بسم الله الرحمن الرحيم قديما قيل: "حب الظهور يقصم الظهور" وإذا كان العقلاء يتجنبون الظهور لما يترتب عنه من ويلات؛ كما في توجيه نبي الله لابنه يوسف فيما قص علينا القرآن: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (سورة يوسف)؛ فهناك هواة الظهور الذين يريدون أن لا تختفي أشباحهم عن الساحة، ولو على مسلك الأعرابي الذي لطخ الكعبة بالقاذورات؛ فلما قيل له في ذلك، قال: "أحببت أن أذكر ولو باللعنة". ولمرض الظهور من أجل الظهور ترجع كثير من المنازعات والخلافات المغلفة بشعارات كاذبة يقذف بها الإعلام بين حين وآخر، تخفي وراءها حب الظهور؛ الذي هو معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم:''ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه''. ولم يعد حب الظهور مقتصرا على مجال دون آخر؛ بل أصبح ظاهرة عامة تستدعي تحليلا اجتماعيا لشتى الحالات؛ ويبذل الظاهرون الجدد الغالي والنفيس من أجل الظهور، ومن لم يتمكن من ذلك بوسيلة شريفة، بحث عن أرذل الوسائل وأخسها ليحقق ذلك؛ فألفينا في الأيام الماضية القريبة ممثلة سينمائية مغربية تنام على مزبلة بضواحي الدارالبيضاء، ليأخذ لها الفنانون ما حلا لها وطاب من الصور فتنال حلمها من تحقيق نسب المتابعة العالية ولو كان ثمن ذلك النوم وسط المزبلة أو الاقتيات منها، ووجدنا ممثلة أخرى مغربية لم تجد وسيلة للفت النظر إليها إلا بالتعري بمهرجان مراكش السينمائي، حين عمدت الى اظهار ساقيها أمام عدسات المصورين، لتنال نصيبها من القيل والقال. ولا نجد الأمر مقتصرا على فئة معينة بل فئات أخرى يفترض فيها أن تكون أشد رزانة هم ممثلو الأمة ونوابها الذين تشابه عليهم فن "التمثيل" وغرف "تمثيل المواطنين" فخلطوا بين الوظيفيتين وغدا بعضهم يتحين الفرص ويتحسس المواقف والمواقع التي تكسبه ذيوعا وشهرة كي يصبح حديث الناس ولو بفضيحة؛ كمثل ما ارتكبه أحد النواب وهو يمثل ويصرخ في كلام فارغ المضمون، ساعيا نحو الشهرة وإغواء وإغراء عدسة المصور؛ فوجد نفسه يفضح بفضيحة طلبه التعيين في مجلس إصلاح القضاء، فلقي فضيحته بما أحب أن يشتهر به، وذكرني صنيعه بما أورده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبى الحسن القطان قوله: "أصبت ببصري، وأظن أنى عوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة" ، ثم قال الذهبي : "صدق والله ، فقد كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالبا يخافون من الكلام ، وإظهار المعرفة. واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم ، وسوء القصد ثم إن الله يفضحهم ، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص". ويمكن أن يلحق بهؤلاء الزمزمزي شيخ نفسه الذي أصبح ضحكة يتندر بها (ولا داعي للاعتذار للعلماء لأنه خرج من فصيلتهم، وليس منهم) فيأتي كل يوم بمضحكات مبكيات غير آبه بما يقول ساعيا نحو التمثيل والشهرة، ويذكرني في كثير من أحواله بما يروى أنه في زمن الجاهلية ، قام أحد الرجال المنبوذين في المجتمع بدخول معبد يضم تمثالا لكبير للآلهة، وعندما خلد الناس الى النوم أخذ فأسا كبيرا وقام بتحطيم تمثال كبير الآلهة وعندما حان الصباح وبدأ الناس بارتياد المعبد وجدوا تمثالهم الكبير متناثرا في أرجاء المعبد قطعا قطعا وقبل أن يستفسروا عن المسبب أخبرهم بأنه هو الذي حطم تمثال كبير الآلهة لكي يتحدث الجميع عنه وعن فعلته في مجالسهم، فقاموا بقتله مباشرة؛ لكن الحديث عنه بقي حتى يومنا هذا، فالذي يهمه هو الشهرة، وأن يذكر، ولذلك هذا المرض الخطير يمكن أن يجعل الإنسان يعمل من البلايا ما يعلم بها الله وحده ، لأجل فقط أن يشتهر رضي الله عليه أم سخط! . وأهل العلم الذين يخشون الله أبعد الناس عن حب الظهور، وفاعل ذلك منهم بريء وهم منه براء فصل بينه وبينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى يعرفه نعمته فعرفها، قال فما عملت فيها: قال قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم! وقرأت القرآن ليقال: قارئ! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: جواد! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على زجهه حتى ألقي في النار". وإذا كان حب الظهور في أمور الخير مذموم وقد يؤدي بصاحبه إلى جهنم؛ كما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب العلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار». فكيف في أمور الشر التي يجتمع فيها أصل الشر وآفة حب الظهور. وقد قيل لحمدون بن أحمد : ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟!! قال : لأنهم تكلموا لعز الإسلام ، ونجاة النفوس ، ورضا الرحمن ، ونحن نتكلم لعز النفوس ، وطلب الدنيا ، ورضا الخلق . أما حب الظهور لدى الكتاب فحدث ولا حرج فتجد منهم من يبحث عن الغرائب ويتصيد المهجور من الأقوال لينشره ويشتهر به. وأكثر ما يروج اليوم في وسائل الإعلام شواذ المسائل ، وغريب الآراء ، وكأن الشعار "خالف تُعرف". وقد قال الحسن البصري : "همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية".