يبدو أن من ثمرات "الربيع العربي" انزواء "الدولة" و العودة إلى وظائفها الأساسية، والعمل على تنفيذ بنود العقد (الدستور) "الموقع" بينها وبين الشعب، لتنأى بنفسها عن "الصراعات" والتدافعات بين تيارات المجتمع ومكوناته، والتي كانت تستغل الشرخ بينها على المستوى الفكري والإيديولوجي لمصالحها، وبقائها، واستقوائها... لقد كانت الدولة وأجهزتها المركزية والمجالية في المغرب مكونا أساسيا في الصراع طيلة المراحل السابقة، وكانت تنصب نفسها مدافعا عن طروحات "الفردانية" ومكونات منظمات حقوق الانسان المخترقة من قبل اليسار، ومن يطلقون على أنفسهم "الحداثيين" في مواجهة الصعود الإسلامي، أو تصطف (أي الدولة) إلى جانب هذه المنظمات والتيارات التغريبية، بسماحها للوبيات اقتصادية بعينها باستغلال دعوات "الحريات الفردية" لزيادة نشاطها الاقتصادي المرتبط بالخمور وغيرها...، ومواجهتها للتيارات المحافظة، بمبررات تمتح من منظومة "حقوق الانسان" أيضا، وهو ما تشهد عليه محطات كثيرة من هذا "الصراع" اشتد مع دعم الدولة لما صار يعرف ب"خطة إدماج المرأة في التنمية"، واشتداد ما يسمى "الحرب على الارهاب"، وكان الدعم يتخذ أوجه عديدة، مادية وإعلامية وسياسية ... لكن وما أن بدأت الدولة بأجهزتها "تنسحب"-ولو جزئيا/ وتكتيكيا- من دوائر "الصراع" هاته، بنهج جديد في "اقتسام" السلطة مع الإسلاميين، وتتقهقر إلى دائرة وظائفها الطبيعية، كدولة ترعى الحقوق والحريات المتعاقد بشأنها، فقد فسحت المجال لتدافع مجتمعي قوي بدأت تجلياته تظهر في العديد من المدن المغربية، يمكن أن تساهم فيه المؤشرات التالية: • إقرار الدستور الجديد لسنة 2011، الذي أقر مجموعة من الحقوق والحريات، وقام بتوسيع هامشها، ما سيفسح المجال أمام جدالات عقيمة على مستوى تأويل بعض بنوده وأجرأتها، خصوصا تلك المتعلقة بالحقوق والحريات العامة والفردية... • إطلاق سراح جزء من شيوخ التيار السلفي، وبالتحديد من كانوا يعدون منظرين أسياسيين لهذا التيار، وبدء مراعات جوهرية في آليات الاشتغال، وطرق التنظيم، ذهبت حد الحديث عن حزب سياسي. • استمرار الحراك الشعبي والنفس الاحتجاجي، الذي تقوده وتؤطره تيارات يسارية وعلمانية، معروفة بدخولها في صدامات حقوقية مع الحركات الإسلامية حول الحريات الفردية، وتصورها لحقوق المرأة وحقوق الانسان عموما... فهل تتجه المكونات الآنفة الذكر، وإن تباينت تنظيماتها، وأهدافها السياسية، وتجدرها الاجتماعي، (هل تتجه) نحو تقاطب وتمايز بين تيارين كبيرين، تيار إسلامي يجمع مكونات الحركات الإسلامية بما فيها التيار السلفي، بعد مراجعة هذا الأخير لآليات التدافع، وتتجاوز الخلاف حول "أنماط التدين"، مسنودا (أي التيار الإسلامي) بصحوة دينية كبرى في المجتمع المغربي، وفي ظل دينامية متسارعة للحقل الديني وتفاعلاته مع مختلف الحقول المجتمعية. وتيار علماني / يساري، بدا واضحا أنه يعرف تحولات جوهرية على مستوى الخطاب والممارسة، ويمكن أن يتقاطب في هذه الدائرة، المكونات الحقوقية اليسارية وأحزاب اليسار بمختلف تلويناتها، باعتبارها لا تختلف في جوهر "الصراع"، إضافة إلى مكونات الحركة الأمازيغية المتشبعة بالأفكار اليسارية...؟ فأهم نقطتين مفصليتين شكلتا تحولا بارزا في التدافع القيمي والهوياتي في المغرب تتمثل الأولى في متغيرات خطاب الهيآت الحقوقية والجمعيات النسائية والحركات اليسارية، من المطالبة بمطابقة مجموعة من القوانين الوطنية مع الاتفاقات الدولية، إلى المطالبة الصريحة بعلو وسمو القوانين والإتفاقيات الدولية على الوطنية، وهو ما تعتبره الحركات الإسلامية خطا أحمر يجاوز المقتضيات الدستورية القائمة على ثوابت أساسية على رأسها إسلامية الدولة، ومن ناحية ثانية يعتبر خروج شيوخ السلفية ودعواهم إلى تشكيل حزب سياسي نقطة تحول أخرى في القطب المضاد... ويبقى السؤال الثاني حول طبيعة الآليات والأدوات، إن صح التعبير، التي سيتسلح بها التدافع القيمي والهوياتي بالمغرب، وما إن كانت هذه الآليات والأدوات ستخضع لمتغيرات ما بعد عشرين فبراير، فإذا كان التيار اليساري/ والعلماني، تسلح ويتسلح بالورقة الحقوقية، وخطاب الحريات الفردية والعامة، كوسائل ضغط في التدافع القيمي والهوياتي، ولجأ في كثير من الحالات الى الاستقواء بالخارج وبالهيآت الأممية على وجه التحديد، وإذا كان التيار الإسلامي ظل يتسلح بثوابت الأمة كمرجع أساسي وكسند عليه نوع من الإجماع لدى شرائح واسعة من المجتمع، والتقاء هذا المعطى بأسس النظام الشرعية، فإن سؤال تغير الآليات يطرح نفسه بقوة داخل هذه التنظيمات، إما في تعزيز الأوراق التي يستند إليها كل طرف في التدافع أو في توسيعها لتطال أوراق جديدة، أو تغيير في الوسائل فقط... ينكب كل طرف من أطراف التدافع القيمي والهوياتي في المغرب، بوعي أو بدونه، على دراسة الطرف الآخر، فالتجاهل الذي كان عنوانا بارزا خلال فترات سابقة، أصبح عائقا أمام "تقوية" آليات "المواجهة"... إن لجوء مكونات من المجتمع المدني، مسنودة بحركة شعبية كبرى، إلى الاحتجاج في الشارع على الدعارة وانتشار الخمور... يعد تحولا كبيرا في التدافع القيمي والهوياتي، باعتباره يشهد تناميا ملحوظا بعد الحراك الشعبي لما بعد العشرين من فبراير ، وبداية النقاش لدى الاطراف العلمانية على "حرية المعتقد" و"ضرورة تضمينه في الدستور" تحول آخر يجعل النقاش يتجاوز الظواهر (الشذوذ، الخمور، افطار رمضان،...) إلى محاولة خلخلة الثوابت على مستوى الدستور والقانون... هي كلها تحولات كبرى تدفع إلى الجزم بأن الصراع القيمي والهوياتي مرشح للاحتدام والاشتداد. [email protected]