المرجعيات الفكرية للبرامج الاقتصادية تحتاج إلى تحيين دائم لتواكب تحولات مغرب اليوم أجمع متدخلون في ندوة اقتصادية نظمت السبت 27 ماي الجاري بالدار البيضاء على أهمية تحيين المرجعيات الفكرية والإيديولوجية التي تسند إليها البرامج الاقتصادية حتى تتمكن من مواكبة التحولات التي يشهدها مغرب اليوم. واعتبروا٬ في هذه الندوة التي نظمتها لجنة الشؤون الاقتصادية المتفرعة عن اللجنة التحضيرية للمؤتمر 16 لحزب الاستقلال ورابطة الاقتصاديين الاستقلاليين تحت عنوان "أي نموذج للنمو الاقتصادي بالمغرب٬ راهنية التعادلية وتحديات الأزمة العالمية"٬ أن تحيين تطبيقات النموذج الاقتصادي لا يغني عن إعادة النظر في المنطلقات٬ مشيرين إلى أن القيام بقراءة نقدية في النموذج الاقتصادي القائم ينبغي أن يراعي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها والمرتبطة بتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان توزيع عادل للثروات وتحقيق الاستقلال الاقتصادي. وفي هذا الصدد أكد نزار بركة، وزير الاقتصاد والمالية٬ عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال٬ أن التعادلية٬ كخيار اقتصادي تبناه حزب الاستقلال منذ 1963 تكتسي راهنيتها من مجموعة القيم والأفكار التي تنبني عليها والمتمثلة في أنسنة الاقتصاد وإرساء الديمقراطية وضمان الحريات الأساسية وتحقيق المساواة وتوفير الكرامة وبناء مجتمع متضامن بشرائحه الاجتماعية وجهاته الترابية. ومن هذا المنطلق٬ أبرز بركة أن تحقيق هذه الأهداف يفرض اتخاذ مجموعة من التدابير التي تخص إنعاش الشغل والرفع من الدخل وتأهيل الموارد البشرية والنهوض بالعالم القروي والتوزيع المتوازن للمشاريع الاستثمارية عبر الجهات وكذا مأسسة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ومعالجة عجز الميزان التجاري. وبعد ان استعرض جملة من الإكراهات التي تواجه الاقتصاد الوطني حاليا (عجز ميزان الأداءات٬ تراجع تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج٬ ارتفاع كلفة الواردات٬ تراجع فعالية الاستثمار٬ تراجع مداخيل السياحة)٬ اعتبر أن التعادلية ما تزال تحتفظ بموقعها كنموذج اقتصادي قابل للتطبيق يقوم على الحفاظ على سيادة القرار الاقتصادي عبر التحكم في التوازنات المالية والماكرو اقتصادية والحفاظ على التوازنات الاجتماعية والتنموية وحصر الدين العمومي في حدود متحكم فيها٬ إلى جانب النهوض بالاستثمارات وتعزيز النمو الداخلي. وتابع أن هذا الخيار الاقتصادي يقترح آليات مبتكرة لتحقيق التضامن والحماية الاجتماعية تشمل توسيع قاعدة المستفيدين من التغطية الاجتماعية والتقاعد واستهداف الفئات المعوزة وتعزيز الأنشطة المدرة للدخل إضافة إلى إرساء تنمية مجالية مندمجة ومتوازنة. وبالمقابل قدم امحمد الدويري٬ عضو مجلس الرئاسة لحزب الاستقلال والذي كان يشغل منصب زير الاقتصاد الوطني والمالية (1960-1963)٬ قراءة تاريخية للسياسة الاقتصادية للحزب في الفترة ما بين 1956 و1963 مبرزا القناعات والمنطلقات المرجعية التي حكمت السياسة الاقتصادية للمغرب آنذاك والتي اتجهت على الخصوص نحو إرساء قيم تضامنية تضمن التوزيع العادل للثروات وتكريس استقلالية الاقتصاد الوطني من خلال بناء مؤسسات اقتصادية وطنية قوية تسهر على حماية السيادة الاقتصادية للمملكة٬ والعمل على تكوين الأطر المؤهلة والقادرة على تحمل مسؤولية بناء اقتصاد وطني حر وقوي. ومن جهته عرض الباحث الجامعي العربي الجعايدي للضوابط التي ينبغي أن تحكم أي عملية مراجعة للإيديولوجيات والمرجعيات الفكرية التي تشكل قواعد الممارسة الاقتصادية٬ معتبرا أن مناقشة من هذا النوع يجب أن تركز على إعادة النظر في المضامين والمرتكزات ومدى قابليتها للتحقق في شكل برامج اقتصادية وفرت لها كل إمكانيات التحقق خاصة في ما يتعلق بالجوانب التشريعية والمؤسساتية. وأوضح أنه رغم كل المكتسبات التي حققها الاقتصاد الوطني من حيث معدلات النمو والانخراط في إصلاحات هيكلية عميقة وتحديث النسيج الإنتاجي٬ إلا أنه لم يستطع أن يحد من الفوارق التي تفصل بين الطبقات الاجتماعية وأن يرفع من وتيرة وسرعة نموه ليواكب التحولات الاقتصادية العالمية المتسارعة. وفي ما يخص النموذج الاقتصادي الذي يقترحه حزب الاستقلال٬ أبرز أن أي بناء اقتصادي كيفما كان مصدره يحتاج إلى أن توفر له عوامل القوة والاستمرارية حتى لا يصبح مجرد برنامج انتخابي يصلح للاستعمال الموسمي٬ مضيفا أن التعادلية كفكر اقتصادي يقوم على الاستقلالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لها أهميتها لكنها تحتاج إلى ضبط أدوات اشتغالها وتحديد آليات تنزيلها وفق مبدأ الحكامة الجيدة الذي يعطي للأحزاب فرصة إدارة الشأن العام وتحديد التوجهات الإستراتيجية الكبرى للبلاد وفق آليات ديمقراطية مجمع عليها. فيما اعتبر منسق لجنة الشؤون الاقتصادية محمد الكروج أن النموذج الاقتصادي المغربي أثبت قوته من خلال صموده في وجه الأزمات المالية والاقتصادية التي تهز مختلف بلدان العالم٬ مؤكدا أن التعادلية٬ بما هي فكر يدعو إلى أنسنة اقتصاد السوق وتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية٬ استطاعت أن تضمن الاستمرارية في ظل التحولات التي شهدها المغرب بفضل انسجامها مع التوابث الوطنية وانفتاحها على كل المتغيرات. واعتبر عادل الدويري٬ رئيس رابطة الاقتصاديين الاستقلاليين٬ أنه وبالرغم من أن إيديولوجية الحزب ومبادئه لم تتغير منذ 50 سنة٬ إلا أن ترجمة هذه الإيديولوجية على أرض الواقع تتطور باستمرار كي تتماشى وكل مرحلة من تاريخ البلاد. وشدد على أن ضمان تماسك المجتمع وتحقيق المساواة بين أفراده يتطلب الحرص الدائم على تنظيم التضامن والتوزيع العادل للثروات التي يخلقها النمو الاقتصادي مما يفرض وضع برامج تنموية قوية ترفع من حجم الإنتاج المغربي سنويا٬ معربا عن ثقته في أن الأفكار هي التي تخلق قوة الأحزاب وأن الأحزاب التي تتوفر على إيديولوجية قوية وواضحة هي تلك التي سيكون لها وزن كبير في الساحة السياسية المغربية.