مباشرة بعد تعيين الحكومة الحالية، كنت قد كتبت مقالا توقعت فيه أن يعرف المغرب موجة فجور وانحلال أخلاقي غير مسبوقة، على اعتبار أن جزء من "النخب" المغربية، وعلى غرار نظيرتها العربية، تعتبر أن أنجع سلاح لمواجهة موجة "الإسلام السياسي"، هو "الجنس" وملحقاته مهما اختلفت العناوين وتنوعت الأدوات. وبالفعل لم تمض سوى أيام على تنصيب حكومة ابن كيران، حتى بدأت القنابل الصوتية تنفجر في سماء المغرب، تارة تحت مسمى الدفاع عن حرية الإبداع، وطورا تحت عنوان حماية الحرية الشخصية.. وهلم جرا.. إن هذا الواقع يستدعي تسليط الضوء على النقط التالية: نهاية السياسة يروج البعض، وبإلحاح وإصرار غريبين، بأن معركة الحريات الشخصية وحرية الإبداع في المغرب، معركة مصيرية، بل هي مسألة حياة أو موت، ولذلك هناك سعي دائم لتصيد واستغلال أية خطوة غير محسوبة أو زلة لسان قد تصدر عن متنطع هنا أو هناك، خاصة في زمن تقنيات التواصل الحديثة التي أصبحت تيسر نقل الحدث لحظة وقوعه، وبعدما وجد كثير من الجهال والأميين واشباه المتعلمين، الطريق سالكا للتعبير عن أفكارهم حتى وإن كانت غير ذات أساس علمي أو منطقي فأحرى ديني، بل حتى وإن تحولت تلقائياً إلى حجة ضد الدين وشبهة في حق المتدينين. وتبعا لذلك شاهدنا معارك متتالية انفجرت فيها كثير من القنابل الصوتية، لن تكون آخرها بطبيعة الحال حكاية الثنائي لغزيوي والنهاري. صحيح أن هناك من يعتقد جازما أن الوضع العام في المغرب لا يسمح بممارسة هذه "الترف الفكري"، وأن الإكراهات التي يمر بها البلد والمخاطر البادية في الأفق، تتطلب نوعا من الجدية في التعاطي مع الشأن العام، إلا أن هذه المعطيات تكشف في نهاية المطاف، حقيقة لا يمكن تجاهلها، تتمثل في نهاية زمن السياسة في المغرب. لنستحضر بداية السيناريو الذي كان قيد الإعداد قبل سقوط نظام بن علي، فقد كانت كل المؤشرات تسير في اتجاه النفخ في حزب الأصالة والمعاصرة ليكون حزب الدولة، ومشروع حزب وحيد يتماشى مع "الخصوصية" المغربية، لولا أن رياح الربيع العربي سارت بما لا تشتهيه سفن مهندسي المرحلة، وزادت نتائج اقتراع 25 نوفمبر الأمر تعقيداً رغم محاولة تمويه مشروع الحزب الأغلبي عشية تلك الاستحقاقات ضمن تحالف هجين لم يكن له طعم سياسي أو لون إيديولوجي.. لقد وجد البام نفسه في المعارضة فجأة، وهي مهمة لا يتقنها لأنه لم يخلق لها ولم يتعلمها، بدليل "مرمدة" فريقيه في البرلمان على يد وزراء العدالة والتنمية حديثي العهد بالسلطة، على الهواء مباشرة وبشكل مستمر... وكذلك الشأن بالنسبة للتجمع الوطني للأحرار، الحزب الذي خلق ليكون في الحكومة بأي شكل وأي مستوى وبأية نسبة.. وسيمر حتما في المستقبل القريب بظروف صعبة بعد قصة المنافع المتبادلة بين رئيسه والخازن العام، خاصة بعد وصول الأمر إلى يد القضاء.. ولا أدري أي نوع من السياسة يمكن أن يمارس هذا الحزب وهو في وضعه الحالي، بعدما تهاوت حساباته ورهاناته على "التراكتور"، وفي ظل إصراره على المضي قدما في طريق اتضح منذ زمن أنه يقود نحو الهاوية؟ أما الاتحاد الاشتراكي فقد أعادت الأمواج المتلاطمة قاربه المثقوب إلى نقطة الانطلاق، وهو الذي ظن في لحظة من اللحظات أنه "حرك" إلى ضفة الحكومة بشكل نهائي، وأعد العدة لإقامة مطولة حتى لو لم ينجح في "تسوية وضعيته" تماما مع "المخزن". ومن المؤكد أنه يحتاج في كل الاحوال إلى وقت طويل جداً ل"ترقيع البكارة" قبل تصنع الطهر الثوري من جديد، خاصة بعد حلول وجوه اتحادية بارزة بزنازن "عكاشة"، في انتظار محاكمات ستكون مدمرة للحزب الذي خرج أصلا "متسخا" وشبه مفلس من تجربة حكومية دخلها بحسن نية ونسي أن سوء الظن من حسن الفطن عند التعامل مع "المخزن". خلاصة هذا المشهد تؤكد أن هذه الأحزاب الثلاثة وجدت نفسها في المعارضة فجأة ودون سابق إنذار، وسيكون من الصعب عليها أن تمارس المعارضة السياسية تحت أي عنوان لأنها لا يمكن أن تطالب الحكومة الحالية - وبعد بضعة أشهر- بتحقيق ما عجزت هي عن تحقيقه خلال ثلاث ولايات متتالية، كما أن شبح الفساد الذي يلاحق كثيرا من وجوهها البارزة، سيجعل كثيرا من مبارزاتها السياسية خاسرة مسبقا. وهذا ما يفسر بالمقابل وجود بصماتها واضحة، في كل المعارك التي اندلعت للأسباب المشار إليها أعلاه...تحت ذريعة الدفاع عن "الحرية"، وكأن المغرب تحول بين عشية وضحاها، إلى إمارة طالبانية. باختصار شديد، هناك محاولة واضحة للتغطية على البطالة السياسية والعجز عن ممارسة المعارضة البرلمانية القائمة على الرقابة والمتابعة وتقديم البديل..عبر الركوب على قضايا تافهة، وإظهار الأمر كما لو أن مشاكل المغرب الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن تحل إلا إذا تجول الناس في الشوارع عراة "يقفز" بعضهم على بعض مثل مجتمعات القردة.. وقد زاد الطين بلة أن حركة 20 فبراير التي راهن البعض عليها لتكون رد فعل المجتمع الشاب على ترهل الطبقة السياسية التقليدية، سرعان ما تقطعت السبل بمكوناتها، التي اختلفت منذ البداية على الغاية والوسيلة، وفشلت بالتالي في إقناع الشارع بقدرتها على التحول إلى البوابة التي قد يأتي منها التغيير المنتظر. موائد الشيطان يتوقع كثيرون، -وقد لاحت البشائر مبكرا- أن يكون شهر رمضان المقبل مناسبة جديدة لممارسة نوع آخر "بديل" من المعارضة السياسوية، عبر الدعوة لتنظيم "موائد الشيطان" لانتهاك حرمة شهر الصيام، وهنا أيضا ستظهر نفس الوجوه مرة أخرى بصفتها "حارسة معبد الحرية" و"سادنة أصنامها" لتردد نفس الشعارات، وتجتر نفس المواقف الرمادية الملتبسة. والمشكلة هنا ليست في مراهقين مؤمنين بأنهم ولدوا في الزمن الخطإ والمكان الخطإ، ويعتقدون أنهم يسبقون عصرهم، ويستحقون بالتالي أن يوجدوا في بلد غير البلد وضمن شعب غير الشعب، بل المشكلة في الذين يعتقدون أن كل الوسائل جيدة لمناكفة الإسلاميين خاصة بعد وصول قسم منهم إلى الحكومة. إن هؤلاء، يريدون حريقاً مهولاً يأتي على الأخضر واليابس، حتى يثبتوا نظريتهم القائمة على معاداة الدين لقيم الحرية والحداثة، ولذلك لا يكتفون بالاستفزاز واستدعاء ردة فعل متهورة، ليبنوا عليها أهراما من ردود الفعل "الإعلامية"، بل يلعبون أحيانا دور "الموجه" الذي يحدد حتى الهدف الذي على "المتطرفين" التصويب نحوه، ويلفتون الانتباه إليه على أمل أن يبتلع سفيه ما الطعم فيقوم بالخطوة المنتظرة، كما حدث مؤخرا عندما تساءل أحد المواقع "الحداثية" عما يمنع المتطرفين المغاربة من تكرار تجربة "إخوانهم" طالبان عبر تخريب بعض المآثر الرومانية "الفاضحة" النائمة في أمان بمدينة وليلي منذ ما قبل دخول الإسلام، وذلك قبل أن تنضاف إلى ذلك قصة "الحرية الجنسية"، وحق "الراشدين" في التوافق -بمقابل أو بدونه- على الانقياد لسلطان الغريزة من دون ضوابط. إن الرد على هذا العبث لا ينبغي أن يكون عبر التذكير بنصوص القانون الجنائي كما فعلت الحكومة، ولا عبر التذكير ب"الثوابت" الدينية و"القيم" الاجتماعية والأخلاقية، بل لابد من التعامل مع الأمر بنفس العبثية. فبالنسبة ل"وكالين رمضان"، لماذا لم تبادر الحكومة مثلاً إلى إعلان أنها ضامنة لحقهم في "العلف المدعوم"، من خلال تنظيم "موائد للشيطان" على غرار "موائد الرحمان"؟ أنا على يقين أنه لو تم التعامل مع هذه الفئة بهذا المنطق، فسوف تبحث لنفسها عن تقليعة جديدة لشد الانظار إليها، بعدما يتهاوى "أصلها التجاري والدعائي" الذي تستخرجه كل رمضان لتسترزق به. وبالنسبة للذين اختزلوا الحرية في الجنس وحده، واعتبروا أنه لا حرية فوق حرية استعمال الجهاز التناسلي، حتى أن منهم من أعلن استعداده لاحترام خيارات قرابته المباشرة من النساء في حال جذبتهن شعاراته "الحداثية"، فقد كان على الحكومة من باب العبث الذي لا مفر منه، أن تُلزم شركات الاتصالات، بمنح أصحاب هذا التوجه خطوطا هاتفية "وردية" مجانية، وتتوسط لدي القناة الثانية لتقديم وصلات إشهارية للمساعدة في البحث عن راغبين في ممارسة هذا النوع "الحرية" مع قريبات "الحداثيين".. الذين سيشرفهم حتما أن يكونوا وسطاء في هذا "الإنجاز الحداثي".. إن أفعال العقلاء منزهة عن العبث، لكن حين نكون أمام باطل يراد به باطل، فإن العبث يصبح بمثابة الباب الوحيد لإعادة الأمور إلى نصابها. "ديالها" وهي حرة فيه لو استقرأنا "الإنجازات" الفنية التي تحققت خلال الشهور الأخيرة على المستوى الوطني، فسنجد أنها لا تخرج عن كشف ممثلة لساقيها في مراكش، وتمرغ أخرى في "أم المزابل" بالدار البيضاء، فضلا عن اكتشاف ثالثة لكون "ديالها"، هو محور الكون الذي يستحق أن يكون موضوعا لمسرحية لم يتسع لها حتى الآن سوى فضاء مركز ثقافي أجنبي متهم منذ عقود بممارسة "التبشير" بمفاهيم هدفها المعلن هو تفكيك البنية الثقافية المغربية الأصلية والأصيلة، وتحويلها إلى جزر معزولة تحتاج إلى قنوات المحتل السابق لجسر الهوة بين مكوناتها. مبدعونا إذن مجمعون على استقطاب الأضواء بكل شيء وأي شيء ما عدا الفن الذي يدعون أنهم حراس هيكله. المبدع الحقيقي مثل الرياضي المتميز، أعماله تتكلم نيابة عنه، ولذلك عندما "تحفى" قدم "الكوايري"، يحاول استقطاب الأضواء مجددا عبر التصريحات النارية، وعوض أن يكون حضوره "فعلا" في الميادين، يصبح "تألقه" مجرد كلام على صفحات الجرائد...وهذا ما يحدث تماما في الساحة الفنية.. كم تمنيت لو أن إحدى فناناتنا - القلقات على "حرية الإبداع"- كذبت يقيننا بضعف مستواها، وفاجأتنا بترشيحها من طرف المختصين، ليس للمنافسة على جائزة الأوسكار أو السعفة الذهبية، بل للمشاركة في عمل فني دولي بعيدا عن صدقات الأفلام الفرنسية وعن أدوار الكومبارس الصامتين في الأعمال التي تصور في فضاءات ورزازات. وكم تمنيت لو أن أحد مخرجينا -الذين يطلون علينا بين الفينة والأخرى فقط على دوي مشاهد فاضحة يفترض أن تخضع لعناية شرطة الأخلاق، وليس لتحليل نقاد السينما- فاجأنا بترشيحه لإخراج ولو مسلسل رمضاني من تلك التي تنتجها وتنفق عليها بسخاء دول خليجية، وتفتح أبواب المشاركة فيها أمام مبدعين من مختلف الجنسيات العربية نكاية في المصريين. مع كامل الأسف، فسقف حرية الإبداع في هذا البلد السعيد بفنانيه، يقف عند المشاهد الفاضحة التي ليس لها مبرر أو يقتضيها سياق درامي، سوى الرغبة في استدراج ردة فعل ما، كما يقف عند الحوارات المبتذلة التي تكشف عن ضحالة الثقافة الفنية والعجز عن الإبداع الحقيقي، الذي لا يمكن التغطية عليه بدغدغة الغريزة... فهل ننتظر الساعة إذن؟...