عاد الحديث في هذه الأيام إلى موضوع رفات الأمير الخطابي وعادت معه المواقف والتوصيفات المعتادة بصفة خاصة منذ أن أثارت "هيئة الإنصاف والمصالحة" موضوع إعادة الرفات من مدفنه في القاهرة مع أعضاء أسرته المباشرين. وكانت هذه الهيأة قد استضافت سعيد الخطابي نجل المعني بالأمر في 24 مايو 2005 قصد بحث الكيفيات التي تنجز بها عملية نقل الرفات وأشياء أخرى تتعلق بما اصطلح عليه ب"جبر الضرر الجماعي". الخطابي ومحاولة تجاوز طابو الرفات وحضر اللقاء إلى جانب سعيد أعضاء من "مجموعة البحث محمد بن عبدالكريم الخطابي". ويمكن تلخيص موقف سعيد الخطابي من الموضوع فيما يلي "عندما يعاد الاعتبار لتاريخ المرحلة وللمنطقة نفسها لن يكون هنالك أي اعتراض على إعادة الرفات"، ولمح في الوقت نفسه إلى أن موضوع الخطابي برمته ليس له علاقة بمهام واختصاصات هيأة الإنصاف والمصالحة، وكان يشير بذلك إلى الوعد الملكي بالتكفل بالموضوع في مناسبتين على الأقل: مناسبة زيارة الملك محمد السادس الأولى إلى كل من الحسيمة سنة 1999 حيث كان سعيد في استقباله وكذلك أثناء زيارته إلى القاهرة سنة 2000. وأكدت كريمة الخطابي السيدة عائشة من جانبها هذا الوعد الملكي في أكثر من مناسبة إعلامية حتى بعد رحيل شقيقها سعيد عن الدنيا أواخر سنة 2007، آملة أن يوضع الحد لكل أنواع الجدل واللغط المصاحب لطرح الموضوع. وللتاريخ، وللحقيقة أيضا، فقد تذاكرنا أكثر من مرة، مع سعيد الخطابي عن سبب اعتراضه لتولي هيأة الإنصاف معالجة موضوع والده، الذي أصبح ملكا لكل المغاربة ولتاريخهم الوطني التحرري، وعن تشبثه بالوعد الملكي في موضوع الرفات بالذات؟ وكان رأيه الذي يرقى إلى درجة الموقف كما يلي: 1 إن مبادرة رئيس الدولة إلى اتخاذ ما يلزم بشأن استعادة الرفات، وما يتعلق بتشريفات إعادة دفنها في وطن صاحبها والتي ليس من الوطنية أو المنطق السياسي أن تكون أقل عن تلك التي خصصتها له الحكومة المصرية؛ كل ذلك ستكون له دلالته في وجدان المغاربة، خاصة بعد ما تردد من فزاعات وحيك من مؤامرات لإقناع النظام المغربي بالخطر الذي يشكله عبد الكريم والريف عليه. 2 أنه لا أحد يملك القرار والقدرة على إصلاح الأخطاء والمظالم المرتكبة في حق المنطقة التي ينتسب إليها الخطابي إلا الدولة نفسها. وذلك يتطلب توافر إرادة سياسية عليا قابلة للتحقق على أرض الواقع، وليس لمجرد إرضاء الخواطر ظرفيا أو من أجل الاستهلاك السياساوي. 3 أما يقال عن "جبر الضرر" الذي روجت له هيأة الإنصاف والمصالحة وجعلت استعادة الرفات جزءا منه فهو مغالطة تاريخية ومجرد مماحكة سياسوية؛ لأن الذي عليه القيام بجبر الضرر الجماعي بعد تقديم الاعتذار لساكنة الريف، ولكل المغاربة هي أسبانيا وفرنسا بطلب رسمي من الدولة المغربية، بصفتهما مسؤولتين قانونيا وأخلاقيا عما لحق الساكنة، ليس أثناء حرب التحرير فحسب، بل في فترة ما بعد الاستقلال كذلك. من يقف وراء نفي الخطابي حيا وميتا؟ 4 مما تقدم كان سعيد الخطابي يؤكد غير ما مرة أن مسألة رفات والده ليست في يد الحكومة المغربية فقط،، بل هي رهينة بالفيتو الفرنسي بصفة خاصة. وهو يشير بذلك إلى حروب فرنسا الاستعمارية في المغرب الموصوفة بحروب"التهدئة"، المعززة بقانون تمجيد الاستعمار الفرنسي المؤرخ في 23 فيفري 2005. في الوقت الذي كان فيه الخطابي على طرفي نقيض من ذلك، باعتبار الحرب التي قادها مع رفاقه هي حرب تحرير للوطن من الاستعمار بامتياز. ولا أحد من المغاربة الشرفاء الأحرار يرضى أن تُقيّم حرب التحرير الريفية وفقا لمنطق فرنسا وليوطي. وفي جملة واحدة "يجب إيجاد الجواب المقنع على السؤال التالي: كيف يمكن للدولة المغربية أن تعترف بأن الاحتلال الفرنسي كان حماية للمغرب، وتعترف في الوقت نفسه بمقاومة ذلك الاحتلال بصفتها حربا تحريرية؟" ونعتقد بأن النظرة الفرنسية إلى حروبها الاستعمارية وإلى حروب التحرير الوطنية يفسر إلى حد كبير الصمت البائن للحكومات المغربية المتعاقبة في مسألة الخطابي. وهي بذلك تؤكد خضوعها للضغوط الفرنسية وربما الإسبانية أيضا، وكذلك فعلت أحزابها في تواطؤ غير بريء، وكأن الأمر لا يعنيها كمؤسسات لدولة عليها واجب احترام رموزها وتخليد بطولاتهم وتضحياتهم وإحياء ذكراهم كجزء من الهوية التاريخية للمغاربة جمعاء، مما نجم عنه محاولة ماكرة لحصر موضوع الخطابي في ساكنة الريف. وسكان الريف، ونتيجة لما تعرضوا له من القمع السياسي والمادي وازدراء هويتهم الثقافية بعد الاستقلال، ومن تهميش لجهتهم وحرمانها من مزايا الاستقلال بسبب ما بدر منهم ضد الاحتلال المسمى في الأدبيات السياسية الرسمية ب"الحماية الفرنسية للمغرب"، تعاظم لديهم الشعور بالإحباط وفقدان الثقة في الحاكمين والأحزاب الدائرة في فلكهم، بل التشكيك بالتالي في كل ما يصدر عن الهيئات التابعة للدولة أو عن أحزابها. والمخزن في نظرنا مسؤول عما آل إليه الأمر في هذا الجزء من الوطن المغربي. خاصة بعد العبارات التي تم التفوه بها في خطاب يناير 1984، حين خُص أحفاد الخطابي بنعت الأوباش عقب احتجاجات شعبية شملت جل أقاليم المغرب، وحين تم ويتم اليوم مواجهة المظاهرات المطلبية في الريف بعنف غير مبرر، وبشتم المتظاهرين بعبارات تشكك في أصلهم العرقي وأنهم مجرد عملاء للإسبان، واتهامهم بالنزعة الانفصالية وتهديد الوحدة الوطنية ... إلخ. جدل الاتهامات المتبادلة وموازاة مع ذلك بُذلت جهود كبيرة واستعملت وسائل مختلفة لإلصاق تهمة الانفصال بالخطابي، تأكيدا لمزاعم فرنسا. وما يؤسف له أن عددا لا يستهان به من ساكنة ما كان يسمى "المغرب الفرنسي" لا يزالون يرددون هذا الزعم ليس بالنسبة للماضي فحسب، بل يجهرون به دون حياء حين يصفون "الروافة" اليوم بأنهم انفصاليون على طريقة الخطابي. فإلى أين نحن نسير؟ في المقابل يذهب الريفيون، والحال هذه، إلى تحميل المخزن والأحزاب الدائرة في فلكه مسؤلية خلق ونشر هذه الثقافة التي قد تساعد ظرفيا الحكام وأصحاب الريع السياسي بالكيد لقوة المعارضة الشعبية بتطبيق مبدأ "فرق تسد"، وهم في ذلك ذاهلون وغافلون عن عواقب ما يفعلون. فما كان يفيد سياسات التفريق وزرع الخصومات بين أبناء الشعب الواحد في ظرفية تاريخية معينة لها آجالها في صيرورة الشعوب، وفي منطق أطوار التاريخ، لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؛ لأن وكما تقول الحكمة "دوام الحال من المحال". واليوم، ونتيجة للنهج السياسي العقيم نحو الخطابي ومعاقبة موطنه الريف فإن نخبا كثيرة من نخب الريف ومناضلي المجتمع المدني أصبح لديهم ما يمكن تسميته ب"الحاسة السابعة"، التي تجعل أصحابها يرفضون تلقائيا وبالمطلق كل ما يشتم فيه رائحة المخزن أو الهيئات التابعة له، سياسية كانت أو حقوقية، لأنها في نظرها (النخب) وفي نظر الواقع المعيش لم ينجم عن سياساتها في الريف إلا السوء والبؤس والتهجير، وبما أن الخطابي كان العلة والمعلول لتهميش الريف واضطهاد ساكنته، بسبب محاربته "الحماة" (فرنسا)، وبسبب موقفه من الاستقلال الناقص سنة 1956، وبسبب موقفه من دستور 1962، وبسبب مطالبته بمشروع مجتمعي للمغاربة يقوم على الحرية والعدالة والكرامة، فإنه أصبح مرجعا لكل مضطهد ومعارض للسياسات المتبعة؛ تلك السياسات التي برهنت على الدوام عمليا بأنها لم تكن تستجيب لطموحات المغاربة، كل المغاربة. من له المصلحة في تقزيم هامة الرموز الوطنية؟ وعليه يطفو على سطح العلاقة بين المركز والريف طرفان: الجهات الحكومية والحزبية المتواطئة من جهة، ونخب من الريف في الجهة المقابلة، اتخذت هذه العلاقة أسلوب التوجس من بعضهما البعض والتشكيك في النوايا. ومن ثم فكل فكرة أو مقترح يشتم فيه وجود رائحة هذا الجانب يرفضه الجانب الآخر، والعكس صحيح. ثم أن كليهما يتعامل مع موضوع الخطابي في النهاية بمنظور إثني وجهوي هامشي. فالكتب المدرسية تتكلم في أسطر قليلة عن حرب التحرير بلغة "أزمة الريف" وجل الساسيين والكتاب المغاربة يتحدثون عن الرجل بأنه "الزعيم الريفي" أو "زعيم الريف". وإذا كان ذلك قد وجد هوى عند الحكام وحاشيتهم من الأحزاب في لحظة عابرة من لحظات السياسة الخاطئة في بناء الدولة الأمة، فإن نخبا كثيرة في الريف التي ترى أن هناك نوعا من التواطؤ بين المخزن ونخب كثيرة منتسبة إلى ما كان يعرف بالمنطقة السلطانية بأحزابها وهيآتها، فاضطروا إلى أن يحتضنوا الخطابي كرمز لثقافة الإباء، ورفض الحلول العرجاء، كما رفض الاستقلال غير الكامل وحدود الوطن البتراء، والدستور الذي لم يحمل صفة العقد بين الحاكم والمحكومين. وكرد فعل طبيعي يمكن أن نسجل أن هذه النخب الريفية تبنت من حيث لا تشعر الانتماء الإثني للخطابي ولجهته الجغرافية رمزا لها وشعارا. فكثر الجدل واللغط عن وحول الموضوع وتبادل التهم. وإذا كان المخزن يجادل من وراء حجاب سميك، لأن لديه وكلاء قبلوا أن يأكلوا بأفواههم ثومه، فإن الطرف الآخر أصبح يجد بعض عزائه في عمامة الخطابي وفي أخلاقه الوطنية، وفي شموخ مواقفه السياسية، وفي استنكار الظلم الذي وقع عليه في حياته وفي مماته، إنها ترجمة لوضع سياسي مغربي لم يعكس طموحات كل المغاربة، ولواقع اجتماعي مهترئ، ولبنية تحتية تشرعن العقاب الذي تعرض له الريف غير البعيد عن أوروبا إلا ببضعة كيلومترات!! سنة للخطابي لمساءلة الذات هذه كانت بعض المرتكزات والإحالات العامة لمسار علاقة المغاربة بأحد أهم رموزهم في الحركة الوطنية التحريرية المعاصرة. وعند حلول تاريخ 6 فبراير من سنة 2013 يكون قد انقضى نصف قرن من الزمن على وفاة هذا الرمز. وبالمناسبة بادرت مجموعة من الفاعلين والمثقفين المغاربة إلى تأسيس لجنة وطنية يمثل أعضاؤها جل جهات الوطن دون أن يكونوا ممثلين لأي حزب أو هيأة أخرى، ولا يسعون أن يستظلوا إلا بمظلة المغرب، وهم على استعداد لقبول يد العون من النساء والرجال المغاربة الذين يطوّق إكليل الغيرة الوطنية والإخلاقية أعناقهم إلى التفكير والعمل سويا من أجل إحياء هذه الذكرى تحت عنوان "2013 سنة الخطابي"، وبشعار "ماذا حققنا خلال الخمسين سنة، وماذا ينتظرنا أن ننجزه"؟ التصور الأولي لبرنامج سنة الخطابي والتصور الأولي للبرنامج العام لإحياء هذه السنة يتضمن ما يلي: إقامة معارض فنية متحركة داخل أهم المدن المغربية، وقد تشمل مدنا في الخارج حيث تقيم جاليات مغربية كبيرة من حيث العدد. عقد ندوات فكرية وثقافية تتناول مختلف القضايا الثقافية والسياسية والاقتصادية، وكذا التحولات التي شهدها المغرب منذ الاستقلال إقامة ندوات وملتقيات وطنية ودولية تخص الجانب التاريخي للمغرب المعاصر والراهن. إعادة طرح السؤال محددا على المغاربة جميعا إن كان بقاء رفات الأمير الخطابي منفية عن الوطن الذي ضحى من أجله يعد عدلا في منظور المغرب المستقل، أم تنكرا لتقاليد وفضائل الشعب المغربي في الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم. ويبقى السؤال ملحا أكثر عن دور المجتمع المدني المغربي والنخب التي تزعم أنها ما زالت وفية لقيّم المجتمع المعربي. إضافة إلى سؤال المتحف الذي طالما قدمت الوعود بشأنه دون أن يرى النور بدوره بسبب كثرة اللغط. ولا نتحدث عما سمي "متحف الريف" الذي لا يزال هو بدوره تائها في دواليب الجهات التي "بشرت" به مرات ومرات، ولكن يظهر أنها بشارة من جنس سمكة أبريل. وهنا ينبغي أن نشير إلى أنه بمجرد ما بدأ الحديث عن السنة الخطابية يتناقل هنا وهناك، قبل أن تقوم اللجنة الوطنية المنظمة لها بالإعلان عنها رسميا، حرصا منها على بعض الأخلاقيات والأدبيات التي لها علاقة بالموضوع، تناسلت الأقاويل إياها بلغة التوجس المعتادة والتشكيك في النوايا، والسؤال عن المحرك ومآربه من وراء ذلك؛ فكثر اللغط لإخفاء الغلط. ففي الوقت الذي قيل فيه إن حزبا، بعض قياداته من منطقة الريف، أصدر بيانا طالب فيه الدولة بالاحتفاء بالذكرى الخمسينية للخطابي وإعلان ذكرى أنوال عيدا وطنيا والعمل على استعادة الرفات، اختارت الدوائر الرسمية والحزبية الأخرى حوار الصمت مرة أخرى، أو التخاطب بالمرموز كالمعهود، إذ يبدو أن الوضوح ليس من تقاليدها على كل حال. في حين بدأ الذين تدربوا على أكل الثوم وتمرنوا على نشر روائحه يستعدون لتنفير المغاربة من السنة الخطابية. وإذ نترفع عن سرد كل الأمثلة المنفرة التي يلجأ إليها أكلة الثوم نعرض على القراء مثالا واحدا. فقد عنونت إحدى الجرائد اليومية خربشة لها عن الموضوع كما يلي "رفات الخطابي ومشاكل الطوارق والأكراد تخرج نشطاء الأمازيغية إلى شوارع الدارالبيضاء". فهل نحن بحاجة إلى قراءة تأويلية لمثل هذه العناوين، أو ضرب خط الرمل؟؟ نهيب بكل المغاربة الشرفاء، في داخل المغرب وفي خارجه، أن يجعلوا احترامهم لأبطالهم التاريخيين ورموزهم في التحرر الوطني، الذين انتصروا للحرية والعدالة والكرامة مبدءا أخلاقيا للمواطنة وسلوكا ثقافيا لرفعة الوطن؛ وطن جميع المغاربة من أقصى الحدود إلى أقصاها. نهيب بهم لإحياء هذه الذكرى بطرح أسئلة الحاضر والمستقبل، سعيا لنقل المغرب نقلة نوعية نحو المستقبل، لكي يستطيع أبناؤه أن يعيشوا عيشة كريمة، ويكونوا قادرين في الوقت نفسه على الانتصار على المعوقات التي جعلت المغرب يصنف في المراتب غير المشرفة للمغاربة في تقارير التنمية البشرية (رتبة 130 على 187 دولة) ومرتبة 115 من بين 156 في "تقرير السعادة العالمي"، وحرية الصحافة في رتبة 138 وفقا لتقرير "مراسلون بلا حدود"، وتخندقه في رتبة 80 من 182 في تقرير"الشفافية الدولية" ... ولا يسعنا في الختام إلا أن نرفع صوتنا عاليا: "كفى ... ثم كفى ... وكفى من تجديد اللغط لإخفاء الغلط، فمهما طال الليل فإن آخره صباح".