الصلابة النظرية)؛إذ تغمر هذه الشخصية ذات الصلابة الأخلاقية حالة من "المانوية"،تنزه الذات وتدنس الآخر،ولا ترى الواقع إلا صلاحا(أنا) أو فسادا(الآخر)،كما تفتقد القدرة على التحليل والتفكير والتنظير والتفكيك والتركيب،فتغيب عنها التضاريس المتنوعة للواقع وللشخصيات والأحداث وللأطراف الأخرى،وتسقط في إدعاء الامتلاك الذاتي للحقيقة المطلقة والتي هي بالمناسبة نسبية من حيث طرق الوصول إليها عبر التفكير والنظر والترجيح؛فتستبعد التعاون والتكامل مع الآخرين،داخل التنظيم أو خارجه،كما تحرص هذه الشخصية،ذات الصلابة الأخلاقية،على الانفصال عن الواقع،مع رغبة نفسية وواقعية في التميز والمفاصلة لمكوناته،تنظيما وموقفا وحركة وكسبا،مع إغراق الفضاء السياسي والاجتماعي ب"خطاب أخلاقوي"،وفرق شاسع بين"الصلابة الأخلاقية" كصفات شخصية فريدة ونموذجية ومثالية تميز أبناء الحركة الإسلامية عموما،وبين "الخطاب الأخلاقوي"،المملوءبالعاطفةوالوعظ؛خطاب يفسر كل الظواهر السياسية والاجتماعية بعامل واحد هو "الأخلاق"،اقترابا منها أو ابتعادا عنها،وهي أخلاق الموعظة كما ذكرت سلفا.إن تضخيم العامل الأخلاقي ينتج منهجا مختلا قائما على خطاب أخلاقوي يفقد التصور عمقه وجديته،ويحول الزعيم إلى واعظ ومرشد،مع أن أبحاث علم الاجتماع الديني،خاصة سوسيولوجيا الوعظ،في المغرب والعالم العربي،وهي بالمناسبة أبحاث قليلة وناذرة بحكم عدم تطور فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعاتنا،وصلت إلى نتائج رهيبة ودالة وهي أن الشعوب تمل من الوعظ وتكره الاستماع إلى الوعاظ،سواء كانوا وعاظ سلاطين أو وعاظ جماهير(ينظر كتاب العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي"وعاظ السلاطين")،إلا إذا أجبرت،وهي تشك في صدق كلامهم وتسيء بهم الظن.كما أن الخطاب الأخلاقوي إذا تمدد وبسط ظلاله على الحزب السياسي يقتل المبادرة والإبداع والحرية،ويرسخ في النفس الإحساس بالذنب والخجل والنكوص،ويضعف الكفاءة النظرية والفكريةوالعملية لأعضاء الحزب،كما يتجاهل الاختلاف الداخلي بين الأعضاء،ويحذر من كل احتكاك فكري أو سياسي بين الطاقات المتنوعة التي يضمها الحزب؛من هنا يخسر الحزب عناصر النمو والاستمرار في المستقبل مهما حاولت الاحتفاليات والمهرجانات الإيهام بقوة الصف وعزيمة المناضلين ووحدة المكونات وحكمة القيادة. إن الخطاب الأخلاقوي ،في المجال السياسي والواقعي بعامة،ينمط الحياة الفردية والحزبية؛من حيث طرق التخاطب ،والمظاهر،والمواقف،فيناقض مقتضيات الحياة القائمة على التنوع والتناقض والتعقيد والتكامل.وكانت تجربة النبي(ص) خير مثال على احترام واستثمار هذه المقتضيات القائمة على الاختلاف والتفاوت في المكونات الشخصية والكفاءات الفكرية والتدبيرية وردود الأفعال والمبادرة بل والصدق والحماس وعلو الهمة؛فعمر ليس هو أبو بكر ،وعثمان ليس هو علي،وبلال يختلف عن أبي ذر،مع العلم أن النبي(ص) كان يمثل القدوة والنموذج ويجسد المثل الأعلى؛(كان خلقه القران.)،(وإنك لعلى خلق عظيم.)،إلا أن النبي كان قدوة متعددة الأبعاد والمستويات مما أهله للتعامل مع هكذا طبائع ومذاهب ومواقف وردود أفعال وأنماط شخصية دون إقصاء أو تجاوز أو قمع.وقد أورد ابن الأثير في كتاب مثير يحتاج إلى دراسة سوسيولوجية هو "جامع الأصول في أحاديث الرسول"،رواية عن الترمذي،ناقل الأحاديث المشهور، من حديث أنس بن مالك قول الرسول (ص):"أرحم أمتي بأمتي أبوبكر،وأشدهم في أمر الله عمر،وأشدهم حياء عثمان،وأقضاهم علي،وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل،وأفرضهم زيد بن ثابت،وأقرؤهم أبي بن كعب،ولكل قوم أمين،وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح،وماأظلت الخضراء،ولاأقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر؛أشبه عيسى عليه السلام في ورعه،قال عمر:أفنعرف له ذلك يارسول الله؟قال:نعم،فاعرفوا له."فالنبي (ص) تعامل مع كل هذه التنوعات الشخصية والفكرية ووجهها في إطار تنظيمي وفكري ومنهجي متكامل؛فاستفاد من مرونة أبي بكر،ومن الصلابة السياسية والسلوكية لعمر،ومن ليونة عثمان ونفوره من المواجهة،ومن عدل علي ومن شجاعته،ومن علم أبي ذر ومن معرفته،(في مجتمع تحكمه الشريعة الإسلامية في نموذجها النبوي.)،ومن جرأة أبي ذر في قول الحق من دون أطماع شخصية ولا حسابات سياسية. إن الخطاب الأخلاقوي يحدث تجزيئا وتمزقا في منظومة الأخلاق،كتصور فكري وقيمي وفلسفي ضابط وموجه خفي للفعل الإنساني،(كما ذكر ذلك المفكر المصري التنويري عبد الحليم أبو شقة في كتابه"أزمة خلق المسلم المعاصر".)عندها تضعف القيم العامة وتغلب الضوابط والكوابح على الدوافع (عالم الحلال الواسع)؛فتجد من يتحسس من لقطة غير أخلاقية في فيلم سينمائي،ولاتجده يزأر ويحتج على حالات الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والتفاوت الاجتماعي الذي يراه رأي العين في كل لحظة وحين،ونهب المال العام وإهانة المواطنين وسلب حرياتهم،رهبة وغدرا وتعسفا.كما تراه يغض البصر،تخلقا،ولايفتح بصيرته،تدبرا،لفهم تعقد الواقع ومايجري في الكون حوله،كما تراه مستمتعا ومتلذذا بحضور المهرجانات واللقاءات الحزبية،تصفيقا وصياحا وإنشادا،ولايبذل أي مجهود لقراءة كتاب أو إعداد مبحث أو مراجعة مسألة نظرية أو فكرية أو سياسية أو حتى تنظيمية تحتاج إلى مجهود ذهني وعقلي مضن. إن الخطاب الأخلاقوي إذا صب في تنظيم قوي بخلفية تدبيرية مركزية وحديدية وقيادة كاريزمية وموحدة ومنمطة،لاتسمح بوجود المخالف والرأي الاخر،وجماهير من الأعضاء متفانين في الالتزام والطاعة،يصبح كارثة في المستقبل. إن تنظيم أحزاب الحركة الإسلامية ليس إطارا شكليا وحسب،بل هو مسألة مفهومية معقدة،مازالت في حاجة إلى مقاربات تحليلية ودراسية سوسيو-تنظيمية ومعرفية وتاريخية دقيقة؛فحزب الحركة الإسلامية له أثر على المشروع وعلى المجتمع وعلى الدولة؛إذ إن الحركة الإسلامية ليست حزبا سياسيا عاديا،كما ليست حركة دينية صرف أو طريقة صوفية ذات وظائف محددة،ليست ذلك كله،مهما حاول بعض قادة الحركة الإسلامية إثبات أنها مجرد حزب سياسي عادي،وبرغم مساهمات بعض الباحثين الجدد ،ليسوا من أبناء الحركة وغير ملمين بتفاصيل تشكل الحركة الإسلامية تاريخيا وفكريا وتنظيميا.إن حزب الحركة الإسلامية يحتوي كل تلك المستويات المذكورة ؛إنه يمثل "الجماعة-الحزب" أو "الظاهرة-التنظيم"(بتعبير المفكر الإسلامي والحقوقي الناقد الدكتور صلاح الدين الجورشي.)إن حزب الحركة الإسلامية يعتبر تجليا من تجليات التجربة القرائية للدين وعلاقته بالثقافة والمجتمع .إن التنظيم في هذه الحالة جزء لايتجزأ من التربية والسلوك لتحقيق الأهداف؛فقديما رفض الإمام حسن البنا اعتبار(الإخوان المسلمون) حزبا من الأحزاب،بل رفض البنا الأحزاب في مراحله الفكرية الأولى عند تأسيس تنظيم الإخوان،أما سيد قطب فقد وحد وماثل بين التنظيم والمجتمع تحت إسم "الجماعة"،عبر استعادة تاريخية،غير محينة،ومنقوصة الحس التاريخي،للتجربة النبوية.ومن ذكاء الحركة الإسلامية في المغرب،ذات خلفية المشاركة السياسية،أنها انتبهت منذ مدة معتبرة لحساسية اسم "الجماعة" وحمولته،ولخطورة استدعائه إلى السياق السياسي المغربي؛فتحولت من "جمعية الجماعة الإسلامية" إلى "حركة الإصلاح والتجديد"،مع تجنب أي إيحاء "جماعاتي"أو "ديني" ضيق عند تغيير اسم الحزب الأم "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" إلى الاسم الحالي"حزب العدالة والتنمية". وبرغم تخلص حزب العدالة والتنمية،ومن قبله حركة حركتي التوحيد والإصلاح والإصلاح والتجديد من الإيحاءات السلبية والطائفية لبعض المفاهيم الحركية ك"الجماعة" إلا أن الحزب مازال يحمل في ذاكرة السواد الأعظم من أعضائه وفي في خيالهم التاريخي معاني الجماعة-التنظيم/الحزب بما يعني التدخل،من خلال صلاحيات واسعة،في حياة الأفراد ومصيرهم،وتجذير الولاء الصارم للحزب ولقادته وأجهزته،وقد ظهر شيء من ذلك في المؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية.وهذا الولاء الصارم قد يحدث في المستقبل خللا فظيعا في النمو الشخصي والفكري والسياسي للأعضاء،في غياب ثقافة نقدية تدعو إلى الاستقلال الفكري وتشجع على المبادرة الفردية داخل الانتماء العام للحزب،كما ينتج عن خلق الولاء الصارم للحزب تضخيم القيادة وتصغير جماهير الأعضاء المنتظمين إن لم يكن استصغارهم،بشكل غير واع،والاعتناء بالزعيم وإحاطته بأهمية بالغة ومبالغ فيها،وتحويله إلى نجم STAR،يسعى الأفراد إلى التمسح به والتقاط الصور معه ولما لا التماس بركاته،في هذا السياق تنشأ أو قل تنزلق مجموعة من الصلاحيات من مجالاتها،صلاحيات الأجهزة الحزبية،وأخرى عرفية وسلطات مختلفة تتركز في يد القائد،تنشأ عنها مسلكيات ومواقف خارج المقتضيات التنظيمية،فتصبح السلطة داخل الحزب مجرد استمرار ضمني للسلطة التاريخية الغشوم،أو انعكاس غير إرادي لسلطة الاستبداد والتحكم التي يقدم الحزب نفسه كنقيض لها ،عبر عمل سياسي نضالي ومتدرج وعاقل.ولما يختل فعل السلطة في الحزب يختل التوازن بين مؤسساته وأجهزته ومكوناته وطاقاته ،وتضعف آليات المراقبة على القيادة ،ولا تخضع ممارستها للتقييم والتقويم الموضوعيين،وتضيق فرص الشورى والتداول والنقد،ويتم التضييق على المختلفين عن الخط السياسي العام للقيادة،أو المناوئين لها ولمزاجها،أو المعترضين على بعض مواقفها،مع فشو الأمية الفكرية والتنظيمية والسياسية عند عموم الأعضاء المنتظمين،مما يؤثر سلبا على الوعي الجمعي العام للحزب. أكيد أن حزب العدالة والتنمية محتاج إلى تنظيم قوي ومحكم،وقد عبر المؤتمر الوطني السابع عن ذلك بقوة،ومحتاج إلى قيادة مسنودة بجماهير واسعة حامية لها من كل اعتداء سياسي أو إهانة،خصوصا وأن الحزب ستتربص به العقارب والثعابين من كل جهة،وسيكثر حساده ومنافقوه بعد هذا المؤتمر التاريخي في الحياة السياسية المغربية،إما لإضعافه،أو لتفجير أجهزته التنظيمية،أو لإذكاء خلافاته الداخلية وتحويلها إلى تناقضات جذرية،أو للتأثير على المتعاطفين معه والمتحالفين معه،أو حتى التشكيك في صدق نواياء عند من يهمهم الأمر،مما يتطلب حالة غير عادية من الجندية واليقظة التفاعلية المستمرة،وهذا معطى عبر عنه أيضا المؤتمر الوطني السابع للحزب،وأظهر بأن الحزب مهيأ لهكذا معارك ومخاطر. برغم كل هذه التحديات يبقى تجذر مفهوم التنظيم- الحزب،بالمعنى الحركي الموروث في ذاكرة إطار المفاهيم لمكونات الحزب مشكلا وعائقا أمام المشروع الطموح للحزب لإنقاذ البلد وخدمة الشعب،مما يحتاج إلى مراجعة مستمرة ،وإلى ابتكار أساليب تدبير جديدة وفعالة ومرنة ومتجددة،تقوم على تنمية المواهب وصناعة القادةLEADERSHIP،وتشجيع المبادرات الفردية،والتخلص من المقولة التنظيمية القاتلة والفاسدة:"النواة الصلبة والمغلقة للتنظيم."،وهي عبارة عن مجموعة أفراد معدودين هم وحدهم "العلبة السوداء للحزب."،مع الإقرار الديمقراطي والحقيقي بالاختلاف وعدم الانزعاج من المخالفين أو مايسمى في الثقافة التنظيمية ب "الأجنحة المعارضة"، لاانزعاجا أخلاقيا ولا سياسياولا تنظيميا.،مع الاحتكام إلى الصراع الديمقراطي الداخلي،والالتزام برأي الأغلبية،مع حفظ حق الأقلية في تنمية فعاليتها وضمان استمراريتها المشروعة في النقد والمعارضة في إطار المشروع العام والبرامج والتوجهات العامة. إن التنظيم النافع والفعال هو الذي يملك قيادة لاتغرقه في خطاب أخلاقوي بل تفتح له افاقا للتساؤل والنقد والاستشكال،مع الاحتياط من النمو الخفي لسلطة الفرد حتى يستصنم هذا الفرد ويصبح الواحد الأحد،ويتم تسييجه بجيش من البيروقراطيين والمتخصصين والتقنيين.إن قيادة التنظيم النافع قيادة جماهيرية قريبة من الناس وذات قدرات تواصلية واجتماعية مبهرة ومؤثرة تزيد التحام الجماهير بها،وقد تفوق الأستاذ عبد الاله بنكيران في تجسيد هذا النموذج بشكل كبير ومدهش؛استثمر فيه خصائصه الشخصية والنفسية والطباعية،وأصوله الاجتماعية،إذ تربى كما يحكي ويعرفه عنه أبناء الحركة والحزب في أحضان والدة تمتلك من عناصر الكاريزما والذكاء الاجتماعي والسياسي الفطريين الشيء الكثير،كما استفاد من شراسته وخبرته التاريخية التي اكتسبها من دفاعه المستميت عن الحركة الاسلامية المغربية وحماية أفرادها وأبنائها في لحظات عصيبة من تاريخها الحديث،يوم كان بيته مكانا امنا لأبناء الحركة الذين يخافون أن تتخطفهم الطيور والصقور. أرجو أن لايوحي المؤتمر الوطني السابع لحزب العدالة والتنمية بأنه حزب حديدي من الناحية التنظيمية،حتى لايذكرنا بالأحزاب الشمولية المغلقة في التجربة الشيوعية،في المغرب وفي عالمنا العربي،أحزاب موت الإنسان،وأن يتجه ليكون حزبا قويا ومنظما،ولكنه يستند إلى خلفية تنظيمية تفاعلية وديناميكية متغيرة باستمرار من حيث الثقافة التنظيمية والبنية الفكرية بحسب حاجيات الواقع ومتطلباته الموضوعية.تنظيم حزبي مرحب بالنقد وغير متضايق منه،خصوصا وأنه تحول إلى حركة تغييرية واسعة،مع التخلص من "النزعة الحمائية" خوفا على الحزب ودفاعا عنه.إن مشورع الحزب لم يعد ملكا له بل هو ملك للمواطنين جميعا.فالحزب مطالب بالاستقلال عن الأزمة التي يعيشها المجتمع،وهو يقدم نفسه كقوة تدبيرية واقتراحية لحل هذه الأزمة؛إذ الاستقلال عن الأزمة يعني التفكير الايجابي بعيدا عن الوعي الشقي بالأزمة،كما يعني امتلاك الوعي الثاقب والفعل المبادر لصناعة المستقبل عبر مبادرات ذاتية وفعالة مع تنمية الرصيد الشعبي والتغييري للحزب ،والتسلح بوعي تاريخي يقظ ووضوح استراتيجي،مع الانتباه إلى المعوقات الذاتية،فكرا وتربية وتنظيما،استعدادا للتحولات الراهنة والكبرى التي يعرفها محيطنا الإقليمي والعالم العربي بل والعالم أجمع؛هذا العالم الذي يتغير بشكل سريع،ولامكان فيه لخطاب أخلاقوي تجزيئي وقاصر عن النفاذ إلى العمق،ولا لنظرة مضببة وتجريدية،أو نزعة تبريرية أومثالية للسياسة والواقع وتعقيداتهما. وتحتاج هذه المجهودات إلى مراكز بحث ومعاهد دراسات يتفرغ لها باحثون أكفاء يتسمون بالموضوعية والتواصل المستمر والمتفاعل مع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في الواقع؛ونعتقد بأن القطاعات الشبابية للحركة الإسلامية استقطبت عددا كبيرا من الباحثين المميزين في الماستر والدكتوراه،في مختلف التخصصات والحقول المعرفية،مازالوا يعيشون حالة بطالة علمية وبحثية أو ينجزون أطروحاتهم من دون مقاصد وأهداف علمية واجتماعية واضحة وبدون بوصلة معرفية،لأن صوت البحث العلمي مازال خافتا في صفوف جل الحركات الإسلامية المغربية.يحتاج أولئك الشباب إلى التأطير العلمي والتوجيه البيداغوجي والمنهجي والتحفيز والاعتراف لبذل مجهود بحثي استثنائي أعتقده أصبح أولويا في اللحظة الراهنة. وكل هذا لن يحدث أثره البالغ والنافع في المجتمع إلا إذا مدت أحزاب الحركة الإسلامية أيديها مبسوطة إلى كل القوى الوطنية،مهما كانت التعارضات أو التخريجات العقائدية أو التباينات الفكرية؛أي الإلتقاء على مصلحة الشعب والجماهير العريضة،والبداية بالبناء الديمقراطي السليم الذي يسع الكل،في إطار جبهات عريضة،نرى بأن حزب العدالة والتنمية اليوم مؤهل أكثر من غيره للمبادرة إليها.فالديمقراطية تنمية والتنمية حرية كما قال الباحث الإقتصادي البنغالي أمارتيا صن(التنمية حرية،مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر،سلسلة عالم المعرفة رقم 303)،أي تقليص الفوارق الاجتماعية،وبث روح الإنتاجية والإبداع في الشعب،ومحاربة الأمية المستفحلة في شعب يعتبر دينه العلم فريضة،وأول كلمات السماء التي وجهت إليه هي "إقرأ"،مع تدعيم الهوية الحضارية للأمة،من حيث القيم العليا الحاكمة.فلامستقبل للبلد،وفي أي موقع كان الإسلاميون،وهم طرف وازن في الحياة السياسية والاجتماعية،مالم يخرج الشعب ومكوناته المعتبرة من ظروف الحروب الأهلية الصامتة بين المكونات الوطنية والديمقراطية،فكريا وسياسيا.فحزب العدالة والتنمية يتحمل المسوؤلية السياسية والأخلاقية،نظرا لقوته السياسية والنضالية المتزايدة،لطرح مبادرات تفاعلية ذات أبعاد حضارية وثقافية واقتصادية مؤثرة وجاذبة للمكونات الأخرى،مع التخلص من التوترات المستوردة بين الحركات الإسلامية والقوى السياسية والفكرية الوطنية في بلدان أخرى تفتقر إلى عمق التفكير المغربي،منهجيا وفلسفيا وفكريا،وقدرته على النقد والتركيب،في إطار حضاري وثقافي وسياسي،مهما كان الاختلاف في تفاصيل تدبير اليومي وتدبير الشأن العمومي،مع ضرورة الاحتفاظ بمسافة موضوعية وصارمة مع لوبي الفساد والريع ومقاومي التغيير والإصلاح أينما كانوا.