"لا أرتدي الحجاب ولا أضع غطاء الرأس..ولكنني ملتزمة ومُتدينة ربما أكثر من المحجبات والمنقبات أنفسهن، ومثلي كثيرات في المجتمع.."... هكذا تحدثت نوال، 30 عاما، لهسبريس محاولة التأكيد على وجود قطاع عريض من المغربيات اللواتي يتَّبعْن حياة ملتزمة دينيا، لكنهن لا ينتسبن إلى فئة المُحجبات. هسبريس تحدثت للعديد من الفتيات والنساء "السافرات" اللائي أكدن "تدينهن" الشديد، من أجل فك شفرات المعادلة الصعبة التي تجمع بين الاتصاف بالتدين كسلوك عقائدي ينم عن اقتناع داخلي، وبين عدم ارتداء الحجاب المفروض على نساء المسلمين بدليل نصوص القرآن والسُّنة. وتكاد تلتقي نماذج المغربيات "المتدينات/ المتبرجات" في ثلاثة أقسام دون أن تنحصر فيها جميعها؛ الأول يمثل نساء وفتيات يمارسن شعائرهن الدينية بصدق، غير أنهن لا يلتزمن بارتداء الحجاب إما لعدم اقتناعهن بوجوبه، أو تقصيرا منهن أو بسبب عدم الحسم بعد في هذا الاختيار. والنمط الثاني يضم نساء متدينات بالفعل، لكنهن أجَّلن لباس الحجاب بسبب ظروف شخصية أو عائلية أو لسياقات أخرى تتعلق بوظائفهن. أما الصنف الثالث من المغربيات "السافرات المتدينات" فيمثل فتيات غالبا ما يبحثن عن فرصة للزواج، معتقدات بأن الحجاب قد يكون عائقا ذاتيا أمام انطلاقتهن وحركتهن في الظفر بشريك الحياة المنشود، في خضم العنوسة المتفشية بشكل لافت في المجتمع. تدين ناقص؟ وتقول نوال، المُجازة في الفلسفة والعاطلة عن العمل، إنها تمارس شعائرها الدينية من صيام رمضان وصيام الأيام البيض والاثنين والخميس، وتصلي الفرائض والرواتب، وتعطي الصدقة ما استطاعت، كما تقرأ في كتب السيرة، حتى صارت هذه الأعمال جزء لا يتجزأ من حياتها اليومية البسيطة. وجوابا على سؤال يتعلق بالتناقض الذي قد تقع فيه حين لا تلتزم بالحجاب فيما تزعم التزامها بالعديد من الفرائض والمستحبات، وإتباع الشعائر الدينية المختلفة، قالت نوال إنها لا تشعر بأي تناقض في سلوكياتها وحياتها مادامت لم تقرر بعد ارتداءها للحجاب بالرغم من قناعتها بوجوبه. وتعترف نوال بأنها قد تكون مقصرة في هذا الجانب لكونها لم تضع الحجاب بعد، مشيرة إلى أن محيطها العائلي يستغرب من ذلك لكونها معروفة بالتزامها الديني الجاد، وتحريها العفة والأخلاق الفاضلة، لكن بعيدا عن ارتداء الحجاب. حنان، صديقة نوال، فتاة محجبة أكدت بدورها لهسبريس بأن صديقتها وجارتها نوال تفوقها التزاما وحشمة وتدينا، حتى أنها لا تخطئ موعدها مع صلاة الفجر في وقتها إلا لماما، مردفة بأن عدم وضعها الحجاب ربما يكون هو الشيء الوحيد الذي ينقصها لتكملة دينها". مُجبَرة لا بطلة فوزية.ج.، في بداية عقدها الثالث، لا تضع هي أيضا الحجاب مثل نوال، لكنها تؤكد بأنها متدينة إلى حد النخاع بسبب تأثرها خلال السنوات الأولى من شبابها بفتيات ينتمي إلى إحدى الحركات الإسلامية المعتدلة، غير أنها لم تنخرط فيها ثم ما لبثت أن ابتعدت عن صديقاتها بسبب بعض مشاغل الحياة. وأردفت فوزية في حديث مع هسبريس بأن تلك الصُّحبة جعلت التدين يلازمها في اغلب أطوار حياتها حتى بعد زواجها، مشيرة إلى أن الحجاب كان هو الأمر الوحيد الذي لم تتخذ خطوة للقيام به بسبب ظروف عملها في إحدى الإدارات العمومية التي لا تنظر بعين الرضا إلى الموظفات المحتجبات" تقول فوزية. "لاشك أنني أشعر بنوع من التناقض الداخلي بين تديني وممارستي للشعائر الدينية وبين تبرجي وخروجي كاشفة لشعر رأسي وعنقي، لكن ما باليد حيلة"، تقول فوزية قبل أن تضيف بأنها تطلب من الله كل يوم أن يغفر لها، وتعد نفسها بارتداء الحجاب فور مغادرتها للعمل بعد سنوات. الزواج يسبق الحجاب؟ أما فاطمة الزهراء. ق، 38 عاما وموظفة بإحدى الوزارات بالرباط، فتقول لهسبريس إنها متدينة ويشهد لها زملاؤها بحسن السيرة والسلوك، وبالطيبوبة والوقار والنهل من معين علوم الدين، لكنها لم تضع يوما الحجاب على جسدها. والسبب، بحسب إفادة هذه الموظفة، يكمن في شبح العنوسة الذي تخشاه كما تخشى الوقوع في المعصية على حد قولها، لافتة إلى أنه في العشرينات من عمرها كانت حريصة على تعلم المعارف الدينية والمدارك الإسلامية المختلفة بشكل فردي دون الانخراط في جامعة او معهد للعلوم الشرعي، وكانت تود اتخاذ قرار الحجاب مباشرة بعد الزواج. وتابعت المتحدثة بأن القدر كان له رأي آخر حين أُجْهضت كل مشاريع الزواج وتحطمت على صخرة السنوات المتوالية، فتأجل معها قرار ارتداء الحجاب..لكن "لا الحجاب ارتديته التزاما بما أؤمن به، ولا الزوج الذي أرغب فيه عثرت عليه" تقول فاطمة الزهراء بنبرة ملؤها الحسرة على مآلها وحياتها. انفصام في الشخصية! وصادفت هسبريس شهادات طريفة شارك بها أصحابها في موضوع المتبرجات المتدينات، حيث قال أحمد الصفريوي 40 عاما ومسير مقهى إنه تعرف على شابة متبرجة أشبعته وعظا ونصائح دينية منذ أن التقى بها قبل أشهر في محطة لحافلات بالرباط إلى أن توطدت علاقتهما بشدة. والغريب، يضيف أحمد، أن هذه الفتاة التي تعلق قلبها به أملا في الزواج وافقت ذات يوم على مرافقته إلى بيته الذي يقطنه بمفرده، ساردا ما حدث له معها في ذلك اليوم حين تحدثت له قرابة الساعة عن بعض أمور الدين، كما نصحته بالمواظبة على الصلاة، إلى أن نهرها عن ذلك مُنبها إياها بأن ما تقوم به لا يعدو أن يكون نفاقا وهي التي تجلس معه في خلوة تامة الشيطان ثالثهما. وازدادت الغرابة، بحسب المتحدث، عندما بدأ التلاطف الجسدي المحموم بينه وبين الفتاة دون شعور منهما، إلى أن تناهى إلى سمعها أذان العصر المُنبعث من المسجد القريب من البيت، فتوقفت عن فعلها ونهضت بدون مقدمات إلى الوضوء، ثم انتصبت لتقف لأداء الصلاة دون أن يرف لها جفن"، يحكي أحمد بأن تصرف الفتاة أصابه حينئذ بالذهول الكامل. تصلي دون غطاء الرأس أما الحالة الثانية فتعود إلى السيدة كريمة، إطار سامي في إحدى الشركات الخاصة، التي قالت لهسبريس إن "تدينها سلوك شخصي بينها وبين الله، ولا دخل فيه لأي مخلوق، وبالتالي فعدم ارتدائها لغطاء الرأس لا عني أنها ساقطة أو غير سوية، لكون الحجاب ليس هو التدين". وأضافت المتحدثة بأنها مُذْ وعت على نفسها داخل أسرتها، وهي تقوم بتأدية الشعائر الإسلامية عن طيب خاطر ودون ضغط أو إجبار من والدها، مردفة بأنها تصلي الصلوات الخمس في أوقاتها لكن دون تغطية رأسها. وفسرت كريمة سلوكها "الغريب" هذا بالقول: "إنه من النفاق أمام الله أن أضع غطاء الرأس عندما أصلي ثم أنزعه بعد الصلاة، لهذا فأنا واقعية ومنسجمة مع ذاتي بهذا الشكل"، تجزم كريمة التي تقسم بأنه لا يوجد في القرآن الكريم آية تفرض على المرأة تغطية رأسها أثناء الصلاة. الدكتور محمد بولوز عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: تطور للصحوة الدينية ظاهرة "المتبرجات المتدينات" أمر طبيعي في ظل مجتمعات مسلمة تتلمس طريقها باستمرار نحو العودة إلى الأصول والصبغة الأولى لها كما صبغها به الإسلام أول مرة، وهو تطور للصحوة واليقظة الدينية المتنامية. إن شيوع خطاب التدين في الكتاب والنشرات الدعوية والأشرطة المسموعة والمرئية والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية وخطب الجمعة، ومواعظ ودروس المساجد والأنشطة الثقافية والتربوية والدعوية لمختلف التيارات الإسلامية الحركية والسلفية والصوفية والتبليغية والدعاة المستقلين، والتحركات الدينية الرسمية والشعبية؛ لا بد أن تثمر التزاما بالدين في صور وأشكال مختلفة وبحسب طبيعة الأفراد، وبحسب ما بلغهم من الدين وما فهموه منه وما قدروا عليه وطبيعة التحديات التي تحيط بالمتدينين. وهناك من يبدأ بجوهر الدين عقيدة وعبادة وأخلاقا في انتظار أن يتحلى أيضا بآدابه ومختلف فرائضه وسننه الظاهرة مثل اللباس الشرعي واللحية ونحو ذلك، وهناك من الناس من قد يبدأ ببعض أشكال التدين ومظاهره الخارجية، في انتظار أن يتعمق فهمه واعتقاده وتقوى عباداته وتستقيم أخلاقه ويستوي سلوكه. ولا شك أن الأخوات المتدينات ممن لم يلتزمن بعد باللباس الشرعي قد حققن بتدينهن وبعدهن عن الزنا نصيبا مهما من مقاصد الشريعة وأهداف الدين، وهن بحاجة إلى خطوة أخرى في طريق استكمال طاعتهن لله تعالى، ذلك أن منطق الأشياء تقول بأن التدين إذا كان واعيا ومفكرا فيه يفرض انسجاما داخليا مع أصل المعتقد. وإذا كانت المتدينة تتعبد الله بصلاتها وصيامها وزكاتها وحجها وما توفق إليه من كثرة النوافل وصيام التطوع وصدقات البر والإحسان والعمرة، ما المانع لها أن تكمل الخطوة الموالية وتستر مفاتنها وتخرج من تبرجها حيث أمرها ربها بقوله تعالى: "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى"، وقوله تعالى:"ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها"؛ وجمهور العلماء أن المقصود ستر كامل الجسم إلا ما كان من الوجه والكفين، وقوله تعالى: "وليضربن بخمورهن على جيوبهن" والجيوب فتحة الصدر، وقوله تعالى: "ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن"، وقوله تعالى: "فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض"، إلى غير ذلك من النصوص الموجهة في آداب اللباس وأحكام العورة. وعلى المرأة المتبرجة المتدينة أن تستحضر أن هذه النصوص موجهة من نفس المصدر الذي أمرها بالصلاة والصيام والزكاة والحج والأخلاق الحميدة، وهو الله سبحانه وتعالى خالقها وبارئها ومحييها ومميتها ومكرمها وحافظها. إن الدين أخبار وجملة من الأوامر والنواهي، وتديننا يرقى بحسب ما معنا من تصديق وما معنا من التزام بالأوامر واجتناب للنواهي، والمؤمنة تسعى لأن تخرج بقدر وسعها من المخالفة الشرعية، وتتحاشى غضب ربها وتهفو إلى رضاه ومما يرضيه سترها وحشمتها، مُضافا إلى عفتها وخلقها. الباحث التربوي محمد الصدوقي: الحجاب لا يحدد أخلاق المرأة لتفسير معادلة المغربيات المتبرجات المتدينات، وانطلاقا من مقاربة تربوية واجتماعية، يجب الرجوع إلى الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع المغربي في بعدها التربوي المتعلق بنشأة المرأة؛ حيث نجد بأن القيم والتوجيهات والتعاليم الدينية مكون أساسي في الثقافة والعلاقات الاجتماعية، وفي تربية وتنشئة الأفراد إناثا وذكورا داخل الأسر المغربية خصوصا المحافظة. إن تكوين شخصية الفرد (ذكرا أو أنثى) من حيث التمثلات والاتجاهات والسلوكيات والاختيارات بما فيها طريقة اللباس والتزين قد تنسجم إلى حد كبير مع القيم والمعايير السلوكية الدينية؛ لذا فلا غرابة أن نجد فئة من الفتيات والنساء، رغم عدم التزامهن الديني ممارسة ولباسا في علاقاتهن الاجتماعية خصوصا مع الجنس الآخر، يتحلين بصفات وأخلاق حميدة وفاضلة كما تدعو إليها التعاليم الدينية من قبيل العفة والوقار والاحترام. ونجد أيضا أن بعض النساء والفتيات المتدينات لا يرتدين الحجاب إلا عند الصلاة، ولا يرتدينه في الحياة اليومية العادية، ولا يلتزمن بنموذج اللباس الديني التقليدي، ويمكن تفسير ذلك إما بأنهن مقتنعات بنموذج التدين المتفتح، أو كونهن يخضعن إلى ضغوطات عصرهن لإبراز أنوثتهن وجسدهن، حسب نموذج ونمط اللباس والتزيين السائد في وسطهم المجتمعي المحلي والعالمي أحيانا. ونجد فئة أخرى من النساء والفتيات رغم أنهن يرتدين الحجاب فإن سلوكياتهن وأخلاقهن لا تعكس تماما التزامهن بالقيم والأخلاقيات الدينية في علاقاتهن الاجتماعية، خاصة مع الجنس الآخر، حيث يمكن أن نشاهد فتاة محجبة مع صديق لها في وضع مخل للحياء في مكان عام! ونستنتج بأن أخلاقيات وقيم المرأة الشخصية والسلوكية قد لا تحددها مسألة ارتداء الحجاب أم عدم ارتدائه، بقدر ما تحددها قناعات أخلاقية وسلوكية شخصية، ناتجة إما عن وعي وثقافة عاليتين، وقوة الشخصية واعتبار الذات، واحترام الآخر والأخلاقيات والضوابط الاجتماعية المقبولة، وإما عن تربية وتنشئة اجتماعية ذات عمق ديني متأصل ومتين.