لقد تهاوى عزف البعض على وتر استثناء هذا البلد أو ذاك، وسقط وهم ما يُردد ببغاويا، بأننا لسنا كالآخرين وأننا في مأمن مما يحدث حولنا من تغيرات بلغت درجة الثورات... وفندت وسائل الإعلام المستقل- على قلتها- ومواقع "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"، كل ما يسمعه جمهور الإذاعات والقنوات التلفزيونية الرسمية، ويقرأه النخب في الصحف والمجلات الموالية، حول استثنائنا واختلافنا عن العالمين، الذي تحاول بعض الجهات تمريره من أجل الاستهلاك العام، وإخفاء الحقيقة التي كان يراد لها أن تطمس، رغم دويها المجلجل وهيمنتها على نقاشات وحوارات نوادي نخب المجتمع المتفتحة، وتدور في رحاب جمعيات الأحياء وبين العائلات وداخل الأسر، والتي لم تحد عن الإشارات الكثيرة المتناثرة على طول وعرض المشهد السياسي العربي الذي أسرف في التلميح والتلويح للنشاط والدأب المتقادم لحركات الإسلام السياسي وتمدده وتشعب خيوطه وتشابكها في أفق واسع فضفاض من العلاقات المعقدة مع المجتمعات العربية والمغاربية، والتي أصبحت (الإشارات) في نهاية المطاف نتيجة محسومة، تمخضت عنها انتخابات 25 نونبر 2011 التي لم تكن طارئة ولا مفاجئة أو غريبة يؤيدها التغيير الحاصل في المجتمع المغربي كما في باقي المجتمعات التي تعيش أحداثا جديدة بزغت في السنوات القليلة الأخيرة واستقطبت اهتماما وتأييدا جماهيريا كبيرا، على حساب الأحداث الروتينية العتيقة التي ولت واندثرت أمام هذا الزخم العرمرم من خيل الأحداث غير المسبوقة التي تختلف جيناتها الوراثية وخارطة حمضها النوويDNA عن كل ما سبقها، تغذيها الإنترنت بمختلف وسائل التواصل العنكبوتية الرهيبة، وتؤجج نارها وثائق، بل فضائح، ويكيليكس المجلجلة، وتنضجها أزمات البطالة وتكلفة المعيشة المرتفعة ومعاناة الفقر والتهميش والقهر السياسي والإرهاب الفكري والحزبي والنقابي، لتنتصر في نهاية المطاف على تكهنات كل الجهات الرسمية والأحزاب السياسية التي تجاوزتها كل هذه الأحداث التي طبعت الأنظمة العربية، ووضعتها في مواجهة الغضب الشعبي خلال ما عرف بالربيع العربي الذي كانت المستفيد الأول منه على ارض الواقع، هي الأحزاب الإسلامية التي عرفت كيف تستغل براكن السخط الجماهيري ضد حكامه، لصالحها، وعلى رأسه غضب الحركات الشبابية وثوراتها التي تسببت للجهات المسؤولة في الصدمة والذهول وارتجاف الفرائص، حتى أنها لم تستطيع-رغم ضخامة إمكانياتها وعدتها وعددها- إقبارها أو التشكيك في مصداقية أهدافها ومبدعيها الذين لا قائد ولا زعيم لهم غير الهدف الوحيد والشعار الأوحد المتمثل في: "مقاومة الفساد وإعادة الكرامة". وقد استطاعت هذه الأحزاب الإسلامية الوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع بفضل الكثير من هؤلاء الشباب الذين طالما اتهمتهم جل فصائل الإسلاميين وفي كل ربوع البلاد العربية والمغاربية، بالتخنث والمجون والعزوف عن السياسة، والغياب عن المسؤولية، إما غرقاً في مشاكل الفقر والحاجة، أو انغماساً في حياة الترف والسلوى.. والغريب في الأمر، هو أنه ما إن بدت بوادر نجاح تلك الحركات، حتى تسابقت في تزلف غبي، وتملق بليد، جميع التيارات التي كانت وإلى وقت قريب تعارض ثوراتهم جملة وتفصيلا، إلى الإشادة بها ومدحها والتهليل لها على أنها حركة معقولة مقبولة مباركة، بل ومقدسة، وأن مطالبها مشروعة ووطنية ثم ركبت عليها لغايات في نفوس اليعاقبة.
وفي مثل هذا المناخ الذي عرفه الشارع العربي والمغاربي، وفي ظل ازدحام وتطورات هذه الأحداث السياسية التي أفرزت ثورات كاسحة مهدت لصعود نجم الحركات الأصولية ووصول أحزابها إلى دفة الحكم في تونس ومصر؛ استطاع حزب العدالة والتنمية- مستحضرا مقولة جي دي موباسان الشهيرة(الشعب قطيع غبي تارة صبور جدا وتارة ثائر بقوة)- أن يستغل سياسيا غضب الشارع المغربي الشامل، وهيجان شبابه العارم، لغرض الفوز بالانتخابات التشريعية ل 25 نونبر 2011، واحتلال المرتبة الأولى ب 107 مقعدا، التي مكنته من تبوء رئاسة الحكومة، ما يجعل المغرب ينخرط في سياقات البلدان التي عرفت وصول الإسلاميين للحكم، ولا يحيد عن القاعدة التي تسقط معها أسطورة الاستثناء المغربي.
وبالرغم من أن نجاح العدالة والتنمية ليس نجاحا لمشروع حضاري، أو انتصارا لبرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي، بقدر ما هو نجاح انتخابي وفوز لثقافة سياسية ماضوية تربط الكفاءة باللحية والمحافظة على الصلاة في المسجد وبروز (طابع الصلاة) علامتها على الجباه، وأنه مكافأة لهذا الحزب على دفاعه المستميت على الدستور الجديد ومواقفه الصريحة ضد حركة 20 فبراير، و هجمته ضد أحد البنود المقترحة من طرف اللجنة التي أعدت مسودة الدستور والذي صرح فيه بحرية الاعتقاد لأنها تهدد مؤسسة إمارة المؤمنين، ونأيه عن الانحشار في أي مشروع نضالي أو مطالب جريئة تغضب المخزن، ولأنه حزب معروف بولائه الشديد للمخزن وللصلاحيات المطلقة للملك عبر مؤسسة إمارة المؤمنين، حيث كان يرفع دائما شعار " نحن مع ملك يسود ويحكم" وذلك باعتبار أن الملك الضامن للطابع الديني للنظام السياسي في المغرب، إلى جانب تعامله مع كبريات القضايا الوطنية الحساسة باحتشام كبير وحربائية مقيتة وشعارات بالية بئيسة يطلقها سواء في صحفه ووسائل إعلامه الخاصة أو في المهرجانات الانتخابات واللقاءات الصحفية، كما في القضية الأمازيغية التي عاداها -وغيره من الأحزاب الأخرى وعلى رأسها لا يحيد عن القاعدة وأدخل عدوه السابق وشريكه الحالي حزب الاستقلال- عداءا مستهجنا مجانيا ودون وجود معيار واضح، ثم عاد إلى الركوب عليها بانتهازية فجة فاضحة لمآرب انتخابوية صرفة ومحدودة، دون إيمان بقيمتها وقيمها وضرورة مأسستها ودسترتها على استقرار البلاد، ودون إصدار أي نقد ذاتي في موضوعها.
فقد تمنى الكثيرون، لو أن حزب العدالة والتنمية حصل على الأغلبية المطلقة، ليتمكن من تشكيل حكومة على مزاجه، دون الاضطرار إلى وضع يده مكرها في يد شركاء حكموا أو ساهموا في حكم البلاد لعقود، وجلب عليهم فشلهم في تحقيق مطامح المواطنين سخط الجماهير العارم، وجعل من حكومتهم (حكومات عباس الفاسي) حكومة مغضوب عليها رغم ما حققته من انجازات في بعض الملفات،
ودون اللجوء مجبرين إلى خطب ود شركاء كانت نتائج بعضهم الانتخابية غير مستحقة أو مشبوهة، لا هم لبعضهم إلا الجري وراء المناصب الحكومية، والتملق للوصول إليها، والاقتتال للحفاظ عليها والبقاء فوق عروشها إلى ابد الآبدين.
لكن حكمة المخزن التي جندت السيد بنكيران لتدبير المرحلة وتجنيب البلاد الكوارث، ارتأت تقييده، وبفنية خارقة -يوافق عليها الكثير من المغاربة كإجراء احترازي- بهذا النوع من التحالفات المتحكم في دواليبها، وتكبيل يده بشركاء تشوب بعضهم الشبهات، حتى يمكن توظيفهم لفرملة ما عرف عنه من شطحات غير محسوبة وإيقاف انزلاقاته المحتملة التي يمكن أن تزيغ به عن الخطوط الحمراء المرسومة قبلا، حيث يكون من السهل وتبعا للظروف والملابسات، أن ينسحب حزب من أحزاب الإتلاف وينضم للمعارضة، فتسقط حكومة بنكيران المتهم مسبقا بكونه يمكن أن ينزع بعد تمكنه من السلطة إلى الانتصار- على أساس "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما"- لبعض أفكار الفصائل الإسلامية التي تربطه بها علاقات وثيقة، والمتعلقة بنوعية الحكم الإسلامي (الخلافة الإسلامية) وتطبيق الشريعة بما فيها من عقوبات وحدود صارمة، كقطع الأيدي وجز الأعناق وجلد الظهور ورجم الأبدان في الساحات العمومية إلى جانب مواقفهم من أوضاع المرأة، والأعمال الإرهابية والديمقراطية ومفاهيمها التي لا يوظفونها إلا لمآرب سياسية محدودة دون الاعتقاد بقيمها وأسسها ومبادئها، لأنها في جوهرها -حسب معتقدهم- علمانية لقيامها على احترام الاختلاف والحريات وخاصة "حرية المعتقد" قبل كل شيء.
وحتى يعلم الإسلاميون أن من يملك اختيار وتنصيب العدالة والتنمية في السلطة يملك أيضا القدرة على إسقاط ومحاسبة كل الجماعات التي تتنفس مثل تلك المعتقدات التقليدية الانتهازية والوصولية المتوارثة المؤسسة على الحماسيات العنترية وفعل القوة في أدبياتها وأمثالها وأشعارها، والتي لاشك تعجز، عن التحول إلى هيآت مدنية ديمقراطية ولو بنكهة إسلامية، وتنخرط في هموم واهتمامات المجتمع المغربي السياسية والاجتماعية والحضارية، وتتحول عن وظيفتها في إنقاذ الذين إلى إنقاذ المجتمع، أي أن تترك الدعوة إلى إقامة الدين في المؤسسات، إلى نشر الديمقراطية في تلك المؤسسات، والبعد عن كل ما يؤدي إلى ما يمكن تسميته ب"ثقافة الانحطاط" بكل قيمها ونماذجها السلوكية اللاعقلانية، كما صرح بذلك السيد بنكيران مرارا قبل مباشرته الحكم، فهل سيلتزم بذلك بعد تسلمه السلطة؟ أم إن ما يقال زمن الحملة الانتخابية لا يَصدُقُ بعدها، لأنه مجرد ماركتينغ سياسي؟. الكل يعتقد أن السيد رئيس الحكومة جاد فيما أعلن عنه، في عدة مناسبات، من أن حكومته لن تمس مكتسبات الناس السابقة، وستحترم الحريات الفردية بكل أنواعها، ولا نشك في صدقه وفي قدرته على العمل بجد وكفاءة عالية من أجل محاربة الفساد وتطبيق الحكامة الجادة والجيدة التي وعد بها خاصة أن الجرأة لا تعوزه لتطبيق ذلك على ارض الواقع. إلا أننا نتفهم تخوف الجماهير العريضة من التناقض الفاضح الموجود بين الإشارات الإيجابية التي تنم عن التسامح والانفتاح التي يحاول السيد بنكيران تسريبها عبر الصحافة لطمأنة المواطنيين، وبين المواقف المتسمة بالتشدد الذي لا تدع مجالا سليما للتفاهم مع الإسلاميين، والتي يصرح بها ويعلنها الكثير من قياديي حزب العدالة والتنمية لوسائل الإعلام الداخلية والخارجية حول موضوع الحريات، كالفكرة العجيبة غير المسبوقة عن الحرية، التي طلع بها السيد يتيم-الذي يحاول التظاهر بمظهر المتفتح- على المغاربة عبر جريدة المساء، -والتي علق عليها الأستاذ عصيد بأنها تعريف غريب ناتج عن قراءة سلفية فاسدة لمبدأ الحرية والقائل: "كل واحد حر في حدود عدم المساس بحرية غيره" والذي يعطي فيها لحقوق الإنسان دلالات تنسجم مع التوجهات السلفية المتشددة اللاديمقراطية القائمة أساسا على عدم احترام حق الاختلاف، والتي لابد أن يصاب بالذعر والرهاب مما جاء فيها من اضطراب مفاهيمي وغموض في الأهداف، حيث يقول بأن: "حرية المحافظين" في عدم تعرضهم لاستفزاز مشاعرهم من طرف غيرهم من المواطنين المتحررين المخالفين لهم في نمط العيش، أي أن المانع من التمتع ببعض الحريات في المأكل والمشرب واللباس والإبداع الفني عند السيد يتيم هو أن أغلبية المواطنين المحافظين يتأذون من ممارسة هؤلاء لحرياتهم تلك مما يستوجب عليهم الاحتفاء من الفضاء العام والتمتع بحرياتهم الفردية في بيوتهم، كما أن عليهم في الأماكن العامة الالتزام بالسلوكات التي يقرها المحافظون واعتماد مظاهر نمطهم في العيش، وذلك احتراما ل"حريات" هؤلاء المحافظين التي يسميها السيد يتيم "حق الجماعة الذي ينبغي أن يفرض نفسه في المجال العام على حساب حقوق الأفراد."
ما يجعل المواطن المسكين في حاجة ماسة وملحة الآن وقبل أي وقت مضى، إلى خطاب صريح وصادق مبني على الإيمان بالدولة المدنية حقيقة لا تكتيكا، وعلى الإيمان بالعلمانية المتنورة التي لا تنكر الإسلام، ولا تخالف المعتقد، لكنه ينكر استخدامه لإبقاء القيود مكرّسة لخنق منابع الحرية والانطلاق، حتى يطمئن الناس على مستقبلهم الذي وضعته الصناديق وأمور أخرى بيد الإسلاميين الذين يجب أن يعوا جيدا أن فشل حكومتهم تهدد حزب العدالة والتنمية وبقية الحركات الإسلامية بالزوال. وفي انتظار ذلك يجب أن تبقى يد المواطن المغربي على الزناد، وأن لا ينام عن شوارد السادة الجدد إلا بنصف اغماضة.. لأن فشلهم في الوفاء بتعهداتهم لاشك حاصل إذا طبقت الأفكار التي يؤمن بها الكثير من قيادي الحزب والتي لا تقل عن فكرة الحرية عند الأستاذ يتيم والتي تضرب بعرض الحائط كل حقوق الإنسان ومبادئها المتعارف عليها دوليا، أهم الركائز في بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي يعتبرونها مصطلحا سياسيا علمانيا، أما الحكم الرشيد فهو مصطلح إسلامي صرف، أي هما وجهين لعملتين مختلفتين لا يلتقيان أبدا، كما بدا ذلك جليا ابتداء من الأيام الأولى لفوز حزب النهضة من خلال المظاهرات التي قام بها الإسلاميون السلفيون مطالبين بفرض الحجاب والتنديد بالعلمانية ومهاجمة لدور العرض وفرض دخول المنقبات للجامعات، وغيرها من الأمور التي تعتبر قيودا في نظرهم على الممارسات الدينية أيام النظام السابق، فهل من ضمانات بعدم تكرار نفس التجربة التونسية والمصرية في المغرب، رغم تصريحات رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية السيد بنكيران بأن حزبه سوف لن يتدخل في الحياة الخاصة للمغاربة.