نحن نشيخ قبل الوقت. نرقب شيخوختنا وهي تكبر أمامنا. تنزع طاقم أسنانها الاصطناعي وتضعه في كأس من الماء وتستسلم للنوم. مهووسون بالنهاية قبل الأوان. نهاية الوظيفة. نهاية العمر. كل شيء له نهاية، لكننا نفكّر في نهايتنا باستمرار كأنها ستحدث اللحظة. لسنا نحن من ننتظرها، بل هي ا لتي تدفع كل حركاتنا إلى الحدوث. يقيننا خرافي بنهايتنا، لأنها حتمية بكل تأكيد، وستأتي يوما، إننا نعيشها مع ولادتنا، لذلك فنحن منتهون أصلا. انظروا إلى هؤلاء الموظفين بالإدارات العمومية بوجوههم الشاحبة كأنهم يشتغلون في مؤسسة الموت. مستسلمون في "دار الضمانة" لمصيرهم الإداري، لأنه يضمن لهم نهاية مضمونة. المطالبون، من خريجي الجامعات، بالتوظيف المباشر في القطاع العمومي محقّون ومنطقيون في مطلبهم، فلا أحد في المغرب يضمن نهايته، وانعدام الأمن والأمان هو حالة نفسية جماعية تضطرّ المغاربة إلى التشبّط بأيّ شيء، حتى لو أصبح القطاع العمومي مركبا مثقوبا. المهمّ أن كل هؤلاء الخريجين والموظفين سينتزعون رواتب زهيدة آخر الشهر، كافية لجعلهم يتمتّعون بتقاعد مضمون، رغم أن معاشه لا يضمن نفقات الدّفن. هل حماس المغاربة للعمل كحماسهم للحصول على تقاعد محتمل؟ العمل يضمن حياة كريمة، لكنه بالنسبة إلينا هو الطريق السالكة للتقاعد، فالموظف يدخل في غيبوبة طويلة فور جلوسه على كرسي مكتبه. إنه حاصل على تقاعده وهو يبدأ يومه من الثامنة صباحا وينتهي في الرابعة، يضع قدما على أخرى، ويحلّ شبكة السودوكو، ويشرك زملاءه وزميلاته ما تيسّر من دخان سجائره. ملفات ترقد أمامه وهو غير مستعجل، مواطنون يطالبونه بوثائقهم وهو غير مستعجل، هو ليس في خدمة أحد، بل يخدم نفسه فقط، ويتلقّى عن ذلك راتبا. شريحة كبيرة من الأجراء البسطاء يحصلون على معاشات تقاعد خيالية، قد تصل إلى 200 درهم، تكفي لشراء حبل لوضع حدّ لهذا العبث، رغم ذلك، فهم يؤجلون فكرة الانتحار، ويتعايشون مع موتهم الطبيعي، بلا ضجّة، يحقّقون أكبر النّسب في الإصابة بداء السكر لأن ما أفنوا فيه عمرهم مرُّ الطّعم. يحسّون أن مؤسسات الدّولة التي شغّلتهم عقودا، قذفتهم كمصابين بالطاعون. طاعنون في السنّ ولا أحد يحسب لهم حسابا، وسيواجهون مصيرهم كمظلّيين محترفين ويرتمون بأنفسهم في القعر المظلم. ما الفائدة في تأخير الحكومة لسنّ التقاعد ما دام الجميع يحصل عليه مبكّرا؟ وكيف نكتشف أن الذين طلبوا تقاعدا نسبيا كانوا يعيشون، فعليا، تقاعدا مطلقا؟ علينا ألا نفكّر أكثر، فالأرزاق بيد ربّ العمل، وهو من يختم كتابك الأخير، ويحدّد عمرك في مصنعه. مؤسسته لا يعنيها مصيرك، فأنت عبدٌ مشرّط الأحناك، وعندما تؤدّي عملك بتفان فأنت لا تنتظر عنه جزاء أو شكورا. كم نسبة الشيخوخة في المغرب مقارنة بشباب عمرهم ما بين 18 سنة و24 سنة؟ سنة 2030 سترتفع نسبة الأمل في الحياة إلى 77 سنة بعد أن كانت سنة 2004 فقط 72 سنة، هذا ما تقوله الإحصائيات، بمعنى أن الناس سينتقلون إلى التفكير في دور العجزة التي ستأويهم، فأرباب البيوت سيعلنون مع الوقت عن إفلاسهم، والأب الذي كان يعوّل على أبنائه للاعتناء به بعد التقاعد والشيخوخة، سيعلن عن إفلاس شركة البيت التي لم تعد تحتمل موظفين أشباحا من الأبناء، يسرطون ويمرطون ويعيشون طويلا في عطالة مقنّعة بانتظار راتب الأب، أو الحصول على عمل والهروب لتأسيس شركة أسرية جديدة. المتقاعد في المغرب، بلا تغطية اجتماعية ولا تطبيب، هو أصلا لم يكن حيّا يرزق أبدا، كان يدحرج نهايته ببطء، ويؤمن بأن الآخرة أفضل له من الرقود في فراش المرض ليصبح عالة على الدولة وعلى أسرته. كلّنا عالة على بعضنا حتى عندما نقتطع من أرض الدولة قبرا. في الغرب لا يبلع الموظفون فكرة التقاعد، يرغبون بالاستمرار في العمل، وفي القيام بدور في المجتمع. نحن بلا دور، سواء كنا في سلك العمل، أو حتى عندما يضربنا السلك ونصاب بخرف الشيخوخة. كلنا متقاعدون، بمقعد أو بدونه، متقاعدون عن العمل والحياة