ماهي مواصفات القائد اليوم؟ هل مازلنا بحاجة في عالم ومغرب اليوم إلى القائد بالمواصفات التقليدية المتعارف عليها سابقا؟ ما هو بروفايل القائد في مغرب هنا والآن؟ يبدو من الصعب جدا تحديد -وبشكل مطلق- مواصفات قائد اليوم، ونخص بالتحديد هنا طبعا القائد السياسي، لكن بالمقابل من الممكن جدا تحديد المعالم العامة والكبرى لهذه المواصفات. ليس بناءا على نزعات أو ميولات ذاتية، وإنما بناء على تطورات هذا المفهوم حسب تغيرات الواقع السياسي وحسب ارتباطه بمفهوم آخر هو مفهوم الشرعية السياسية. مفهوم القائد الشرعي نؤكد في البداية أن حديثنا سينصب على القائد السياسي، باعتبار مفهوم القائد أو "الليدرشيب" بمفهومه الإنجليزي لا يخص المجال السياسي فقط، بل أيضا مجال الإدارة والمقاولة، كما قد يهم مجالات أخرى مثل الثقافة والرياضة وغيرها. فالقائد بهذا المعنى هو ذلك الشخص القادر على قيادة وإدارة مجموعة أفراد أو تنظيم معين من أجل تحقيق أهداف معينة محددة مسبقا. فهو إذن ذلك الشخص المُلهم الذي له القدرة على القيادة والتوجيه والتأثير في مجموعة الأفراد أو في التنظيم بصفة عامة. هنا يجب أيضا أن نميز بين المُدَبِّر الذي تكون له القدرة على الإدارة والتسيير دون أن تكون له القدرة نفسها على قيادة المجموعة أو التنظيم أو البلاد إلى درجة أرقى من التطور. ودون الدخول في تصنيفات أو "تيبولوجية" المفهوم، فإن القائد الذي يهمنا البحث في مواصفاته هنا هو القائد السياسي المرتبط بالشأن العام وليس الخاص. ولمحاولة الإجابة عن الأسئلة التي وضعناها سلفا، يمكن القول أن مفهوم القيادة في المجال السياسي، ارتبط بمفهوم الشرعية السياسية، وبالتالي فقد تطور بتطوره. ويقصد بالشرعية بحسب "سيمور لبست" [اعتقاد المحكومين بأن مؤسسات النظام السياسي القائم في مجتمعهم أفضل ما يمكن تكوينه]، أو اعتقادهم بأن هذه المؤسسات هي [الأكثر ملائمة وصلاحية للمجتمع]. ويعرفها "روبير دال" بأنها [الاعتقاد في ملائمة الهياكل والإجراءات والقرارات السياسية بحيث يتعين قبولها أو الامتثال لها باعتبار توافر صفة الملائمة هذه]. ويرى "دولف ستيرنبرجر" أن الشرعية هي [أساس السلطة التي تمارس بوعي من قبل الحكومة بحسبان أن لها حق الحكم مع تسليم أو قبول المحكومين بهذا الحق]. وهكذا يتحصل جوهر الشرعية في القبول العام أو الرضاء الشعبي، فلا تكون السلطة شرعية إلا إذا امتثل لها المحكوم إراديا. وبناءً عليه، تنتفي شرعية الحكم الذي يعتمد في وجوده على القهر والقمع، بيد أن الشرعية لا تستبعد الإكراه والإجبار كلية. بيد أنه يجب التمييز بين مفهوم الشرعية (La légitimité) بالمعنى السابق، ومفهوم المشروعية (La légalité) الذي يعني، باختصار شديد قد يكون تعسفيا، الملائمة والمطابقة مع القوانين. وإن كان المفهومان يرتبطان ببعضهما البعض. عرف مفهوم الشرعية هذا تطورا من حيث الروافد أو المصادر التي يعتمد عليها. لقد تراجع مفهوم الشرعية الكاريزمة المعتمدة على الصفات الشخصية للقائد/الزعيم "الملهم"، "المُنقذ" المتمتع بصفات خارقة فوق طبيعية. كما توارى إلى الخلف، لاسيما في المجتمعات الديمقراطية، مفهوم الشرعية التقليدية المبنية على التقاليد والتاريخ وأمجاد الماضي، لصالح الشرعية الديمقراطية المؤسساتية المبنية على احترام الحقوق والحريات واحترام الهياكل والإجراءات والمؤسسات والقوانين والتنظيمات، الموضوعة طبعا من قبل الشعب والمُعبِّرة عن إرادته. إن هذا التطور لمفهوم الشرعية، الذي لا يمكن أن يكون خطيا بالنسبة لجميع المجتمعات، لا يعني كذلك قيام نوع من الشرعية على أنقاض أخرى. كما لا يستبعد كذلك تعايش أكثر من شرعية في نظام واحد. لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن الشرعية الديمقراطية القانونية تبقى هي الأساس وهي الجامع لروافد الشرعية الأخرى ما لم تؤثر على المبدأ الديمقراطي. أكثر من ذلك، وإذا كان من المسلم به أن المبدأ الديمقراطي والحقوقي قد أضحى اليوم أساس كل شرعية، فإنه قد أضيف عنصر آخر لا يقل أهمية، وهو مرتبط بهذا الأساس ومكمل له دون أن يلغيه، ألا وهو عنصر الفاعلية والإنجاز. بحيث أصبحت شرعية النظام تقاس أيضا فضلا عما سبق بمدى فعاليته وقدرته على الاستجابة لمطالب محيطه العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي... إن تطور مفهوم الشرعية هذا، هو الذي أثر في نظري في مفهوم القيادة السياسية في عالم اليوم، وبدون شك سيؤثر على هذا المفهوم في مغرب هنا والآن. أفول مفهوم الزعيم التقليدي تبعا لتطور مفهوم الشرعية إذن، لم تعد مواصفات القائد السياسي اليوم مرتبطة بتلك الخصائص الشخصية للزعيم في العالم كما في مغرب اليوم. هذه الخصائص التي كانت تجعل من الزعيم ذلك الشخص الكارزمي، الذي بيده وحده الحل لإنقاذ المجتمع من المشاكل التي يعانيها، لم تعد اليوم مستساغة من قبل المحكومين إزاء حاكميهم، أو حتى بالنسبة للمناضلين في تنظيماتهم الحزبية إزاء رؤسائهم. وحتى قبل أن تهب رياح الربيع الديمقراطي على المغرب، وحَمْلِ شباب حركة 20 فبراير مطلب "ارحل" في وجه عدد من الزعماء التقليديين، ورَفْعِهم شعارات الحرية والعدالة ومحاربة الفساد و إقرار دستور ديمقراطي...فقد كان هناك اتجاه واضح لدى المغاربة، منذ نهاية التسعينيات، مؤداه أنهم فقدوا الثقة في أغلب سياسييهم وليس في السياسة، وأنهم تواقين اليوم أكثر مما مضى لأن يصبحوا مواطنين وليس مجرد رعايا يعبث بهم الحاكمون وفقا لمصالحهم في الحكم والثروة. لقد تابعنا كملاحظين كيف انتفضت قواعد وشبيبات بعض الأحزاب على قادتها لأنها في نظرها لم تفي بالتزاماتها، أو لأنها استبعدتها في قراراتها التي كانت مجانبة لما تصبو إليه. بل إن منها من رفع في وجه قادته مطلب ارحل قبل مجيء حركة 20 فبراير، وطالب بدستور ديمقراطي يحدد حقوق وواجبات الحاكمين والمحكومين على حد سواء، ويقيم فصلا واضحا للسلطات. لم يعد المغاربة اليوم، سواء كانوا مواطنين عاديين أو مناضلين في أحزابهم، يقبلون، بالمطلق، ذلك الزعيم الذي يخاطبهم لساعات طوال، وربما ينتظرون مجيئه للمدة نفسها قبل الموعد المحدد طبقا لمزاجه، لقول كلام لا بداية له ولا نهاية له، لا هدف له ولا وسيلة، لا منطق له ولا رؤية... سوى رسائل مشفرة يعلمها هو ومحيطه وأمثاله في الدوائر السياسية للقرار. إن هذا البروفايل من "القادة" لم يعد فقط مرفوضا من قبل مغاربة اليوم، بل أضحى محط استهجان واستهزاء وتنكيت. مفهوم الزعيم الذي شخصه الكوميدي عادل إمام في مسرحياته وأفلامه، كما يشخصه اليوم ممثلون آخرون عالميون، انهار بشكل كامل، ليس في مخيلة المواطنين في المغرب خاصة، وفي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل في الواقع السياسي ذاته: لن ينسى هؤلاء تلك الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام المرئية بالخصوص عن زعماء تم القبض عليهم من قبل الثوار، أو هربوا بشكل مهين، أو هم في حالة استجداء مذلة من أجل التنصل من المحاسبة. فإذا كانت الديمقراطية والتعاقد والفعالية والإنجاز هي أساس شرعية القائد السياسي اليوم، فإنه بالتبعية يفترض في قائد اليوم التوفر على عدد من القدرات يمكن أن نذكر منها: الرؤية، الإستراتيجية، الإقناع، التواصل، الثقة والمصداقية فضلا عن المبادرة والإبداع وحُسْن تدبير الاختلاف. تلك هي قدرات لا يمكن فصلها طبعا عن أسس الشرعية السياسية اليوم (الديمقراطية والتعاقد والفعالية والإنجاز) التي تعتبر مبادئ عامة تحكم اليوم علاقة الحاكم بالمحكوم، وهي تخص بالأساس القادة السياسيين وإن كانت قد تلتقي جزئيا أو كليا مع بعض خصائص القادة في مجالات أخرى. *أستاذ العلوم السياسية الكلية المتعددة التخصصات أسفي [email protected]