لابد أن يكون الكثيرون منّا قد لاحظوا أن حضور أطوار مباريات كرة القدم في الملاعب المغربية بات أشبه ما يكون بالمغامرة محفوفة المخاطر بسبب العنف الطائش الذي يتنافى كُليا مع قيم الروح الرياضية التي تحصن الجمهور وتمنح أفراده المناعة اللازمة ضد الانزلاقات. فسلوك أولائك الصبية والفتيان، الذين يتنقلون بهوس لمسافات طويلة لمتابعة مباريات الفريق المحلي أو الفريق القومي لكرة القدم، لابد أن يكون موضوع دراسة عميقة لمقاربة الشعور المزدوج بالعنف، الذي ينتاب البعض، في حالتي الفرح بالفوز والحسرة بالخسارة. ولا تكاد تنمحي صورة اللوحة الجماعية، التي يرسمها الأنصار ببهاء مُميّز، حتى تبدأ إثارة أخرى في المدرجات، تمتزج فيها الأصوات بالحركات وبالسكنات وبالمشاعر الجياشة، لتنحو، رويدا رويدا، نحو العنف المادي واللفظي، في مشهد ستستمر بعض أطواره المرفوضة خارج الملعب. ومع تواصل عجز الفريق المحلي عن حل منظومة لعب الفريق المنافس وتحقيق الأهداف، التي ربما قد يتقبل بعضها ضد مجرى اللعب، سيبدأ الشك في التسرب إلى نفوس المتفرجين عن قُدرة فريقهم على تجاوز "النهج التكتيكي" المطبق بصرامة من الفريق الخصم، مما تنتج عنه ردّات فعل ساخطة، قد تخلف، مع الأسف الشديد، ضحايا في الأرواح البشرية. هذا المشهد القاتم يشكل في واقع الأمر جزءا من صورة مركبة تتعدد فيها مظاهر العنف لتشمل حالات الاعتداء على رجال الأمن بطريقة "قطاع الطرق" في دروب المدن الكبرى، وحالات الاعتداء على المدرسين والمدرسات في الإعداديات والثانويات، وحالات التحرش بالفتيات وبالسيدات في الشوارع والحارات، ناهيك عن حالات أشد وأخطر، تمس القيم والمعتقدات والرموز المشتركة للمغاربة. وأمام هذا الوضع، لابد من تحرك منضبط بمقاربة مندمجة تساهم في إنجاحها القوى الحية في البلاد بما في ذلك الحكومة والأحزاب والمجتمع المدني، لوقف اتساع "رقعة الزيت" والتحكم في انعكاساتها على تماسك المجتمع والعمل على توجيه استثمارات "التنمية البشرية" لتكريس التربية على المواطنة وتعميق الإحساس بالقيم الحقيقية ل "تمغربيت"، كمجال مشترك يعمل في إطاره الجميع. ومن البديهي أن يكون لوسائل الإعلام دور مركزي في دعم هذا التوجه بإقرار سياسة إعلامية تجعل النهوض بالوعي الجماعي للأفراد في صلب أهدافها وذلك بالتخلي عن أسلوب الوصاية الأقرب إلى التشفي، والنزول إلى الشارع لمقاربة احتياجات المجتمع بمهنية راشدة وبلغة بسيطة ومتواضعة يفهمها الناس، بما في ذلك فئات الفقراء والأميين الذين يعيشون، فيما يبدو، على هامش السياسات العمومية والخاصة. وإزاء هذه الحقيقة، لا نستطيع إخفاء دهشتنا من مستوى السجال الدائر حول مسألة "دفاتر التحملات" الخاصة بقنوات القطب العمومي، وما إذا كان ذلك سيشكل قاعدة مناسبة لنقاش واسع يستحق هذه الجعجعة، تماما كما هو الشأن بالنسبة للنقاش المحتدم حول قضية القطار الفائق السرعة ووضعية المشاريع الإستراتيجية وجدل التعيين في المناصب المهمة. وفي ظل وضعية المراوحة المستحكمة في البلاد وما ينتج عنها من فراغ مطبوع بنوع من التشنج والاحتقان، ينصرف بعضنا للبحث عن سِرّ هذا "الأمر الجلل"، الذي دفع بقيادات الإعلام العمومي للخروج، عن بكرة أبيهم، للمطالبة برفض هذه الدفاتر بدعوى حماية الهوية المميزة للمغاربة والدفاع عن "المكتسبات التي تحققت لتكريس التسامح والتعددية والانفتاح" في البلاد. هذه الدفوعات المنقولة عن المسؤولين بأسلوب مهلهل البُنيان وضعيف الحجية والبيان في نظر أنصار الوزير الوصي على القطاع (من أعضاء حزبه على الأقل)، يضع الحكومة ممثلة في وزارة الإعلام وهيئة حكماء الاتصال السمعي البصري وممثلي المهنيين أمام مسؤولية الدفاع عن روح الدستور الجديد، الذي اعتمده الشعب بغالبية لا تقبل الجدل. ولا مجال للمزايدة على نص الدستور، باعتباره أسمى قوانين الدولة، بعد ما لمسناه من حرص ملك البلاد على احترام التفسير الديمقراطي في تنزيل مقتضيات الوثيقة الجديدة، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات يقع على كاهل المؤسسات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، تحملها بما يقتضيه الأمر من التزام بالميثاق الأخلاقي الذي يجمع هذه السلطات بالشعب. وهذا الشعب الذي يخطب الساسة وِده في المناسبات الانتخابية، هو مزيج من الاثنيات والأعراق والانتماءات والمذاهب، وحَّده السلطان تحت راية الإسلام لتأمين استمرار الدولة وتعزيز قوتها بتعدد هويتها الوطنية "بمكوناتها، العربية والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، وبروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية". ولا نتمنى أن ينتقل شغب ملاعب الكرة إلى قبة البرلمان، وتُصبح المؤسسة فضاء لتصفية الحسابات بين فريق الغالبية وفريق المعارضة، إلا في ما يتصل بالمهام المنوطة بأعضاء المجلس في إثارة الانتباه إلى ما يشغل بال الرأي العام من قضايا ليس في طليعتها، على أية حال، مسألة "دفاتر التحملات" والقطار فائق السرعة. ولذلك فعلى السيد ابن كيران وزملائه في الحزب والحكومة أن يعرفوا أنهم بقبولهم اللعب في المعترك المكشوف اختاروا أن ينتقلوا من وضعية المتفرج المنزوي في الزاوية المظلمة، الذي يمكن له أن يتصرف على سجيته، إلى وضعية الراقص في حلبة تحت الأضواء، على نغمات ليس هو من يتحكم في توليفتها !!