تعتبر الإدارة العمومية اليوم أحد الركائز الأساسية والمحورية في تنمية الاقتصاد الوطني، وإحدى أهم اللبنات في بناء مغرب الغد ومغرب المستقبل، ودولة الحق والقانون، وفي إنجاح النموذج التنموي المرتقب الذي يراهن عليه الجميع، من مؤسسة ملكية، حكومة، برلمان، فاعلين مجتمعيين، ومواطنين. إن ورش إصلاح الإدارة العمومية كان دائما أولية في العديد من الخطب الملكية، وأيضا في مجموعة من الأوراش التي يعتبر أهمها ورش اللاتركيز الإداري، وتعزيز وإصلاح الإدارة العمومية عن طريق إدراج التكنولوجيات الحديثة والرقمنة، من أجل تجويد عملها وتكريسها لمفهوم إدارة القرب والإدارة الخدومة. فكما يعرف الجميع، فقد أبانت جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" عن مجموعة من الاختلالات البنيوية داخل إداراتنا العمومية، ودقت ناقوس الخطر من أجل التعجيل بتحسين مستوى تعاملاتها، والتحول السريع نحو كل ما هو رقمي، وتجاوز كل ما هو معاملات ورقية متجاوزة، من أجل الحفاظ على حياة المواطن التي تعتبر من الأولويات في تعامل الإدارات اليوم مع المرتفقين. فكيف ساهم إذن كل من ورش اللاتركيز الإداري ورقمنة الإدارة وتبسيط المساطر الإدارية في تجويد وإصلاح إداراتنا العمومية؟ وكيف السبيل لتجاوز المعيقات الإدارية التي عرت عنها الجائحة من أجل لعب هذه الوحدات الإدارية للدور التنموي المنوط بها، ومساعدة الدولة على تجاوز آثار الأزمة اقتصاديا واجتماعيا؟ أولا: ورش اللاتركيز الإداري ورقمنة الإدارة وتبسيط المساطر كسبيل لإصلاح الإدارة العمومية مما لا شك فيه أن ورش اللاتركيز الإداري الذي أكد عليه رئيس الدولة في مجموعة من الخطب الملكية، لا سيما التوجيهات الملكية التي كان آخرها الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الأولى حول الجهوية المتقدمة يوم الجمعة 20 دجنبر 2019 بأكادير، التي جاء فيها: "ومن هذا المنطلق، حرصنا في الآونة الأخيرة على أن تعتمد حكومة جلالتنا ميثاق اللاتمركز الإداري، وتعمل على تفعيله على المستوى الجهوي، إدراكا منا بأن اللاتمركز الإداري سند لا مناص منه لإنجاح ورش الجهوية المتقدمة"، فهذا الميثاق يعتبر أحد الأضلع الرئيسية في إنجاح الجهوية المتقدمة، وفي تكريس الطابع اللامتمركز في اتخاذ القرارات، وأيضا ورشا أساسيا من أجل إصلاح إداراتنا العمومية، الأمر الذي انكبت على إعداده الحكومة من أجل إخراجه في حلة تلامس المستويات المجالية والاقتصادية والإدارية، وهو ما تم بالفعل "نهاية سنة 2018" من خلال إخراج هذا الورش إلى حيز الوجود بطابع ونصوص كل ما يمكن أن يقال عنها إنها حاولت الانضباط لكل النقط الرئيسية التي جاءت في الخطب الملكية، خصوصا خطاب الذكرى 20 لعيد العرش الذي جاء فيه: "وفي انتظار ذلك، فإن العمل يجب أن يتواصل بمزيد من الالتزام والمسؤولية في تدبير الشأن العام، والتجاوب مع انشغالات المواطنين. وينبغي التركيز على الخصوص على الرفع من مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية، ومن أداء المرافق العمومية. وبموازاة ذلك، ندعو الحكومة للشروع في إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عمادا للنموذج التنموي في صيغته الجديدة"، حيث تمت المصادقة ونشر ميثاق اللاتمركز الإداري في هذا الإطار بالجريدة الرسمية، في انتظار التفعيل الجدي والفعال لهذا الميثاق الذي يترجم رغبة المؤسسة الملكية، والفاعل الحكومي، والمؤسسة التشريعية في تجاوز المعيقات الإدارية وتكريس طابع خدماتي ذي جودة للمواطن على وجه الخصوص. وحتى لا ننسى في هذا الإطار، فالحديث عن ميثاق للاتمركز الإداري يجرنا مباشرة للحديث عن تبسيط المساطر الإدارية حتى نفتح بذلك بابا جديدا أمام المستثمرين الذين يصطدمون بحاجز تعقيد المساطر الإدارية، وذلك بالتوجه نحو رقمنة المعاملات الإدارية، ويقصد ب"تبسيط المساطر الإدارية" مجموع الإجراءات العملية التي من شأنها تطوير العلاقة بين الإدارة والمرتفقين والمستثمرين. ويتعلق الأمر على الخصوص ب: - وضع جرد شامل للمساطر الإدارية والإجراءات الإدارية؛ - تدوين المساطر ودراستها من خلال مراجعة مكونات المسطرة؛ أي الوثائق المطلوبة، المتدخلين في المسطرة، تحديد المصالح المعنية فيما يخص إيداع الطلب أو الوثائق، وتسلم الخدمة، رسوم المسطرة والآجال المعقولة للحصول على الخدمة، والسند القانوني للمسطرة، وأخيرا ملاءمة المساطر مع السند القانوني المحدث لها؛ - وضع المساطر ضمن سجل مركزي يمكن المرتفقين من الولوج إليها والتعرف على مجمل الإجراءات المرتبطة بالحصول على الخدمات العمومية. هذا التوجه نحو تبسيط المساطر الإدارية كرسته بالفعل كمثال على ذلك وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة منذ سنة 2007، وذلك عن طريق إدخال البرامج الرقمية والمعاملات الإلكترونية في معاملاتها الإدارية اليومية، الأمر الذي نجده بالإدارة الجمركية التي أدرجت مجموعة من التطبيقات المهمة، كنظام "بدر" للتعشير الجمركي، ونظام "عادل" للمساعدة على التخليص الجمركي للبضائع عند الاستيراد، بالإضافة إلى تطبيقين تم تفعيلهما مؤخرا هما "ديوانتي" و"بين ليا". وكذلك، ما تم تطبيقه بالمديرية العامة للضرائب من طرق خدمات "Simple-Service"، حيث تم تطبيق "Simple-TVA" سنة 2009، و"Simple-IS" سنة 2011، و"Simple-IR" سنة 2013. المحور الثاني: آثار جائحة كورونا على الإدارة العمومية وعلى علاقة المواطن بالإدارة إن الحديث عن جائحة كورونا يجرنا للحديث عن أول حالة إصابة بالمغرب بتاريخ 02 مارس 2020، حيث حاول المغرب الإحاطة بهذا الفيروس عن طريق مجموعة من الإجراءات، كان أهمها الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية بواسطة مرسوم يوم 20 مارس 2020، والحجر الصحي الذي دام قرابة الشهرين، الأمر الذي حدا بالإدارات العمومية هي أيضا إلى التوجه نحو العمل عن بعد، وعن طريق المعاملات الإلكترونية والرقمية في علاقتها بالمرتفق/المواطن. فجائحة فيروس كورونا، كما سبق وذكرنا في بداية هذا المقال، عرت عن مجموعة من النقط السلبية بإداراتنا العمومية التي يمكن إجمالها فيما يلي: - ضعف البنية التحتية الإلكترونية؛ - ضعف تكوين العنصر البشري في مجال التكنولوجيات الرقمية الحديثة؛ - ضعف صبيب الأنترنيت؛ - عدم وجود بنيات إدارية خاصة بكل ما هو رقمي، خصوصا بإداراتنا الترابية. كل هذه النقط لا تنقص بدون أدنى شك من مجموعة من الإجراءات التي قامت بها على سبيل المثال وزارة الاقتصاد والمالية من أجل تجاوز آثار أزمة كوفيد-19، وذلك عن طريق ما يلي: - تأجيل الأداءات إلى ما بعد نهاية الحجر الصحي؛ - تبسيط الأداء بالنسبة للضريبة على القيمة المضافة وجعله عن طريق الهاتف النقال. هذه فقط بعض الإجراءات إلى جانب أخرى قامت بها وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي بجعل التعليم بشتى الأسلاك "عن بعد"، والإعلان عن كون توقيف الدراسة لا يعني بالأساس "عطلة استثنائية"، وإنما هو استمرار للتحصيل الدراسي بكيفية رقمية. هذه الإجراءات بطبيعة الحال تكرس للطابع الرقمي الحديث الذي يجب أن يكون بإداراتنا العمومية من أجل تجاوز مختلف المعيقات التي أبرزتها جائحة كورونا، وحتى يتسنى لهذه الوحدات الإدارية لعب دورها بجانب الدولة والفاعلين الترابيين والمدنيين والمواطنين في إنعاش وإعادة دوران الاقتصاد الوطني. لقد حاولنا من خلال هذا المقال التطرق لمجموعة من النقط والأوراش التي باشرتها المملكة من أجل إصلاح الإدارة العمومية المغربية، وتجاوز معيقات تعقد المساطر والخدمة العمومية المبنية على الورق، والانتقال إلى كل ما هو تدبير إداري لا تمركزي مبني على التكنولوجيات الحديثة والرقمنة وتبسيط المساطر، وعلى الحكامة الجيدة التي جاءت في خطاب الملك بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الأولى من السنة الخامسة من الولاية العاشرة. كل هذه الأمور لا شك أنها ستشكل حلقة رئيسية في إصلاح إداراتنا العمومية، وستكرس لإدارة خدومة لكل من الإداري والمرتفق على وجه السواء، وسنتجاوز بموجبها هذه الأزمة التي خلفها وسيخلفها وباء كورونا على شتى المستويات والأصعدة. *باحث في المجال الإداري والمالي