تدفقت الآراء وردود الفعل بغزارة من طرف مختلف الفعاليات الإعلامية والحقوقية، ومن لدن عدد من رموز التيار السلفي بالمغرب، سواء ما اصطُلح عليه أمنيا بالسلفية الجهادية أو ما سُمي بالسلفية التقليدية في إشارة إلى تيار الشيخ المغراوي حول قضية الحرية الجنسية التي أثارت وما تزال جدلا كبيرا في الآونة الأخيرة بين الصحفي المختار الغزيوي رئيس تحرير جريدة "الأحداث" والداعية الإسلامي الشيخ عبد الله نهاري. وسعيا من جريدة هسبريس إلى الإحاطة بمختلف الآراء والمواقف حول هذه القضية المثيرة، والتي بسطتها بكل حرية ومسؤولية على صفحاتها بدون تحيز إلى أي طرف كان، حاولت أن تبرز موقف المؤسسة العلمية الرسمية من الجدل الدائر بخصوص الدعوة إلى الحرية الجنسية، باعتبارها "جزء لا يمكن تجزيئه من منظومة الحريات الفردية في المغرب"، وفق ما يقول مناصرو هذا الطرح. أهل القبور ! ولذلك اتصلت هسبريس مرات متكررة وكثيرة بالعديد من رؤساء وأعضاء المجالس العلمية في البلاد، خاصة منهم الذين تعودوا على الحديث إلى الإعلام وحتى غيرهم أيضا، بغية استكشاف بعض الملامح الرئيسة من أجوبة ظلت عالقة لاستكمال صورة هذه القضية التي طُرحت للنقاش على حين غرة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد. وحصلت هسبريس على "أجوبة" ستكون ولاشك مُخيبة لآمال العديد من القراء ومرتادي الموقع الذين ما فتئوا يطالبون بتسليط الضوء على مواقف من يسمَّون "العلماء الرسميين"، فبعضهم حتى لا نسمي أحدا بعينه ظلت هواتفهم "مُغلقة" تماما حيث إنها كانت ترن بدون جواب. والبعض الآخر من "العلماء الرسميين" أجابوا الموقع على مكالماته الهاتفية، ولكن حين علموا بفحوى الموضوع المتمثل في طلب تصريح في ما يخص القضية / الجدل، سرعان ما تراجعوا إلى الخلف متوسلين بشتى الأعذار، وبأدب جم أيضا لعله لا ينفع في مثل هذه المواقف. أحد هؤلاء، وهو رئيس للمجلس العلمي المحلي لمدينته، وعد الموقع بأنه سيدلي برأيه في الموضوع، لكنه اعتذر سريعا بدنو صلاة المغرب، فضرب لهسبريس موعدا في فترة مابين العشاءين، غير أنه ترك للمجيب الآلي لهاتفه المحمول مهمة الرد علينا طيلة ساعات. واختارت شخصية أخرى معروفة بزخمها الفكري وإشعاعها المعرفي، وتمثل مؤسسة علمية رسمية ذات حضور أكاديمي لافت، أن تجيب هسبريس بالاعتذار عن الحديث في القضية ذاتها، لسبب أوجزه الرجل في أنه لا يحيط بحيثيات الموضوع، ولا علم له البتة بما جرى بين نهاري والغزيوي. علماء رسميون ولاستجلاء الحيثيات والدوافع الثاوية وراء هذا الإصرار المُمْعِن في الصمت المطبق من لدن المؤسسة العلمية الرسمية، أو العلماء الرسميين، اتصلت هسبريس بالباحث المتخصص في الشأن الديني بالمغرب منتصر حمادة، والذي فضل في البدء التعريف بالمقصود من مصطلح "علماء رسميين". وقال مدير موقع "إسلام مغربي" إنه عندما نتحدث عن علماء رسميين، فالمقصود بذلك مجمل العلماء والفقهاء الذين يشتغلون في إطار مؤسسة دينية رسمية، ونخص بالذكر مؤسسة المجلس العلمي الأعلى ومعها جميع المجالس العلمية المحلية ، ومؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء، وبدرجة أقل مؤسسة دار الحديث الحسنية. وتابع حمادة شارحا: "تشتغل المؤسسة الأولى تحديدا على قضايا فقهية وشرعية، حتى أن مؤسسة الإفتاء تبقى تابعة لها منذ سنة 2004، في حين تشتغل المؤسسة الثانية على قضايا معرفية وثقافية، كما هو مسطر مثلا في طبيعة المحاور التي تشتغل عليها بعض مراكز الدراسات التابعة للمؤسسة، حيث لا نجد مركزا متخصصا في موضوع الفتوى أو القضايا الشرعية، بحكم أن هذا ملف يندرج في صميم مهام المجلس العلمي الأعلى، وإنما نجد مراكز مخصصة لقضايا المرأة في الإسلام، القيم، الدراسات القرآنية، تقريب العقيدة والمذهب والسلوك، التصوف.. إلخ. رأسمال رمزي؟ ولفت الباحث إلى أن توزيع الاختصاصات بين مؤسستي المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء لا يحول دون أن تصدر مواقف عن المؤسستين بخصوص تفاعل الرأي العام مع موضوع "الحرية الجنسية"، وهنا يردف حمادة يجب التوقف عند عدد من المُحددات. وسرد حمادة بعض تلك المحددات، حيث إن هناك من يرى أن الأسماء الفقهية والبحثية التي تشتغل في أفق المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء، غير معنية بتمرير وجهات نظر في مثل هذه النوازل، لأن المؤسستين ستصبحان معنيتيْن في العديد من المناسبات بتمرير وجهات نظر ظرفية أو عاجلة، مما قد يُسقط من المكانة الاعتبارية لمثل هذه المؤسسات، أو التقزيم من "الرأسمال الرمزي" اللصيق بأية مؤسسة دينية. واستطرد المتحدث بأن هناك من يعتبر أن مثل هذه المؤسسات، معنية بالإدلاء العلني والصريح بمواقف من مثل هذه القضايا التي تمس في الصميم رمزية مؤسسة إمارة المؤمنين، بحكم أن بعض الآراء التي صدرت عن كلا الطرفين في الضجة، وخاصة التيار المحسوب على المرجعية العلمانية، لم تتردد في التلويح بالمرجعية الكونية وبالحق في التعبير كما يكفل ذلك الدستور، وغيرها من الشعارات الفضفاضة التي تسقط في أول اختبار ميداني، من قبيل اختبار إسقاط هذه الشعارات على الموقف من مؤسسة إمارة المؤمنين ومن المؤسسة الملكية". أسماء وأسماء وأشار صاحب كتاب "الوهابية في المغرب" إلى مدى تفاعل الرأي العام لو أن المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء انخرطا، بشكل أو بآخر، في إبداء مواقف من النقاش المجتمعي الذي تسببت فيه تصريحات أحد رؤساء يومية "الأحداث المغربية"، والداعية الذي رد عليه في شريط على موقع "يوتوب". واسترسل حمادة بأن هذا ما حصل، ولكن بشكل نسبي، حيث بالكاد اطلع الرأي العام على وجهة نظر مصطفى بنحمزة، التي أدلى بها سابقا لهسبريس، باعتباره رئيس المجلس العلمي المحلي بوجدة، ويحظى باحترام وتقدير من قبل الجميع في الجهة الشرقية: سواء تعلق الأمر بصانعي القرار السياسي والأمني، أو العامة أو التيار السلفي أو التيار الإخواني، وبدرجة أقل التيار الصوفي لاعتبارات مركبة لا يسمح المقام بتفصيلها الآن، يقول الباحث المتخصص في الشأن الديني. وذكر المتحدث أيضا بأنه في نفس المؤسسة (المجلس العلمي الأعلى) توجد أسماء لديها ما يفيد العامة بخصوص الضجة المُثارة، ومنها الدكتور سعيد شبار، رئيس المجلس العلمي المحلي ببني ملال، وأحد الأسماء الفكرية الصاعدة في المجال التداولي المغربي. وينطبق نفس الأمر، يُكمل منتصر، على بعض الأسماء في الرابطة المحمدية للعلماء، وكان مستحبا لو أدلى رئيس المركز البحثي الذي يشتغل على ملف القيم في الرابطة، برأيه في الموضوع حتى نترك جانبا آراء واجتهادات الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى محمد يسف، والأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء أحمد عبادي. جُزر دينية معزولة وعاد حمادة ليؤكد بأنه علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أهمية السياق التأويلي لأي تصريح يمكن أن يصدر عن أحد العلماء أو الفقهاء أو الباحثين الذين يشتغلون تحت الأفق المؤسساتي لهذه المؤسسة أو تلك. وركز على أنه بحكم تداخل الاختصاصات، وتبني سياسة العمل الديني المؤسساتي القائم على شعار "الجُزُر الدينية المعزولة" فيما بينها، مع أنها تشتغل جميعها خدمة لمشروع إعادة هيكلة الحقل الديني كما سطرت معالمه الكبرى مؤسسة إمارة المؤمنين، فإن مجمل هذه العوامل تساهم في التأسيس لما يشبه فرملة ذاتية تكرس واقع الانتظارية بخصوص إدلاء علماء هذه المؤسسة، أو تلك لمواقف فقهية أو معرفية حول هذه النازلة أو تلك. ولفت الباحث إلى أن صمت هذه المؤسسات عن الإدلاء بآراء في مثل هذه الملفات، يخول لأسماء فقهية تشتغل خارج هذه المؤسسات للإدلاء بمواقفها في الموضوع، وهذا عين ما ينطبق حتى حدود اللحظة على المواقف التي صدرت عن ثلاثة دعاة سلفيين: الشريف الحسن الكتاني، وأبو حفص عبد الوهاب رفيقي، وعمر الحدوشي. تصريف المواقف في الجمعة وأكد حمادة بأن ما يخدم خيار الصمت الرسمي الصادر عن علماء المؤسسات هو تبني سياسة إبداء الرأي والنصح بشكل غير مباشر، عبر ظاهرة تعتبر فريضة عند عامة المسلمين، وهي بوابة خطبة الجمعة. واتضح أن العديد من أئمة الساحة، يردف حمادة، قد خصصوا موضوع خطبة الجمعة الموالية لمسألة الحرية الجنسية، وتم تمرير مواقف فقهية وسطية ومعتدلة، تنتصر للمرجعية الإسلامية التي تميز الدستور المغربي، كما تنتصر للأدوار المنوطة بمؤسسة إمارة المؤمنين. وسجل الباحث إلى أنه تم في أغلب تلك الخطب تمرير رسائل صريحة إلى التيار العلماني المتشدد، الذي يروج لأطروحات يعتبرها الرأي العام شاذة، دون أن تكون هذه الخطب انتصارا للممارسة الدعوية المثيرة لدى الداعية عبد الله نهاري، الذي يبدو أن لم يستحضر أهمية "السياق" ومقاصد الشريعة في إبداء الرأي الفقهي أو الدعوي حول الحرية الجنسية"، يختم حمادة تحليله المستفيض لهسبريس.