شُدت الرحال من كل مدن المغرب صوب الزاوية الناصرية بالنواصر، لتشهد بعد ظهر يوم 30/05/2012 ، تشييع جنازة الحاج محمد الناصر، أبرز أعلام الفقه والقانون والقضاء والسياسة العدلية في تاريخ المغرب الحديث، وأحد المراجع العليا في مهنة المحاماة الذي أطبق صيته الآفاق على الصعيد العربي والدولي. وفيما فاضت جنبات الوادي الذي اخترقه الموكب الجنائزي المهيب ، بجموع القضاة والمحامين والسياسيين والصحافيين ورجال المال والأعمال ورجال الدولة والإدارة ، وعامة الناس ، كانت تتخلل الصفوف زمر من الفتيان اليافعين ، وزرافات من الصبية الناشئين ، الذين كان بعضهم ينتحب بمرارة ، تترك الإنطباع لدى الرائي ، أن المرارة مرارة يتم ، وأن النحيب نحيب ثكل. لقد افتقدت أسرة العدالة، بأجنحتها القانونية والقضائية والحقوقية والسياسية، رائدا، من أصدق الرواد الذين كانوا لا يكذبون أهلهم، في وقت ما فتىء فيه يانع العطاء، لإرواء غلة المتعطشين إلى ثراء معرفته، وسعة تجربته التي راكمها عقودا من التألق والنجاح والألمعية والفاعلية والنجاعة، وكانت البلاد ما تنفك في مسيس الحاجة إلى حصافة رأيه ورجاحة عقله كرجل دولة، في تدبير حقل العدالة، وترشيد السياسة العدلية، وتوجيه أجيال رسالة القانون. وافتقد أيضا، أولئك الفتية والصبية المنتحبون، من تلامذة المدرسة القرآنية الناصرية، الأب الروحي، والقلب الحدوب، والصدر الرؤوم، الذي كان يشرف بنفسه شخصيا على مراجعة ومراقبة تحفيظهم القرآن الكريم، ويحرص على اقتناء أطعمتهم وألبستهم بيديه من الأسواق وسعيا بين الدكاكين، ويحمل دون شريك سلال الخضر والأغذية، وصناديقها، ويجالسهم القرفصاء في المسجد للإنصات إليهم واحدا واحدا، عن حاجاتهم وهواجسهم، دون أن يتبدل برنامجه في رعاية حفظة القرآن، حتى والوزارة قد أغرقته بأثقالها، بل ولم تنثن عزائمه سادنًا لحملة كتاب الله عزوجل، حتى وهو في عز لجج بحار قضايا المال والأعمال والإدارة التي كان مضماره المهني في المحاماة يعج بها ، ويموج بها نجاحا واجتهادا هائلا مرموقا. زملاؤه المحامون الذين جايلوه منذ بداية مشواره المهني، يعرفون حق المعرفة، مواظبته يوما بيوم على صلاة الفجر، والالتحاق بمكتبه، بعد الفجر، للاشتغال والانكباب على قضاياه ، وما أكثر ما تواعد مع مساعديه والمحامين المتمرنين بمكتبه، على ميعاد الخامسة صباحا. ولعمري ، فإن السر في نجاحه المذهل، كامن في فيوضات وبركات، ذلك الميقات الرباني من فلق الصبح، ولكأنه في سيرته المهنية التي دأب عليها، سنين عددا، صورة من تصديق وترجمة قول الله عزوجل : " وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " بورك لأمتي في بواكيرها " . حب الراحل للقرآن الكريم، اكتشفته في زيارتي الأولى له كمحام متمرن ، وقد كان حريصا على سبر أغوار شخصية زائريه من المحامين المتمرنين بالتعرف على تفاصيل حياتهم، إذ عندما علم بأصلي الدكالي، انبسط معلقا بأنه من الشاوية ، وأن لدكالة على الشاوية فضل في تزويدها بحفظة القرآن الكريم الذين يدرسون أطفال الشاوية في الكتاتيب والجوامع فيما يعرف بالمشارطة، وفوجئت بالعلاقة تنفتح أكثر بيننا لمجرد إخباري له بأن جدي ووالدي كانا من حفظة القرآن الكريم الذين شارطوا على تحفيظه بالشاوية. ليس هذا فحسب ، بل إن هذه الزيارة التاريخية أطلعتني على السجايا الرفيعة التي كان يتصف بها الفقيد في إكبار فضائل النضال والكفاح من أجل الآراء والمبادىء، لما أغدقه علي من جميل الاحترام والاحتفاء والتشجيع حين علم بانفراط عقد من عمري في الإعتقال السياسي ضمن مناضلي الحركة الإسلامية، مرحبا بي بحرارة في مهنة المحاماة التي وصفها حسب تعبيره كمهنة للنضال من أجل الحق والعدالة، ومنوها لي بنموذج المحامي الشهيد عمر بن جلون ، وكيف أنه التحق بمهنة المحاماة بعد اعتقالاته السياسية الطويلة والمتعددة. حينها أدركت سر ما كنا نسمع عن الرجل من حماسه المتقد والمستميت في قيادة هيأة الدفاع وإدارة أطوار المحاكمة في قضية الشهيد عمر بن جلون سنوات السبعينيات ، لما كنا عليه من التتبع، اهتماما منا ببراءة الشبيبة الإسلامية من دم عمر. فقد كان دفاعه التاريخي في هذه القضية نابعا من ضميره الجياش بقيم الإعتزاز والإعزاز لمثالية النضال والكفاح التي كان عليها عمر، ونابعا من قوة شكيمته وغيرته في الانتصار للحق والدفاع عن مظلومية واحد من زملاءه من أساطين رسالة المحاماة وحقوق الإنسان لما أهدر دمه غيلة وغدرا ، إذ لم يأل جهدا في الصدع بالحق والجأر بنشدان الكشف عن خفايا الحقيقة في مرافعاته القيمة، بعيدا عن أية خلفية سياسية أو اصطفاف أيديولوجي. وتمر الأيام والسنون ، ويضرب الإرهاب أمن البلاد سنة 2003 ، وتحل الصدمة، فيحل معها الارتباك والاضطراب في معالجة الكارثة، وتعلو المقاربة الأمنية، فوق كل تدبير، فيمتد لهيب الحرب الأمنية الاستباقية والوقائية إلى جبة الدفاع، لأن مهنة الدفاع وهي تتحمل مسؤوليتها في مخالطة ومخابرة أطراف التوتر، وتضطلع بتحصين مقومات المحاكمة العادلة ، والذود عن مؤسسة البراءة، تحشر نفسها في خط النار الأول، وتنتصب على بسيط العراء في عين العاصفة، إذ كانت هذه الظروف الملتبسة مدعاة لجرفي من منصة الدفاع إلى هاوية الاعتقال. ومرة أخرى يهب الفقيد لنجدة شرف المهنة، بكل الحدب العفوي الغريزي للنقيب الذي يستشعر إشفاق الأب الروحي على زملائه ومقام أبناءه ، فلقد رأيت فيه في تلك الظروف العصيبة ما أبهرني من شجاعة الارتماء في أمواج النيران، لإنقاذ وانتشال جريح مصعوق من وهدة الحرائق. وبالفعل ، فخلال محاكمتي في صيف 2003، وفيما كان الناس يفرون من لهب قيظ شهر غشت الحارق، نحو مآوي الاصطياف والاستظلال، زارني في سجني النقيب الراحل رحمة الله عليه، زيارة مواساة واستجلاء للحقائق واستدرار لمعنويات الصمود ودعم للثبات والتماسك. وقد كان للفقيد هيبة ومهابة، إذ كان من تداعيات تلك الزيارة الميمونة التي ارتجت لها أرجاء السجن، أن تحول الحصار المضروب علي إلى انفتاح وانشراح، بعد أن كان حراس السجن ورجال إدارته يفرون من وجهي، خيفة واحتراسا رغم سابق التعارف بيننا خلال سالف اعتقال سنوات الرصاص. وفيما كانت جنبات المحكمة تضج بمرافعات رفيعة الصنعة القانونية لأجلاء وفطاحل المحامين الذين أبدعوا في الدفاع عن براءة المحامي بما يستحق أن تتوارثه الأجيال ثراتا ومدرسة. كان النقيب الراحل يخوض معركة رفع اللبس والالتباس، والدفاع عن سلامة موقف المحامي مهنيا وأمنيا وسياسيا على مستوى آخر من مستويات التقييم، ولدى نخبة من الدوائر العليا وصناع القرار، بكل الجرأة والجسارة التي كان يسترفدها من الثقة الصلبة في سلامة هذا الموقف، وكان يستظهرها في تجربته المهنية الطويلة ، وتجربة زملاءه المحامين من الجيل الأول في المحاكمات السياسية والعسكرية خلال سنوات الجمر، لما كان المحامون في مثل هاته النوازل الحساسة، يرافعون بثبات في خضم حقول الألغام الملتهبة. في عز أهوال تلك المحنة، وبعد انفراجها اكتسبت في الفقيد الراحل حضنا دافئا من الأخوة الناصحة والأبوة الحانية، التي كان يحرص في مجالسها على تذويب الفوارق المعرفية والعمرية والاجتماعية بيننا، بما يترك المجال لاكتشاف شخصية فذة مفعمة بالإيمان والتواضع، تفيض برقة المشاعر ورهافة الحس ودماثة الخلق بما لا ينتقص من الصرامة في الحق والهيبة في المسلك. تلك الصرامة في الحق التي خلد التاريخ له بها ما حمله على التأبي والرفض والأنفة اتجاه ما عرض عليه للمشاركة في ترحيل ابرهام السرفاتي من السجن إلى خارج البلاد وتجريده من الجنسية المغربية إمعانا في اضطهاده والجور عليه، لقد تجاسر الفقيد على قول كلمة " لا " صارخة مدوية مجازفا بما قد يجره عليه ذلك من فقدان لمكاسب الهالة والهيلمان، فاكتسب بذلك مزيدا من التوقير والاحترام والاحتضان. لقد حققت جنازة الرجل إجماعا وطنيا يندر أن يتحقق إلا لأفذاذ الرجال ، وخُلَّص الوطنيين المؤمنين ، واستشعر الجميع في افتقاده ما يستشعره اليتامى والثاكلون ، وكأنما رحل فجأة ولم يرتو بعد الظامئون من معين فضائله ومحامده ومناقبه ، ولكن البقاء لله وحده ، فطوبى له بما قرت عينه به في حياته من إجلال للقرآن الكريم، وتفضيله الاعتكاف الرمضاني السنوي في الحرمين، ودأبه على الصيام في الخميس والاثنين، وإغاثته اللهفان والمكروب والمحتاج، وتواضعه الجم على ما آتاه الله من رفعة وبسطة في العلم والشأن والجاه، وتعبده بالخدمة في محراب العدالة إلى آخر رمق من عمره، لما وافاه الأجل في اجتماع اللجنة العليا للحوار من أجل إصلاح العدالة ، فرحمة الله الواسعة عليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون. * محامي بهيئة الدار البيضاء