لقد ورد مفهوم التنزيل بالحرف في أحد فقرات البرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين في نسخته الاصلية باللغة الفرنسية تحت التسمية الانجليزية التي تعني نفس الشيء Top down، وهذا المفهوم هو تلخيص لتصور برنامجي جاهز يرتكز على الفلسفة التوليدية للانجاز وليس على الفلسفة اللاهوتية للإنزال. في حالة البرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين لسنة 2007، كان هذا التصور و لازال يسعى إلى توليد النصوص القانونية من النص التشريعي الاصلي الذي هو "الميثاق الوطني للتربية و التكوين" ونفس الشيء بالنسبة لدستور سنة 2011، العملية التوليدية هي نفسها العملية المتوخى احترامها في التشريعات المستقبلية القادمة. هذا التصور البرنامجي المبني على التوليد و ليس التنزيل، يستمد فلسفته و طريقة انجازه و صياغته و تنفيذه من أحد التيارات الفكرية لسنوات الستينات من القرن الماضي بالولايات المتحدةالأمريكية و هذا التيار هو "تيار الذاتية المجردة"Le subjectivisme abstrait" الذي يمثله بداخل مجال اللسانيات العالم اللساني نوم شومسكي. هذا العالم هو منظر و في نفس الوقت واضع أسس ما يسمى ب"النحو التوليدي" « La grammaire générativiste ». عرف هذا التيار انتشارا و اقبالا واسعين خلال ستينات القرن الماضي، لأنه جاء كردة فعل قوية ضد اللسانيات البنيوية الفرنسية، المصنفة ضمن اللسانيات الوصفية فقط وليس ضمن اللسانيات التحويلية كما تطمح الى ذلك اللسانيات التوليدية لشومسكي. تعتمد اللسانيات التوليدية على مصطلحات ومفاهيم كما تعتمد على مراحل تفسيرية دقيقة ومحددة للانتقال من البنية السطحية الظاهرة، نموذج نص الدستور المغربي الحالي، الى البنية العميقة المتخفية، التي ستمثلها التشريعات المختلفة المولدة من البنية السطحية الظاهرة التي هي نص الدستور. في البناء النظري للنحو التوليدي، يميز نوم شومسكي ما بين مستوى الكفاية compétenceو مستوى التقعيد performance. الكفاية كما حددها هي القدرة على الإنجاز بدون التوفر على القدرة على معرفة القواعد و الميكانيزمات التي تتحكم في هذا الانجاز. الدستور المعتمد حاليا، أي دستور سنة 2011، ينتمي الى مستوى الكفاية كما حددها شومسكي، أي ينتمي الى مستوى القدرة على الانجاز بدون التوفر على القدرة على ضبط القواعد و الميكانيزمات؛ و هذه الخاصية ستجعل من هذا الدستور دستورا منحصرا في مستوى الكفاية فقط، أي في مستوى المداخل in put؛ بمعنى أنه لن يستطيع بتاتا بلوغ مستوى المخارجout put أي مستوى ظهور النصوص التشريعية المقعدة و المولدة انطلاقا من بنود هذا الدستور. لكي يستطيع هذا الدستور الانتقال من مستوى الكفاية إلى مستوى التقعيد عليه أن يمر بغرفتي التقعيد اللتان هما الغرفتين التشريعيتين: البرلمان ومجلس المستشارين. ونظرا لأن هاتين الغرفتين هما غير محددتي الاختصاصات التشريعية وغير متوفرتين على انسجامات كبرى على مستوى البرلمانيين و المستشارين، و نظرا كذلك لأن هاتين الغرفتين هما غير متوفرتين على مساطر دقيقة للتحكم في عملية التقعيد فان الدستور الحالي سيبقى دستورا محصورا في مستوى الكفاية فقط أي في مستوى التصور الذاتي المجرد. الفلسفة اللسانية التوليدية لصاحبها شومسكي هي مصنفة ضمن التيار الفكري و الفلسفي المعروف بالذاتية المجردة le subjectivisme abstrait و هكذا سيكون عليه الامر بالنسبة لدستور سنة 2011. انه دستور غارق في الذاتية المغربية المجردة التي تعتقد كثيرا في الاحتماء بالفوضى بدل الاحتماء بالتصنيفات العقلية الواضحة و المقعدة. في إطار التصور التوليدي للغة conception générativiste كل بنية لغوية structure linguistique إلا و باستطاعتها توليد عشرات الالاف من الجمل الدالة و السليمة و نفس الشيء بالنسبة للتصور التوليدي للدستور، و ليس التنزيل كما دأبت على تكراره وسائل الاعلام المضللة - بفتح اللام و تشديدها- حيث كل بند تشريعي وارد في الدستور إلا و باستطاعته، حسب النظرية التوليدية للدستور، توليد عشرات الالاف من البنود التشريعية المقعدة. في التصور التوليدي للغة كل بنية لغوية منجزة على شكل جمل إلا و عليها احترام سلامة المعنى و إلا اعتبرت هذه الجمل جملا غير نحويةagrammaticale ، و نفس الشيء بالنسبة للدستور الحالي كل نص تشريعي مولد إلا و عليه احترام سلامة المعنى، أي ما يسميه النظام التداولي المحلي:"التأويل الايجابي للدستور"، لكن من سيحدد سلامة هذا المعنى؟ في النحو التوليدي Grammaire générativiste يتم تحديد سلامة معنى البنيات اللغوية المعتمدة في توليد عشرات الالاف من الجمل الصحيحة و السليمة مما يسميه شومسكي: المتكلم- المستمع- النموذجي- المثالي، و هذا النوع من المتكلم- المستمع- النموذجي- المثالي هو بكل بساطة شخص غير موجود في الواقع، هو فقط شخص متخيل و ليس شخص حقيقي لديه وجود حقيقي. لهذا السبب صنف المحللون هذا النحو التوليدي ضمن التيار المسمى ب"الذاتية المجردة"؛ و هكذا سيكون عليه الامر بالنسبة للدستور المغربي الحالي، انه دستور يفترض وجود مجتمع سياسي نموذجي مثالي، و هذا ليس صحيح لان الجميع يعلم من يشد بيد من حديد على هذا المجتمع السياسي النموذجي المثالي. تصور Top down أي التصور اللاهوتي التنزيلي كما تنقله وسائل الاعلام على لسان العقائديين، هو تصور برنامجي فوقي يتطلب الاحاطة بكل دقائق الأمور، و حتى حينما تتم الاحاطة بكل دقائق الأمور حتى في هذه الحالة حينما يحس المواطنون بأن الدستور مفروض عليهم فرضا من فوق فإنهم سيعملون جاهدين على عدم إنجاحه، حتى لو كان يخدم مصالحهم. رفض المواطنين لتصور Top downيعود الى ما يسميه المفكر الأمريكي الآخر الذي هو فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ و الانسان الأخير" بالتيموس Thymos، و هذا التيموس هو نوع من الكبرياء التاريخي الذي يجعل المواطنين يرفضون دائما كل ما يفرض عليهم من فوق.