المقصود طبعا ليس مهرجان موازين وحده، بل كل هذه الملتقيات والمهرجانات والحفلات والسهرات التافهة التي أصبح بلدنا يعج بحوالي مائة منها في السنة، لكن المناسبة شرط كما يقولون، وهذا المهرجان أسال مدادا كثيرا وبذر أموالا طائلة، ووضعت حربه للتو أوزارها، ونحن الآن بين صريع وجريح نلملم جراح أخلاقنا، وندفن جثث أعراضنا، نحصي خسائرنا الفادحة في ميدان الفكر والثقافة، بل خسائرنا في الأنفس والأموال. الأعداد والألوان والتشكيلات الأمنية الهائلة، التي تحرس تلك المعابد والمحاريب التسعة المنصوبة في أرجاء مدينة الرباط، لا تدل إلا على إصرار وإرادة سياسية لإمضاء الأمر بقوة الحديد والنار، ورغم اندلاع الاحتجاجات ضد هذا المهرجان المشبوه، وتوالي الاستنكار من مختلف المشارب والأطياف العلمية و الفكرية والحقوقية والسياسية والشعبية، إلا أن إرادة فرضه حاضرة، قوات الأمن لم يعد لها من دور سوى التناوب على حراسة تلك المنصات المنصوبة كمعابد الوثنيين، وتكسير أضلع وجماجم المحتجين، حدث ذلك مع تنسيقية الحملة الوطنية لإلغاء مهرجان موازين بتاريخ 7 ماي 2011، وأيضا مع الاعتصام الذي دعت له عائلات معتقلي السلفية الجهادية يوم 20 ماي 2012، حيث أغارت عليهم قوات أمنية كبيرة، في عملية كر انطلقت من منصة لوداية التي كانت تحرسها. لقد أصبح مهرجان موازين خطا أحمرا قد ينضاف لقائمة الثوابت والمقدسات في مستقبل الأيام، والتقت أهداف الحرس القديم ومهندسي سياسية البلاد، مع أهداف ومصالح قوى الحداثة والتحرر، والخاسر الأكبر هو هذا الشعب الذي وجد نفسه على مائدة الماكرين اللئام يتاجرون به ويجعلونه حقلا لتجاربهم واختباراتهم. ففي الوقت الذي يحتل المغرب مراتب مخجلة ومؤسفة ومؤلمة ضمن أفقر وأجهل وأتعس البلدان، وفي الوقت الذي تتدنى فيه الميزانية وتتزايد فيه البطالة، نجد القائمين على الشأن يصرون على تنظيم هذا المهرجان، بهدف تلميع صورة المغرب في الخارج، وطمأنة الأصدقاء والحلفاء، وإعطاء صورة عن مغرب التسامح والتعدد والحرية والقيم الإنسانية، تلك الحرية التي عبر عنها في الدورة السابقة مغني فرقة المنحرفين الاسبانية بتجرده من ملابسه، وعبر عنها بيت بول وكايلي مينوغ في هذه الدورة، تلك القيم التي عبر عنها مدير المهرجان منير الماجدي حين وصف مغنية منحرفة بالرائعة، واعتبر مشاركتها تشريفا للمهرجان؟؟. كلنا يتذكر ماصرح به سنة 2006 وزير الثقافة آنذاك محمد الأشعري، في افتتاحه للدورة التاسعة لمهرجان كناوة حين قال: "إن هناك طريقتين للتعامل مع المدن في عالم اليوم، طريقة تعتمد الأقفال والأسوار والخوف وسيلة لترويض المدن وإخضاعها لسلطة الانضباط والنمطية وطريقة الثقة في ذكاء المواطن واعتماد المشاركة والحوار" إذن الهدف ترويض المدن وإخضاعها إما بالأسوار والأقفال والخوف، أو بهذه المهرجانات، نحن إذن أمام سياسية لإخضاع الشعب واقتياده وإلهاءه وترويضه، عن طريق هذه المهرجانات، التي هي أداة للتلميع في الخارج والترويض في الداخل. العلمانيون والحداثيون وأشباههم، لهم في الكعكة نصيب، حيث عنونت جريدة "الأحداث المغربية" بعيد افتتاح الدورة الأخيرة لمهرجان موازين هذا، تغطيتها للحدث بعنوان: "ضدا على دعوات التزمت والانغلاق.. المغاربة ينتصرون للفن والإبداع"، وكلنا يذكر الحملة المسعورة من أقطاب ورموز هذا التوجه الدخيل والغريب على ثقافتنا وقيمنا، الداعية لإغراق الشباب المغربي بالمهرجانات لأنها الدواء الأنجع للتصدي للمد الإسلامي ومشاريع وبرامج الإسلاميين، وقد بدا ذلك جليا بعد ما سمي بالحرب على الإرهاب. إن مقاومة الأسلمة عند هؤلاء العلمانيين الدخلاء، تتم بتوسيع دائرة الميدان الفني كما وكيفا، والتوسل بكل وسيلة لذلك، و لاحرج في تحويل تلك الفضاءات لممارسة الزنا ومعاقرة الخمور وترويج المخدرات ومعاكسة الفتيات والتحرش بهن، فضاءات تلتصق فيها الأجساد في طقوس هستيرية أمام تلك المحاريب وبين جدران تلك المعابد، حيث تقدم الأخلاق والحياء والفضيلة والعرض قرابين على عتباتها، طالما أن الهدف النبيل هو سحب البساط من تحت أرجل خصوم سياسيين، حتى وإن كان المستهدف هو ثقافة وتقاليد ودين شعب بكامله. للأسف هذه المشاريع الهدامة، تمر تحت غطاء الثقافة و الترفيه و التنفيس، وكذا تحت غطاء خلق مناصب شغل مؤقتة وتشجيع السياحة الداخلية، وهي مبررات واهية تتساقط إذا عقدنا مقارنة بسيطة بين أرقام المداخيل والمصاريف، إذا عقدنا مقارنة بين ما يستفيده المواطن العادي وما تجنيه لوبيات الفساد، مقارنة بسيطة بين الإمكانيات التي تسخر لهذا المهرجان من مال عام وإعلام عمومي وفضاءات عامة والموارد البشرية للدولة، واستغلال كل ذلك من أجل الربح الشخصي، فقط لأن القائمين على هذا المهرجان من ذوي السلطة والنفوذ، وقد ظلت عدة جمعيات تصرخ بالمطالبة بمراقبة ميزانية هذه المهرجانات وفتح تحقيق في أوجه ومعايير صرف تلك الأموال الطائلة و الملايير الممليرة، لكن ظلت صرخاتها أشبه بصرخة في واد ونفخة في رماد كما يقال. إن هذا التحالف الشيطاني بين رموز الفساد ولوبيات الغرب وحزب فرنسا وحزب العلمنة و اللبرلة والحداثة، تحالف لا تعنيه إلا مصالحه وأهدافه وحلفاءه وأصدقاءه، وقد وجد هذا التحالف للأسف مرتعا خصبا ومنظومة مختلة ساعدته في تحقيق مآربه والمضي في تمرير مشاريعه ومخططاته، منظومة نواتها شباب ضائع تائه يائس بائس، حالة أشبه بما يقصه علينا القرآن الكريم من استخفاف فرعون قومه، استخفافا جعلهم يطيعونه في كل حماقاته وجبروته، قال تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين". يقول القرطبي: "استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول" ويقول ابن كثير: "استخف عقولهم، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له" ومن أبدع ما قرأت تصويرا لهذا الواقع الذي نعيشه من استخفاف قوى الطغيان و لوبيات الفساد بالجماهير، قول سيد قطب رحمه الله: واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه، فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين. ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح، ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: "فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين".