قلائل هم قادة الدول الذين ارتبطت أسماؤهم بمعركة واحدة ضد بلد مجاور ثم خرجوا من الحياة السياسية بعد عمر قصير في السلطة، ولو أننا بحثنا عن شخصية يجتمع فيها هذان العنصران ما وجدنا أفضل من أول رئيس فعلي للجمهورية الجزائرية بعد استقلالها عن الاستعمار الفرنسي أحمد بن بلة، الذي رحل أول أمس بمقر إقامته في العاصمة الجزائرية، بعد حياة طويلة انقسمت أربعة أشطار، شطر في المنافي وشطر في السلطة وشطر في السجن وشطر في البيت. ولو أن سؤالا وجه إلى تلميذ في الثانوي أو طالب دكتوراه في التاريخ عن الشيء الوحيد الذي يرتبط به اسم بن بلة لأجابك على الفور: حرب الرمال. ذلك أن بن بلة أقام فترة قصيرة جدا على رأس الجمهورية الجزائرية، فقد وصل إلى السلطة عام 1962 وفي العام التالي اندلعت الحرب التي حملت ذلك الإسم مع المغرب، وفي العام الذي يليه ربما لم يجد الوقت الكافي لترتيب أوراقه الموزعة بين التفاوض مع المغرب والاحتراز من المناوئين له في الجيش، ولم يكد العام 1965 يغرب حتى كان الهواري بومدين ينفذ انقلابا عسكريا أطاح به من على رأس السلطة، لتنتهي الملحمة القصيرة لرجل جزائري حاول أن يجمع في قلبه ثلاثة أحلام دفعة واحدة، الاشتراكية والقومية العربية والتوسع الإقليمي على حساب دولة مجاورة. ولعل بن بلة يشبه كثيرا في ملحمته ملحمة محمد بوضياف، الذي ذهب من مدينة القنيطرة المغربية ومن حي"لافيلوط" إلى بلده الجزائر بعد غيبة طويلة تجاوزت ربع قرن في منفاه الاختياري بالمغرب لكي يلقى حتفه هناك على يد بعض أقطاب المؤسسة العسكرية عام 1992، بعد أشهر قليلة فقط من تنصيبه على رأس المجلس الأعلى للدولة. وقد لا يكون هناك أي وجه للشبه بين المسارين، ولكن التدقيق يدلنا على وجهين على الأقل، فكلاهما مكث مدة قصيرة في السلطة وتمت تنحيته، أسرا أو قتلا، على يد الجيش، وكلاهما كان يحمل مجموعة من الأحلام في قلب رجل واحد. ينتمي أحمد بن بلة حقيقة إلى حقبة من الزمن العربي كان يغطيها الكثير من الغيوم، لكنه مثله مثل آخرين كان يرى أن تلك الغيوم هي تباشير المطر وليست مجرد حجاب للرؤية. فنهاية الخمسينات وبداية الستينات هي مرحلة الأحلام القومية في العالم العربي التي يقودها قطار فائق السرعة لا يتم إيقافه في أي محطة عربية اسمه جمال عبد الناصر، وهي أيضا مرحلة مؤتمر باندونغ وحلم الاستقلال عن القطبين الاشتراكي والرأسمالي وإنشاء الطريق الثالث المستقل الذي يجمع الأفارقة بالآسيويين، تلك التي عبر عنها مفكر جزائري اسمه مالك بن نبي تحت اسم"فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ"، وهي أيضا وكذلك مرحلة النزعة الإفريقية المتعالية التي تريد تحويل القارة السمراء إلى فردوس أخضر بعد خروج الاستعمار، قارة كوامي نكروما وجومو كينياتا وموديبو كيتا وأحمد سيكوتورى وعبد الناصر، الذين كانوا يحلمون بقطب إفريقي قوي يمتد إلى آسيا لكنهم كانوا يخلطون أحلامهم بقمع المواطنين وفرض خيارات إيديولوجية معينة بالحديد والنار. ومنذ البداية وجد بن بلة نفسه في جلباب عبد الناصر ولم يستطع الخروج منه، فقد كان عبد الناصر النموذج العربي الوحيد الذي يُسمح بتقليده، لكن الحسن الثاني كانت لديه وجهة نظر أخرى جعلته يصطدم مباشرة بهذا النموذج، ومن خلاله حصل الاصطدام مع بن بلة كأول رئيس للجزائر المستقلة. كيف حصل الاصطدام؟. الرواية السائدة والتي تتكرر باستمرار هي أن فرنسا حاولت أن تفاوض الملك محمد الخامس حول رسم الحدود بين الجزائر والمغرب، لكن الملك الراحل رفض حتى لا يعتبر الجزائريون ذلك طعنة في ظهورهم، وأرجأ ذلك إلى ما بعد استقلال الجزائر. وبعد تشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة فرحات عباس وقعت هذه الأخيرة اتفاقا مع المغرب يقضي بإرجاع بعض الأراضي التي استولت عليها فرنسا إليه بعد الاستقلال، لكن بن بلة بعد توليه السلطة تنكر للاتفاق ورفض إرجاع أي أراض إلى المغرب بحجة أن تلك الأراضي"حررت بدماء الشهداء". لكن هذه الرواية لا تتحدث عن أسباب تراجع بن بلة، بيد أننا إذا ربطنا هذه الرواية برواية أخرى مزعومة رواها المصري محمد حسنين هيكل، مؤرخ حياة جمال عبد الناصر، حول حادث اختطاف الطائرة التي كانت تقل بن بلة واثنين آخرين معه من جبهة التحرير الجزائرية عام 1956 من طرف الفرنسيين يمكن الخروج باستنتاج معين. يزعم هيكل، في إحدى الحلقات التي كان يبثها عبر قناة"الجزيرة"القطرية، أن ولي العهد آنذاك الحسن الثاني كان وراء حادث الاختطاف، لأنه هو من سرب خبر نزول الطائرة في الرباط وموعد إقلاعها في اتجاه تونس. وما يهمنا في هذه الرواية أن هيكل هو صاحبها، وهذا معناه أنها كانت موجودة لدى عبد الناصر، لأنه لا معنى لأن يختلق هيكل رواية جديدة لتفسير حادث مضى إن لم تكن تلك الرواية نفسها قد أدت الدور المطلوب منها في وقتها، لذلك لا شك أن الخلاف الذي حصل بين الرجلين فيما بعد، الحسن الثاني وبن بلة، وأدى إلى"الصدام الحدودي" كما سماه الحسن الثاني في"ذاكرة ملك"، يجد أسبابه في هذا الحادث. لقد كان الرئيس المصري الأسبق عبد الناصر يسعى إلى استقطاب أي دولة عربية جديدة تحصل على استقلالها لكي يوسع نفوذه السياسي في العالم العربي، حتى لو أدى ذلك إلى الحرب وتقسيم الدولة كما حصل مع اليمن بعد استقلالها عام 1967 بسبب الصراع بين الملكيين والجمهوريين الذي أدى إلى مواجهة بين السعودية ومصر فوق الرقعة اليمنية، وهي الحرب التي كانت انعكاسا للحساسية القوية لدى عبد الناصر من الأنظمة الملكية. والراجح أن تلك الرواية كانت صناعة ناصرية لضرب أي تقارب بين المغرب والجزائر في ذلك الوقت، وما يزيد من تأكيد هذا الرجحان أن ولاء بن بلة لعبد الناصر كان ثابتا ومعروفا لدى الجميع إلى حد أن الكثيرين يتحدثون عن حالة من التتلمذ كانت قائمة بين الاثنين، بينما كان العداء بين الحسن الثاني وعبد الناصر ونزعة الاستقلالية للأول أمام الثاني ثابتا أيضا. ربما كان الرجلان معا، الحسن الثاني وبن بلة، ضحيتين لحلمين مختلفين، فقد كان بن بلة ضحية فكرة القومية العربية، التي أقنعته بأن القضية ليست إعادة أرض مفترضة لبلد آخر بقدر ما هي بناء الدولة العربية الواحدة، بينما كان الحسن الثاني ضحية الإيمان بجوار مغاربي يمكن أن يصل إلى حد إقدام بلد على رد أراض لبلد آخر سلما بدون حرب، مع أن هذا لم يحصل أبدا في العالم العربي ولم ترد دولة عربية أرضا لدولة عربية أخرى حتى تفعل الجزائر ذلك مع المغرب، لأن حل النزاعات الحدودية العربية ما زال يحسم بالسيف. غير أن بن بلة لم يمنح وقتا كافيا في السلطة لكي تتم معرفة تطورات مواقفه السياسية التي يمكن أن تطرأ على نظامه فيما بعد، فقد كان مروره في الحكم خاطفا، وانتهى سريعا تاركا وراءه الكثير من الأقوال والقليل من البصمات في الحياة السياسية الجزائرية، لكن دوره في حرب الرمال ضد المغرب عام 1963 كان كافيا وحده ليجعل منه الشخص الذي قام بالعمل الذي يسجله له التاريخ كأول مبادرة من نوعها تحرف المسار الذي كان يمكن أن تسير فيه العلاقات بين المغرب والجزائر.