إن الحضارة الغربية قد أنتجت منظومة من القيم الفكرية والثقافية التي ساهمت في رسم معالم التحديث والتقدم من الناحية الصناعية والتكنلوجية، وساهمت من جهة أخرى في هدم بنية المجتمع الغربي من الناحية القيمية والأخلاقية والروحية أيضا، حيث دعت النظريات الفلسفية الغربية إلى ترسيم وتجدير قيمة الحرية المطلقة الغير مقيدة بأي قيد أو وازع ديني أو أخلاقي أو حتى عرفي، وقد برز مفهوم الحداثة كأحد المفاهيم المؤسسة لانطلاق المجتمع الغربي إلى البحبوحة الحضارية، والحداثة كما جاء في أحد التعريفات: هي تفجير الطاقة الكامنة في الإنسان عن طريق الحرية وتفجير الطاقة الكامنة في الطبيعة عن طريق العلم. وقد أكد عبد الوهاب المسيري أن هذه الحداثة الغربية تأسس لنموذج لمفهوم الحرية والبحث العلمي والتكنلوجي المنفصل عن القيم أو ما أسماه بالإله الخفي في أحد مقالاته التفكيكية لمفهوم الحداثة. هذه النظريات الفلسفية الفاسدة ساهمت بشكل خطير في تدمير المجتمع الغربي أخلاقيا وروحيا، وتخريب المولدات الحضارية الضامنة للاستمرار والاستقرار، وهذا الانهيار أعلن عن نهاية هذه الحضارة ديمغرافيا وقيميا، وذلك للانحباس الحاصل عن عدم التجدد والحفاظ على المعدل الطبيعي للنمو. خاصة وقد صار العنصر البشري الموجود حاليا مليء بالفيروسات الأخلاقية والعقد النفسية التي جعلت منه إنسان ذو شهوة حيوانية جامحة، إنسان مجرد من إنسانيته الفطرية ومقومات الرجولة ومعايير المسؤولية التي أصبحت منقرضة ضمن قاموسه البشري. وباختصار نقول أن كل هذه النماذج السلبية وكل هذه المخلفات والنفايات الفلسفية المنبثقة عن مستنقع الفساد المعرفي المستشرف لصورة ونوع الوجود الإنساني الجديد، أرادت من خلاله الحضارية الغربية فرض هذه القيم المسخة ودمجها ضمن المنظومة القيمة الإسلامية والعربية، وتصدير كل السموم المدمرة للبنية العميقة والأصيلة للمجتمع المسلم. ولكي نقرب الصورة أكثر لحقيقة وخطورة النازلة ومآلاتها على المجتمع العربي والمغربي خاصة، سوف أعالج القضية المطروحة على النقاش العمومي اليوم (الحرية الجنسية) من خلال عرض ومناقشة بعض الفقرات والبنود الخطيرة التي جاءت ضمن وثيقة خبيثة وهي "وثيقة عمل مؤتمر السكان والتنمية المنعقد في القاهرة سنة 1994، وقد ناقشت هذه الوثيقة مجموعة من الأمور التي لها علاقة بالموضوع الذي نطرحه في هذه الورقة وسنستعرض بعضها في نقاط رئيسية وهي كالتالي: 1- الجنس المسئول: هذا المصطلح الملغوم تكرر مرات عديدة في هذه الوثيقة، وهو يؤسس لفكرة الحرية الجنسية المطلقة ( الإباحية) باعتبار أن ممارسة الجنس أمر طبيعي ومشروع لكل الأفراد سواء رجل أو امرأة أو مراهق، على أساس أن تكون هذه العلاقة قائمة على التراضي والاحترام، ولا تعترف الوثيقة بأي ضابط شرعي أو عرفي، وتريد ترسيم مصطلح "السلوك الجنسي المسئول" بديلا عن " السلوك الجنسي الشرعي أو الحلال" وقد ركزت الوثيقة على النقاط التالية: 1- تعزيز السلوك الجنسي المسئول من أجل الوقاية من الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. 2- التدريب على الترويج للسلوك الجنسي المأمون والمسئول بما في ذلك العفة الطوعية واستخدام الرفال. 3- تشجيع التطوير المناسب للنشاط الجنسي المسئول بما يسمح بوجود علاقات المساواة والاحترام المتبادل بين الجنسين ويسهم في تحسين نوعية حياة الأفراد. 4- تتطلب العلاقة بين الرجال والنساء في مسألتي العلاقة الجنسية والإنجاب واحتراما متبادلا ورغبة في قبول المسئولية عن نتائج السلوك الجنسي. وهذه دعوة صريحة لإطلاق الإباحية والحرية الجنسية خارج إطار الحلال وخارج مؤسسة الزواج، مع الحذر من الإصابة من الأمراض الناتجة عن تلك الممارسة وهذا هو المشكل الوحيد بالنسبة إليهم في هذه القضية (الممارسة دون الإصابة) وفي حين أن الضابط الوحيد للجنس المسئول هو التراضي بين الطرفين وفقط. وهذا بالنسبة إلينا سلوك مشين خارج عن الفطرة والدين والمنطق، لا يسمح به شرعا ولا عرفا ولا عقلا، لأن يقود الفرد والمجتمع إلى مشاكل نفسية ومجتمعية لا حصر لها، ومن بين هذه المشاكل الخطيرة هو مشكل وطامة الإجهاض. 2- الإجهاض الآمن والمأمون: وهو من بين الأمور الكبرى التي طرحتها هذه الوثيقة باعتباره – الإجهاض- من الأمور التي تساهم في تشكيل هاجس الخوف من ممارسة الجنس للأفراد بكل حرية، حيث تدعو الوثيقة إلى تقنين الإجهاض وتشترط أن يكون "آمنا" من الناحية الصحية، ولم تره من الناحية الشرعية باعتباره فعلا حراما داخل في إطار قتل النفس البريئة بغير حق، حيث حذرت الوثيقة من الإجهاض الغير المأمون بوصفه شاغلا رئيسيا من شواغل الصحة العامة. من الطبيعي إذا أطلق العنان للممارسة الجنس بكل حرية وبغير قيود أن يكون عندنا ملايين حالات الحمل الغير شرعي (الغير مرغوب فيه حسب الوثيقة) وبما أن الحمل غير مرغوب فيه ينبغي إملاصه وإزالته عن طريق الإجهاض (المأمون)، وقد وصلت حالات الإجهاض في بعض الدول الغربية إلى ألف حالة في اليوم الواحد، أما في بلدنا فقد دعت بعض المنظمات الحقوقية المغربية إلى ألغاء الفصل 490 من القانون الجنائي الذي يدعو إلى المعاقبة على الخيانة الزوجية بالحبس من شهر إلى سنة واحدة. وتطالب المشرع المغربي إلى طلاق الحرية الجنسية وتقنين عملية الإجهاض وتأمينه بالنسبة للحوامل وتوفير جميع المساعدات الطبية اللازمة النساء اللواتي يرغبن في الإجهاض. وهذا بالنسبة إلينا في الشريعة الإسلامية فعل "محرم قطعا" رغم الاختلافات الحاصلة في قراءة حديث " النطفة" وقد قال الدكتور مصطفى بن حمزة في الموضوع: " النطفة حياة أو أصل حياة محترمة؛ فكل ما يضر بتلك النطفة حرام بل كل ما يمنع نموها أو تأديتها لمهمتها وهي إخراج الإنسان حرام". واعتبر أن حالات الإجهاض هذه لا تدل على سمو وارتقاء، إنما هي مؤشر على خلل أخلاقي كبير يهدد تماسك الأسرة المغربية، ويُلزم كل الفاعلين في المجتمع، جمعيات وعلماء ومنظمات وأحزاب وأسر وغيرها أن تتجند لمحاصرة هذه الظاهرة حتى لا تتوسع أكثر داخل المجتمع المغربي. 3- المفهوم الغريب للأسرة: قال أكرم رضا في كتابه قواعد تكوين البيت المسلم: مفهوم الأسرة من منظور الإسلام: "هي الجماعة التي ارتبط ركناها (الرجل والمرأة) بالزواج الشرعي والتزمت بالحقوق والواجبات بين طرفيها وما نتج عنها من ذرية، وما اتصل بها من أقارب" وهي الخلية الأساسية لبناء مجتمع سليم، موتساهم الأسرة في النشاط الاجتماعي في كل جوانبه المادية و الروحية و العقائدية و الاقتصادي، وتهدف إلى تحقيق السكن الروحي والاستقرار النفسي ويبتغي بها إنجاب أطفال والعيش تحت سقف واحد، وهي الضامنة والراعية لثبات قيم المجتمع. أما المفهوم الجديد الذي أرادت الوثيقة وباقي الاتفاقيات الدولية فرضه على الحضارة الإسلامية هو "أن الأسرة لا تقوم بالضرورة على الاقتران الشرعي (الزواج) ولا تكون فقط بين رجل وامراة فقط بل هناك أشكال أخرى للارتباط، وقد "تزعمت كندا ودول الاتحاد الأوروبي المطالبة باستحداث أنماط وأُطُر جديدة للأسرة، أما الصين ودول عدم الانحياز فقد وقفت ضد هذا الموقف، وكحل وسط تبني النص الذي يقارب نص وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان 1994م، حيث تضمن الإشارة إلى الزوج والزوجة مع تعدد الأنماط الأسرية، وقد تُرك اللفظ على عمومه وغموضه؛ إرضاءً للجماعات التي تطالب باستحداث زواج بين الجنس الواحد Same sex marriage، وشهدت أروقة المؤتمر سجالاً واسعًا مما دعا ممثل الإكوادور إلى تحفظه على "الأشكال المختلفة للأسرة" و"الصحة الإنجابية"، حيث فسرهما على أساس أن التعبير الأول يغير مفهوم الأسرة وأساسها، والتعبير الثاني لا يمكن أن يشمل الإجهاض كوسيلة لتنظيم الأسرة. وتشترك الوثائق الدولية الصادرة عن الأممالمتحدة – من حيث مفهوم الأسرة- في النقاط التالية: 1- تناول مفهوم الأسرة من المنظور الأنثوي الراديكالي Radical Feminism، وهو المنظور الذي يطرح الشذوذ الجنسي كحق من حقوق الإنسان، واعتبار الأسرة المكونة من رجل وامرأة ارتبطا برباط الزواج الشرعي أسرة (نمطية) تقف في طريق الحداثة، ويجب واستبدالها بالنموذج اللانمطي الإبداعي للأسرة. 2-إقرار وجود أشكال مختلفة للأسرة، بما يعني إقرار العلاقات غير الشرعية، سواء بين رجال ونساء، والعلاقات الشاذة بين مثليي الجنس، فالأشكال المختلفة للأسرة تشمل النساء والرجال الذي يعيشون معًا بلا زواج، والشواذ، كما تشمل النساء اللائي يأتين بالأطفال سفاحا، ويحتفظن بهؤلاء الأطفال فيقمن بالإنفاق عليهم، ويطلق على هذا التشكيل اسم الأسرة ذات العائل المنفرد Single parent family، وتسمى الأم ب (الأم المعيلة) 3-التوصية بإعطاء هذه الأشكال المختلفة الحماية قانونية، وضمان إعطائها نفس الحقوق التي يحصل عليها الأزواج في الأسر الطبيعية والتى صار يطلق عليها في الوثائق مصطلح (التقليدية أو النمطية). وقال المفكر محمد عمارة في كتابه صراع القيم بين الغرب والإسلام :إذا كانت هذه المفاهيم شائعة في الفكر الوضعي الغربي، وخاصة اللاديني منه.. ومطبقة ومقننة بحسبانها من حقوق الإنسان .. فإن المؤمنين منا بالديانات السماوية – وهم الجماهير الساحقة – أيضا المؤمنون بالديانات الوضعية – في الحضارات الآسيوية - .. ومع هؤلاء أيضا كل المتمسكين بالعادات والأعراف السوية .. كل هؤلاء لا بد أن يجدوا أنفسهم في موقع الرفض لهذه المفاهيم ..لأن جميع هذه الشرائع لا تبيح الجنس إلا في إطار الزواج.. وترى أن فيما وراء ذلك زنا وفاحشة من كبائر الذنوب والمعاصي والذنوب ولها وعليها عقوبات وزاجر في شريعة الإسلام، وشرائع الديانات السماوية الأخرى. خلاصات ومواقف: الخلاصة التي توصلت إليها من خلال استعراض هذه النقاط في هذا الموضوع هو أن الجمعيات والمنظمات التي تدعوا إلى الحرية الجنسية خارج مؤسسة الزواج هي جمعيات مستلبة ولا تملك أدنى حد من التعقل والوعي الحضاري، لأنها تريد أن تتبنى نظريات وأطروحات فلسفية ساهمت في تخريب المجتمع الأوربي وكبح مشروع التنمية والتقدم في بعده الديمغرافي والقيمي. إن الذي يفكر فعلا في إطلاق الحرية الجنسية بلا قيود إنسان مريض نفسيا يحتاج إلى تدخل سريع لمعالجة مرضه العضال، وكما يقول برناردشو: "من عيوب الديمقراطية أنها تجبرك على الاستماع إلى رأي الحمقى" حينما تمتع بلدنا الحبيب بمزيد من الحرية في التعبير والإعلام والعمل المدني عامة، أصبح الكثير ممن كانوا يعبرون في الظلام أن يخرجوا أفكارهم الخبيثة لتطفو على سطح النقاش العمومي، وأصبحت تطالب جهارا نهارا بتقنين الفساد والمنكر وتطالب الدولة بحمايته ورعايته وتوفير الأمور اللازمة لدمجه وتطبيعه وسط المجتمع. ونقول أن الدعوة إلى الحرية الجنسية حرب على الهوية والأصالة والفطرة والتنمية المجتمعية، وبصبة عار على جبين المجتمع المغربي الأصيل المعروف بثقافته ونخوته الحضارية، ثم أن هذه الدعوة تفتح نوافذ لا حصر لها من الأزمات الاجتماعية التي تكلف الدولة أموالا طائلة، وجهدا تربويا كبيرا من أجل معالجة انعكاسات تحرير الحرية الجنسية، مع العلم أن موقف الكنيسة كان صارم في هذا الموضوع ورفضه رفضا تاما، وقد سارعت بعض الدول الغربية من بينهم الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إطلاق حملة تربوية تدعو إلى غرس خلف العفاف ومحاربة الفساد الأخلاقي بتعاون مع المؤسسات الدينية والثقافية وجمعيات المجتمع المدني.