ينحدرُ السيد «الهاشمي الطّود» من مدينة «القصر الكبير»، هذه المدينة الصغيرة في حجمها، الكبيرة في عطائها. رحل إلى القاهرة سنة 1945، وعمرُه لم يتجاوز 15 سنة، طالبًا للعلم. "" وتشاءُ الصُّدَفُ أن ينزل «الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي» بالقاهرة في 30 مايو 1947، وكانت الحكومةُ المصرية قد جمعت كلَّ المغاربة غير المزكّين من قبل «القوى السياسية الوطنية» ووضعتهم في الاعتقال الموقّت تجنُّبًا لكُلّ حادث يمكن أن يتعرّض له الخطابي بتحريض من فرنسا أو إسبانيا. وكان من بين أولئك الشبان المعتقلين الطالب «الهاشمي الطّود». وحين علم الخطابي بعملية اعتقال المغاربة تدخل لإطلاق سراحهم بضمان شخصي منه. وعقب ذلك، تعرّف «الهاشمي الطّود» على «الأمير الخطابي»، فابتدأت المشرة الحقيقية للرجُل، فقد كان من بين قلّة قليلة من المغاربة الذين شاركوا في حرب فلسطين سنة 1948، بأمرٍ من الخطابي. وبعد العودة إلى القاهرة، دخل التكوين العسكري في مصر، ثم أتمّهُ في العراق مع مجموعة من الضباط المغاربة، قبل أن يُصبح مدرّبًا لنواة «جيش تحرير المغرب العربي»، وقد أطللق عليه الخطابي لقب «القائد الهاشمي». وهو رجلٌ معروف جدّا في أوساط المناضلين التونسيين والجزائريين بصفة خاصة. والتحق بالمغرب سنة 1960، وأُلحق بالجيش الملكي بدرجة قبطان. ويُعدُّ من بين حملة أسرار كثيرة عن النضال العسكري المشترك لأبناء المغرب الكبير، بقيادة «الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي». مع هذا الرجُل الذي تقاعد منذ سنوات بدرجة عقيد في الجيش الملكي، أجرى د. علي الإدريسي، الأستاذ الباحث بجامعة محمد الخامس بالرباط، حوارًا في مقر مجلة «الإنسان الجديد»، ننشره فيما يلي: د. علي الإدريسي : إذا كانت الشفرةُ التقنيةُ التكنولوجية يمكن حلُّها، فإن«شفْرة» الشعوب يصعبُ اكتشافُها، فلو كان الفرنسيون والإسبانيون قد علموا ما يمكن أن يخرُج من «الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي»، لقضوا عليه، ولو كان الرأسماليون يعلمون ما كان سيخرج من «كارل ماركس» لقضوا عليه... هذا السر ُّ يمتدُّ من جيل لجيل. فالسيد «الهاشمي الطّود» امتدادٌ لهذا السّر، لتعرف الأجيالُ اللاحقة المتعاقبة، أن هناك تواصُلاً بين الجذور والفروع، وبين التاريخ والحاضر والمستقبل، فأزمةُ أيّ إنسان في العالم، ونحنُ من هذا النّمط، تتمثل في أنّنا نموتُ عندما نفقد رجُلا مثل «الهاشمي الطّود»، لأنه شاهدٌ تاريخي، وضميرٌ حيّ مُتحرّك، وأُسْرتهُ ساهمت في بناء هذا التاريخ، فقدّمتْ شهداء وتضحيات، وهذا ما يجعلُ هذا الرجُل يفتخر ويتشبثُ بهذه المبادئ، لأن المبادئ العظيمة ، تحتاج لتضحيات عظيمة. د. علي الإدريسي : السيد الهاشمي، «الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي» أطلق عليك صفة «القائد الهاشمي»، ونحنُ نعتزّ بهذه الصفة لأننا نعلمُ أنه لا يطلق الكلام على عوانه. فباعتبارك قائداً، كيف تنظرُ اليوم إلى علاقتك مع الخطابي؟ العقيد الهاشمي الطّود : علاقتي مع «الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي»، علاقة جندي بسيط مع أستاذ عظيم، معهُ تعلمتُ قواعد القيادة، وكل علاقتي معه كانت تتمحور حول مصلحة هذا الوطن، وخدمة هذا الوطن، وخدمة الوطن العربي الكبير،ولم أكن وحدي، بل كان يشاركني مجموعة من الضُّباط، مثل «حمادي العزيز»،«حدُّو أَقْشِيش»،«عبد الحميد المشطي» الوجدي، «إبراهيم القاضي»، «شباظة التركي سعيد»، « يوسف العبيدي»... كُنّا عددًا كبيرًا من الشباب المتطوّعين، كلُّنا عاهدنا «الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي» من أجل تحرير هذا الوطن والمغرب العربي الكبير من الاستعمار. د. علي الإدريسي : متى وكيف ظهرت فكرةُ تكوين نواة لجيش تحرير المغرب العربي؟ العقيد الهاشمي الطّود : كانت الفكرةُ تختمرُ في أدمغتنا منذ مُدة طويلة، عندما كُنا ندرس التنظيمات العسكرية، ولكن لما تخرّجنا، اختاروني أنا و«حمادي العزيز»، ومجموعة من الضباط لبعض المهامّ، منها دخولُنا إلى شمال إفريقيا، للاتصال بالهيئات السياسية في جميع أقطاره، وفعلا دخلنا، وقُمنا بمُهمّتنا، ثم عُدنا إلي مصر، والتقينا بالأمير الخطابي، واتّفقنا على إنشاء هيئة تتكلفُ بشمال إفريقيا، فأطلقنا عليها اسم: «اللجنة المؤسسة لجيش تحرير المغرب العربي» بتاريخ 21 دجنبر 1952. وللحفاظ على السّرية، كان من اللازم أن يكون عددُ أعضاء اللجنة المسيّرة قليلاً جداً، كان الأمير الخطابي هو الرئيس، وأخوه «سيدي امحمد» النائب، و«عز الدين عزوز»، «امحمد إبراهيم القاضي»، «حدُّو أَقْشِيش»، «حمادي العزيز»، والعبدُ الضعيف، أعضاء اللجنة. د. علي الإدريسي : تتحدثُ عن تحرير المغرب العربي، لكن ألمْ تشعُر أن للخطابي نزعة عُنصرية أو جهوية أو ريفية، كما يزعمُ بعضُ خصومه السياسيين؟ العقيد الهاشمي الطّود :لا يقولُ هذا الكلام سوى من لم يعرفه، فلم يُشعرنا يوما أنه يحملُ هذه الروح، بل كانت روحُه كبيرة مُنفتحة وكريمة بلا حدود تعاملَ معنا بصدق، كُنا نحضُر اجتماعاته نحنُ أكثرُ مما كان يحضُرها أولادُه، كُنّا من مناطق مختلفة من المغرب الكبير، ولم نشعر أبدًا بأي تمييز بين هذا وذاك. وغيرُ هذا، ادّعاءٌ مجّاني أطلقهُ خصومُه الذين كانوا يفتقدون إلى الروح الوطنية الحقّة. وفي سنة 1952 تأسَّست النواة الأولى لجيش تحرير المغرب العربي، في حين حاولَ خصومُه بالتعاون مع الاحتلال الإسباني، إيهام الرأي العامّ المغربي أنّهم يُمثّلون الحركة الوطنية في المغرب، وأنشأوا ما سُمّي بجيش التحرير في مدينة تطوان سنة 1955. د. علي الإدريسي : ذكرتَ لي ذات مرة أنه لما نُفي محمد الخامس، دخل عليكم الأمير الخطابي غاضباً، قائلا: «لقد خطفُوا السلطان، ولو كان في المغرب عشرةُ رجال، ما استطاعوا فعلَ ذلك»، فكيف تُفسّرُ موقفَهُ هذا الذي كان مع الشرعية، وكانت عواطفُه مع محمد الخامس، لكن عند الإستقلال، هُمّش الأمير الخطابي و وأُلصقتْ به نعوت غير وطنية، وبدأ اضطهاد مُعاونيه، وكنتَ أنتَ أحدَ ضحايا ذلك الاضطهاد، كيف تُفسر هذا المآل؟ العقيد الهاشمي الطّود : بصريح العبارة، هذا العملُ مقصودٌ من طرف شرذمة سياسية، شرذمة من الناس لها مصالح، وبالطبع، تعملُ لإزاحة الخطابي بكل الوسائل. وبالتالي إزاحة المغاربة من نعمة الاستقلال، فقد حوّلُوا نعمة التضحية الوطنية إلى نقمة فئوية. د. علي الإدريسي : لماذا؟ هل يخافون منه؟ وهو لا يملكُ جيشاً، ولا يملك مالاً ولا حزباً، وهذا يقودُني إلي استفتاء قامت به «Jeune Afrique» في بداية سنة 2000 عن أهمّ شخصيات القرن العشرين في إفريقيا، وجاء الأمير الخطابي في الرتبة 6 من بين 17 شخصية إفريقية. في حين جاء الحسن الثاني في الرتبة 14 وبن بركة في المرتبة 15 أي لا يوجد شخصٌ في المغرب الكبير جاء في هذه المرتبة، سوى«بورقيبة» الذي كان الخامس، في نظرك لماذا غيرُ المغاربة يُصنّفُون الأمير الخطابي في مرتبة عالية، وأهلُه في المغرب يحاولون أن يُقزّمُوه، بل يُدخلوه في ثقافة النّسيان؟ العقيد الهاشمي الطّود : سأُعطيك مثلاً بسيطا، وقعَتْ لي حادثة مع أستاذ من سوس، سألني: «كيف كنتَ تتفاهمُ مع الأمير عبد الكريم الخطابي؟»، قلتُ: «ماذا تقصد؟»، قال: «بأية لهجة، وأية لغة كنتَ تتحدث مع الأمير الخطابي؟»، قلتُ: «كنّا نتحدثُ العربية». قال: «هل أنت متأكد؟»، قلتُ: «نعم، وليس معي فقط، بل تعاملَ مع مجموعة من الضباط، وفي مُعايشتنا اليومية، كنا نتحدث العربية». فقال لي: «قرأتُ 100كتاب باللغة الفرنسية عن «محمد بن عبد الكريم الخطابي»، ولم أجد له ورقةً بالعربية»... د. علي الإدريسي : لكن في السنتين الأخيرتين، صدرت أعمالٌ بالعربية تتحدثُ عن الخطابي من بينها كتاب «محمد الخامس وبن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب» للمؤرّخ زكي مبارك، وكتاب «محمد عبد الكريم الخطابي القائد الوطني» لعز الدين الخطابي، وكتاب بالفرنسية «الأمير المحارب» ل«ميمون الشرقي»، كما صدرت كُتيّبات أخرى، لكن مُقارنةً مع ما كتبه الفرنسيون والإسبانيون، فإن ما كُتب بالعربية كمٌّ ضعيف. إذن الخلاصة لهذا المحور، أنت ترى الخطابي قائداً وطنيا، ورمزا مغربيًا ومغاربياً، لننتقل الآن لهذا الرجُل من زاوية أخرى، فهو قد توفي سنة 1963 أي منذ 42 سنة وهو مدفونٌ في «مقبرة الشهداء» بالقاهرة، و في أواخر 2004 ، كانت هناك مُحاورات ونقاشات على مستوى الصحف، وخاصة بين «هيئة الإنصاف والمصالحة» والأُسْرة الخطابية بشأن إعادة رُفاة الأمير الخطابي إلى وطنه. على الرغم من أن «هيئة الإنصاف والمصالحة» هذه تنصّلتْ مؤخّرا من الموضوع بدعوى أنّ طرحَ هذا الموضوع كان فقط من باب الاستشارة وليس من باب التّفعيل. وللتّذكير، فإن أسرة الخطابي، و«مجموعة البحث محمد بن عبد الكرييم الخطابي» ارتأت أن عملية عودة رُفاة الخطابي ليست مُقدّمةً بل يجبُ أن تكون نتيجة لمجموعة من العمليات: أولُها: إعادة كتابة التاريخ، فلا يمكن أن يكون «الماريشال اليوطي» حاضرا في التاريخ المدرسي المغربي، بينما الأمير الخطابي مُغيّب. ثانياً :الاعتراف بدور أولئك المجاهدين الذين صنعوا تاريخ المغرب في العشرينات، وأعادوا اسم المغرب ليكون حاضراً في العالم. تالثا: المصالحة مع المنطقة التي قُمعَت من طرف الاستعمار، وهُمّشت وأُقصيت بعد الاستقلال. رابعا: يجب التعاملُ مع منطقة الريف التي انحدرَ منها الخطابي، كباقي المناطق المغربية في موضوع التّنمية والمواطَنة. فكيف تنطُرُ - السيد الهاشمي - إلى الموضوع؟ العقيد الهاشمي الطّود : هذه هي الشروط المعقولة لعودة رُفات الخطابي، ولا أعتقد أن أحداً سيرفُض هذه الشروط، اللهم إذا كانت له حسابات أخرى أو منطقٌ آخر لا يمتُّ بصلة إلى الوطنية المغربية. د. علي الإدريسي : ما رأيك في الذين يرفضون رفضًا نهائيًا عودة الرُّفات، ويُصرّحون أن إعادة الرُّفات لا هدفَ لها إلا تبييض وجه «المخزن»، لا أقل ولا أكثر؟ العقيد الهاشمي الطّود : هؤلاء، ليسوا مغاربة، لأن عودة الرفات مَطلبٌ جماعي، لأنه حقٌّ لكل المغاربة، والأمير الخطابي أولى بهذا الحقّ، لأنهُ ضحّى بالنّفس والنّفيس في سبيل هذا الوطن. د. علي الإدريسي : عندما طُرح موضوعُ إعادة الرُّفات، فإن الأحزاب السياسية، بدون استثناء، وكذلك الكثير من الصّحُف الوطنية وحتى المسمّاة بالمستقلّة، والمجتمع المدني والحقوقي، لم يتحدثوا عن الموضوع بما فيه الكفاية، أو بما لهذا الرجُل من حقّ على هذا الوطن، فهل كانوا ينتظرون التعليمات ليتحدثوا؟ أم أن المغرب حقًّا استطاع نشر ثقافة النّسيان؟ وأن المغاربة لم يعُودوا يتذكرون؟ أم أنها مؤامرة الصمت؟ العقيد الهاشمي الطّود : إذا فسّرنا هذا بأنهُ مؤامرةُ الصمت، فيمكن أن نُفسّرهُ كذلك بمؤامرة تخريب البنية المجتمعية، بتواطؤ القيادات السياسية الحزبية، هذه المؤامرة لا يفهمُها المواطنُ المغربي. د. علي الإدريسي : فلماذا سكت المجتمع الحقوقي ؟ العقيد الهاشمي الطّود : لأ ن القيادات السياسية هي الموجِّهة لهذا المجتمع، وهي التي تؤطّرهُ فكريًا وحزبيًا. وهي قد أكل الدهرُ عليها وشرب، ربما لديكم بصيصٌ من الأمل في الأحزاب، لكني شخصيًّا لا أرى بصيصًا ولا أومنُ بشعرة الحزبية في المغرب، بل الحزبيةُ يجب أن تتوقف، لتُبنَى أرضيةٌ جديدة، يجب أن تُمسح الطاولة، ويعاد مسح الطاولة، لإعادة خلق إنسان جديد، فقد دعوتُ سنة 1956 في مجلة فرنسية إلى مسح الحزبية بالمغرب، لكي نخلق فضاءًا جديدًا، وفي ندوة بوزارة الخارجية، قال لي أحدُ مسيري الندوة: «يا سيّد الطّود ابتعدْ عن الحزبية!»، فقلتُ له: «أنا جُندي ويُشرّفني أن أكون جندياً، أموتُ وأنا أدافع عن هذا الوطن، ولا يُشرّفُني أن أكون أكبر زعيم لأكبر حزب في هذا البلد».