رواية :لا تكفر بوطنك (1 ) "" الخيال عسل ننغمس فيه والواقع علقم نغرق فيه ... هذا هو حالنا منالأندلس إلى العراق وما بينهما ... و" لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " . (2) الفصل الأول : استغفر ربك ... في كبد الليل استنثرت الصدور حمم الزفرات والآهات ، والأنين والعويل ... وتلاحمت الأنياب الضالة تحت أضواء باهتة لفها دخان أسود قذفت به مدافع الشياطين فجرفت التربة ورد مت الأخضر واليابس. رياح عاتية هبت مزمجرة فوق قمة الجبل لامست لفحاتها الباردة أحياء ترقد في حضنه تحت ركام المتناقضات ... أجساد ملوثة افترشت العتبات والتحفت بجرائد أصابها الجدام من كثرة نفاقها ، بطونها انتفخت ببركة الصيام المؤبد وعقولها غطت في نوم عميق ... وأخرى شحيحة انتشت بأحلام عسلية إغتصبتها بإصرار وترصد . بين مطرقة الإغتصاب وسندان التسول والإجرام أجساد غرقت حتىالنخاع في جوف الأرق المرتجترعلى ضفتي الليل والنهار أحلاما لاتنتهي . الرياح عزفت على أوتار الشبابيك ألحانا حزينة رثتها وأد نومها في الأرحام ، حبات المطر العنيف نقرت زجاج النوافذ ، نسائم البرد تسللت بين شقوقها ولامست رأسه المتكيء على وسادة تفوح منها رائحة موسمية وقد تكوم تحت لحاف قتلت السنون دفأه ... كان ينظر للشاشة بعيون شبه نائمة تداعبها كوابيس اليأس المزمن ، ينتقل من محطة لأخرى في توتر حاد ... لا جديد يبشر بإندثار البؤس المديد ويرسم على شفتيه بسمة فقدها منذ أن أسقطه المخاض إلا جديد الإغتصاب والنهب والتسول والنفاق بأصوات ألفها وإن إختلفت صورها ... تنهد في حرقة ، إبتلع مرارة يأسه الأليف ، ظغط بعنف على زر التلفاز، أطفأ المصباح الحزين ... بقيت الأجساد الصغيرة نائمة في أحضان أحلام بريئة تدفئها أنفاس أم تكابد بإبرها لتحقيق أمانيا مشروعة ... جر هيكله المثقل بأكوام الآهات إلى غرفته يلوك زفرات حارقة تقذفها أحشاء مزقتها مخالب مصاصي الدماء ، أغلق الباب بهدوء ... فتح نصف النافذة لستنشق الغرفة نسائم الهواء البارد وتلفظ الروائح العفنة ... حبات المطر تتكسر على زجاج النافذة وتتطاير ذراتها بين ضلوع الغرفة ...أدلى برأسه إلى الشباك ، غسل الدرب بنظرات خاطفة ... سيول جارفة تقذف بها السماء بسخاء لم يعهده منذ زمن بعيد ، وأمواج أثقلتها العفونة البشرية تتلاطم بين ضفتي الشارع الطويل تغسل وجه الأزقة والدروب من نتانة القمامة وأسراب الذباب والباعوض ... بقي متسمر بين الدفتين الزجاجيتين وقطرات الماء تنزل من رموشه وشواربه ، يتأمل كرم السماء بإنبهار وقد علت محياه المبلل فرحة طفولية ورسمت على شفتيه ابتسامة وردية أزاحت عن قلبه فرشة اليأس اللعين وسرت في عروقه رعشة الأمل المباغث ... مفرقعات الغيث انفجرت خيرا على وجه الأرض الميتة وارتوت عروق التربة المباركة وانتعشت شرايين الحياة ... أمطار طالما إنتظرها العباد والبهيمة والنبات بعدما هاجرت سماء تلوثت بردة معلنة وغضبت على أرض إكتضت بعقول منافقة وقلوب ميتة تفترس صغارها دون رحمة وتنام في عسل الكبائر تتبادل نخب الذل والعار ... غاص في أرشيفه ينبش في ذكريات الطبيعة... - مللنا الأمطار، يا أبي ، وإشتقنا لأشعة الشمس التي لم تطلع علينا منذ عشرين يوما... قال لوالده والتنور يتوسط الغرفة يبعث في أركانها دفأه حيث انكمش كل أفراد الأسرة جماعة تحت غطاء صوفي وقد أغلقت كل منافذ البيت الطيني وانقطعت أواصر الإتصال بين البيوتات المتناثرة على رقعة القرية بعدما اكتسحها الظلام المخيف ، وضوء القنديل الخافت يوحي بنبضات الحياة... - استحيي يا ولدي ، هذا أمر الله فلا اعتراض على قضائه ... عشرون يوما خمس موسم الأمطار وما زلنا في بدايته ، هذا شيء ألفناه يا إبني ... فاستغفر ربك... - أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ، يا أبي... - إنه موسم الشتاء ، الناس أعدوا له الطعام والحطب والأعلاف لمدة لا تقل عن أربعة أشهر... قد تغيب الشمس لأسابيع طويلة ولا يتوقف المطر لأيام وليالي متوالية ... حتى تنبع المياه من الجدران والصخور وتدمع السقوف ماء زلالا ، والأعشاب تنبت في أركان البيوت ... فيعم الخير البلاد والعباد ، يا حبيبي ... السنوات العجاف التي يشرب كؤوس مرارتها حولت الحقيقة إلى أسطورة يحكيها الكهول للشباب والصغار... أفل الخير وأقبل الشر... غابت الملائكة وكثرت الشياطين في هذا الزمن العاهر ... وسط سوق غلاز رست شاحنتين محملتين بأكياس الدقيق أحاط بهما القائد بزيه العسكري ومعه المخازنيا وشيوخ القبيلة ... الناس كثيرون إناثا وذكورا شيبا وشبابا وقفوا في صفوف متراصة وصمت رهيب ، والموت البطيء يخلخل أعضاءهم أحاطت بهم هراوات القائد التي لا ترحم الجائعين ... أحد مساعديه انتصب في كبرياء على حافة باب الشاحنة الأولى وبين يديه لائحة طويلة ينادي أسماءها بفضاضة ... - محمد بن عبد السلام ... - حاضر، سيدي، - اليعقوبي أحمد ... - حاضر، سيدي، -عبد السليمو بن احميدو ... - حاضر ، سيدي ، - خدوج بنت ادريس ... - حاضرة ، سيدي ، - .... ، ... كل من تشرف بثقة القائد على ضمانة الشيخ يتقدم إلى الشاحنة وينقض على كيس الدقيق وعلبة الخميرة بعد ما يكون قد أدلى لصاحب اللائحة بوصل الأداء ، ويغادر المكان تحت غمزات الهراوات والعودة لن تكون قبل أسبوعين حسب التعليمات ... عدد أفراد الأسرة لا اعتبار له في التوزيع ، صاحب فردين مثله صاحب عشرة ... تقدم محمد غاوغاو وأخوه علي يستعطفان القائد بعدما نادت اللائحة عليهما ... - سيدي القائد ، والدتنا توفيت الليلة ونحتاج لأربعة أكياس لنقوم بواجب الدفن ... ، ... همس القائد في أذن الشيخ الذي همس في أذن أحد أعوانه الذي غاب في الزحام ... عاد بعد لحظات بسرعة السهم يشق الصفوف المتراصة ليهمس للشيخ الذي نفى الأمر بحركة رأسية للقائد ، فالتفت هذا للحاضرين بصوت مرتفع ... - هذان الرجلان إدعيا موت والدتهما ليحصلا على أكثر من نصيبيهما ، لهذا سأحرمهما منه مرتين ... نكس الرجلان الطويلان القامة رأسيهما في إستحياء وخجل وانصرفا وسط الزحام تحت تهديدات الهراوات ونظرات الشماتة واللامبالاة الجيران مستشعران ألما في منتصف صدريهما ... لفحات البرد القارس حدت من شروده ، ألقى بأعقاب سجارته إلى الدرب عبر الشباك واندس تحت بطانيات إنسلت خيوطها وبهتت ألوانها على سرير خشبي متهالك يتمايل عند كل حركة محشور بين خزانة خشبية قديمة تضم ملابسا مهلهلة ، وأخرى صغيرة تحفظ بين جنباتها كتبا ومجلات فقدت طعمها ، وأشياء أخرى . وضع رأسه على وسادة متحجرة بأحلام محنطة قد يعظمها أقزام التاريخ كما يعظمون غرق الفردوس المفقود في كؤوس فاضت على جنبات أيامنا وليالينا الفاجرة اخترقت عيناه الشباك وارتمتا في حضن السماء ... تذرع إلى ربه بأن يعفوعن عباده ويبيد أسراب الباعوض الذي يمتص دماء الوجوه المجعدة ليعيش متخما ، فاضت جفونه بدموع التخشع ... قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات ، إستغفر ربه سبع مرات ، قرأ المعودتين ثلاث مرات ، حمد ربه سبع مرات ... تقلب على جنبيه وعلى ظهره وبطنه كمن أصابه مغص شديد ، تمرغ في غبار الأرق المقيت كما تتمرغ الحمامة الجريحة في بركة دمائها... استوى في جلسته ولعن إبليس سبع مرات ، ركن جمجمته بعنف على مؤخرة السرير وصريره يجلجل على طبلتي أذنيه ... إغرورقت عيناه ... - آه يا ربي ... لو يبعثوا لي تعويضات تلك الترقية الملعونة التي تأخرت لسنوات ... اليتيم يبكي والزمن الرديء يخنق أنفاسه ... سأشتري ليوسف دراجة هوائية وبذلة رياضية كما وعدته عند نجاحه في الصف السادس ، وأشتري لزينب حاسوبا كذاك الذي رأته عند الجيران وأوضب أسنانها التي أفسدت جمالها البابيلي ، وأبعث عتابا للمخيم الذي تحلم به على امتداد ليالي السنة ، وأشتري لغيتة دراجة صغيرة ، ولكنزة لعبا تشغلها عن المطبخ ... أشتري لأمهم آلة الغسيل وجلباب المليفة ... لكن ...ولما لا أشتري شقة صغيرة تقينا شر الكراء وتثبت وجودنا بين الخلق ..؟ ..إيه يادنيا ... رواتب تنتفخ في كل المناسبات دون ضجيج ومكافآت سخية بلا رقيب لعقول لا تفقه غير حرف السين ، وبطون منتفخة بأحلام البؤساء امتصوها من صناديق البلاد والعباد ، وأنا قابع بالمطبخ ألوك فاتورة المكتبة التي قعرت ظهور أطفالنا بمؤامرات دستها المقررات المدرسية وعقلية أطر لا إطار لها ، وفاتورة البقال المتحايلة بشهوات رمضانية ... أحمل فقري وأطوف به بين مطرقة الماء والكهرباء وطلبات المدرسين اللا منتهية وسندان الطماطم ولفيف القطاني التي تتسلق سلم الأسماك واللحوم المطلة علينا من أبراجها العاجية ... ست سنوات من العهد الجديد وما زلنا ننام على الخبز الحافي ونستيقض على شقيقه اليابس يراوضنا الحنين إلى العهد القديم بظلامه الدامس ... انتهى الفصل الأول من راوية "لا تكفر بوطنك" لمحمد المودني يتبع...