يستمد النقاش حول إصلاح القانون التنظيمي للمالية أهميته البالغة من الدور الحيوي للميزانية العامة للدولة و قانون المالية في تصريف السياسة الحكومية في كل المجالات الاقتصادية و الاجتماعية...فالميزانية بشكل عام، تعد أهم أداة بيد الحكومة لبلوغ أهدافها التنموية، و هي بذلك تشكل ترجمة وفية لتوجهاتها، بحيث تعكس السياسة الاقتصادية و الاجتماعية المنتهجة، الأولويات المقررة من خلال الاعتمادات المرصودة، بالاظافة للمجهود المالي للدولة في تدبير الشأن العام وتنفيذ السياسات القطاعية. في هذا الصدد، تنص المادة الأولى من القانون التنظيمي لقانون للمالية لسنة 1998 على أن "قانون المالية يتوقع لكل سنة مالية مجموع موارد وتكاليف الدولة، و يقيمها و ينص عليها، و يأذن بها ضمن توازن اقتصادي ومالي يحدده القانون المذكور". لميزانية الدولة ثلاثة أبعاد أساسية، تتوزع بين المالي و الاقتصادي و الاجتماعية. من جهة أولى، يتعلق الأمر بضمان التدبير الأمثل للموارد المالية المحدودة بطبيعتها، من أجل تحقيق أهداف السياسة الحكومية عبر توزيع ناجع للاعتمادات المالية، وفق سلم أولويات محددة مسبقا. تتوخى الميزانية ثانيا، تحقيق أهداف ماكرو اقتصادية تتعلق بتحسين المؤشرات العامة للاقتصاد الوطني، عبر تشجيع خلق الثروات و بالتالي الرفع من نسب النمو المحققة، و ضمان استدامتها في الزمان، في تلازم و ترابط بين الاختيارات الآنية و تلك المهيكلة البعيدة المدى. و في الأخير، تتكفل الميزانية كذلك بتوزيع الثروات الوطنية وفق نسق يضمن الإنصاف، و السعي للتقليص من حجم الفوارق الاجتماعية و المجالية، و حتى تلك المرتبطة بالنوع الاجتماعي. الأهداف الثلاثة إذن تبقى مترابطة فيما بينها بالنظر لكون تحقيق بعد من الأبعاد الثلاثة، يستوجب في الآن ذاته الأخذ بعين الاعتبار إمكانيات و حدود تحقيق الأبعاد الأخرى، مما يطرح ضرورة التحكيم و القيام باختيارات تبقى أولا و أخيرا ذات طبيعة سياسية . يؤطر الميزانية نصان أساسيان، هما دستور المملكة و القانون التنظيمي للمالية. في هذا الإطار، ينص الفصل 75 من دستور فاتح يوليوز 2011 على أن » يصدر قانون المالية، الذي يودع بالأسبقية لدى مجلس النواب، بالتصويت من قبل البرلمان، وذلك طبق الشروط المنصوص عليها في قانون تنظيمي«. من جهة أخرى، أكد الدستور الجديد في الفصل 77 و بشكل صريح هذه المرة، على المسؤولية المشتركة للبرلمان و الحكومة في السهر على »... الحفاظ على توازن مالية الدولة. وللحكومة أن ترفض، بعد بيان الأسباب، المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود«. و بالعودة للفصل 75 من الدستور، فإنه ينص على أن يحدد القانون التنظيمي للمالية »... طبيعة المعلومات والوثائق والمعطيات الضرورية لتعزيز المناقشة البرلمانية حول مشروع قانون المالية«. القانون التنظيمي للمالية يعد إذن، الوثيقة الأساسية المحددة لمختلف جوانب القانون المالي عبر تحديد موضوع ومحتوى قانون المالية، كيفية تقديمه ، إجراءات دراسته والتصويت عليه، و قواعد تنفيذه وتصفيته. دون الاستفاضة في بعض التفاصيل ذات الطبيعة المسطرية المتعلقة بمسار اعتماد القانون المالي، وجب التأكيد على أن المغرب سعى منذ مدة لإصلاح الترسانة القانونية المنظمة للمالية العمومية، إن بشكل مباشر عبر إصلاح القانون التنظيمي للمالية، أو عبر البدء في اتخاذ تدابير تحسن نجاعة تطبيقه. في هذا الصدد، تم إصلاح القانون التنظيمي للمالية سنة 1998؛ إصلاح استهدف بالأساس ملائمة مقتضياته مع نظام الغرفتين بالبرلمان الذي جاء به دستور 1996. القانون التنظيمي الجديد جاء بمستجدات ايجابية كذلك، تهم بالأساس اعتماد جدول زمني جديد للمصادقة على قانون المالية، عبر تحديد البرنامج والمدة الزمنية المتاحة لكل غرفة لمناقشته والتصويت عليه، توضيح المبادئ الموازناتية، حذف الميزانيات الملحقة ، تخفيض عدد الحسابات الخصوصية للخزينة و تبسيط مساطر تدبير الاعتمادات والمناصب المالية. بالمقابل، و رغم كل ما سبق ذكره، فإن القانون التنظيمي لازالت تعتريه نواقص عديدة، تحد من تحقيق أهداف النجاعة و الشفافية و المشاركة في تدبير و مراقبة المالية العمومية، و هي معايير تشكل ما يطلق عليه اصطلاحا بالحكامة الجيدة. القانون التنظيمي لقانون المالية لسنة 1998 ، سجل تراجعا مهما بالمقارنة مع النص الصادر سنة 1972 ، حيث منح للسلطة الحكومية الحق في اللجوء إلى المراسيم لفتح اعتمادات دون اللجوء إلى المؤسسة التشريعية، في حين أن النص السابق من خلال المادة 20 كان يلزم الحكومة و بشكل واضح، بالتقدم بقانون مالي تعديلي يهم الإعتمادات المراد فتحها، خلال الدورة البرلمانية الموالية لفتح الإعتمادات الاستثنائية. بالنظر للسياق الذي شهد المصادقة على نسخة 1998 ، فإن القانون التنظيمي لقانون المالية لم يستطع تحقيق اختراقات كبيرة، و بقي مرتكزا بالأساس على منطق الوسائل و ليس النتائج في تدبير المالية العمومية، كما أصبح عليه الأمر عالميا؛ منطق يساهم في تحقيق أكبر نسبة في النفقات لإستهلاك الاعتمادات المتوفرة، مخافة تقليصها في السنة المقبلة مع كل ما يعنيه ذلك من سوء تدبير و انزلاق للأهداف من تسخير الإعتمادات المالية لتحقيق أهداف تنموية و تدبيرية، إلى تحقيق هدف استهلاك و إنفاق الإعتمادات المالية بالدرجة الأولى، دون الأخذ بعين الاعتبار مدى تأثير ذلك على جودة المرفق العمومي و خدماته. من جهة أخرى، فإن مصطلح “البرنامج” غير وارد في القانون التنظيمي لقانون المالية لسنة 1998 ، و هو ما يحيلنا على المقاربة المحاسباتية الضيقة التي تحكمت في إعداد النص القانوني، و التي أغفلت عن وعيي أو دونه مدى تأثير برمجة المصاريف و الاعتمادات على نجاعتها، و تحقيقها للأهداف المتوخاة منها بشكل شمولي في إطار برنامج تنموي أو تدبيري، مع كل ما يفترضه ذلك من مرونة في تحويل الاعتمادات. غير أنه و رغم عدم التنصيص القانوني على كل ما سبق ذكره، فإن مصالح وزارة المالية قد "اجتهدت" منذ سنة 2001 ، و دون إصلاح القانون التنظيمي للقانون المالي، و قامت بإدراج مجموعة من الإجراءات التي ستشكل لا محالة مدخلا أساسيا من مداخل الإصلاح المرتقب لتدبير المالية العمومية. في هذا الصدد، تم العمل على تخفيف وتبسيط الرقابة المالية القبلية، مع تعزيز الرقابة الداخلية والرقابة البعدية على تنفيذ الميزانية، مع إدخال البعد الجهوي في ميزانية الدولة ابتداء من سنة 2006 ، و دمج مصالح الخزينة العامة للمملكة ومصالح المراقبة العامة للإلتزام بالنفقات، وخلق الخزائن الوزارية و تكريس مبدأ شمولية الاعتمادات. تلك الإجراءات، لا يمكن أن ننفي عنها دورها الايجابي في تطوير (و ليس تغيير) بعض الممارسات التدبيرية للمالية العمومية، لكنها في جميع الأحيان تبقى دون أثر بالغ على منظومة تدبير الاعتمادات و النفقات العمومية ككل، عبر ضمان الاستعمال الأمثل للمال العام و تحقيق الأهداف التنموية المنتظرة. من هنا تتضح جليا إلحاحية إصلاح نمط تدبير المالية العمومية، و التي يبقى إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية مدخلها الأساسي، بالنظر لكونه ينظم الإطار العام لصرف المال العمومي انطلاقا من التخطيط و البرمجة، مرورا بالتنفيذ و وصولا للمراقبة البعدية و المحاسبة. إصلاح من هذا القبيل، يسعى بشكل عام إلى توفير الشروط السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية الكفيلة بتحقيق اندماج ناجع للمغرب في المحيط الدولي الذي يعرف تحولات هامة، و مراعاة التزامات المغرب تبعا لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي، و إحداث مناطق التبادل الحر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول أخرى. الإصلاح في حد ذاته، يسعى و بشكل مدقق إلى تحقيق أهداف محددة، تتمحور حول بعدين أساسيين؛ الأول مرتبط بتكريس قيم الشفافية و المراقبة، و الولوج للمعلومة من طرف المؤسسة التشريعية، أما البعد الثاني فهو يتعلق بترشيد النفقات العمومية، عبر تحسين أداء الأجهزة الإدارية، و نظم توزيع الاعتمادات و تصريفها قطاعيا. فيما يخص النقطة الأولى، التي تهم تكريس قيم الشفافية، و المراقبة و الولوج للمعلومة من طرف المؤسسة التشريعية، فالواقع يفرض العمل على وضع أسس علاقة أكثر توازنا بين السلطتين التنفيذية و التشريعية، في أفق تمكين البرلمان من سلطة حقيقية في مراقبة المال العام، و تدبير الميزانية. سلطة لا يمكن أن تستمد إلا من خلال توسيع مجالات تدخل و تأثير المؤسسة التشريعية، في مناقشة و مراقبة تنفيذ الميزانية. تحقيق الهدف المذكور، يتم حتما عبر إغناء المعطيات المقدمة للبرلمان، تبسيطها و تسهيل الولوج إليها من طرف النواب، عبر تمكينهم من تقارير تفصيلية حول جوانب لازال يلفها الغموض في القوانين المالية، و المتعلقة بتفاصيل تنفيذ تلك القوانين و النتائج المتوقعة، حتى يتسنى مقارنة الأهداف بالوسائل المرصودة. من جهة أخرى، و في أفق تحسين تدخل البرلمان في مراقبة المالية العمومية، و مسائلة السلطة التنفيذية بخصوصها، يتعين تطوير شكل تقديم الميزانيات القطاعية و تحويلها من ميزانيات وزارية محضة، إلى ميزانيات برنامجية تتوخى تحقيق أهداف مرتبطة ببرنامج أو مخطط معين، هذا دون إغفال ضرورة الأخذ بعين الاعتبار المدى المتوسط و البعيد في تدبير ميزانية الدولة، و بالتالي تمكين المشرعين من كل المعطيات التي تمكنهم من متابعة تقدم المشاريع و المخططات القطاعية الممتدة على أكثر من سنة مالية. و إذا كان الدستور الجديد قد نص على المسؤولية المشتركة للبرلمان و الحكومة في السهر على الحفاظ على توازن مالية الدولة ، رغم كونه خص الحكومة بحق رفض المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان ، بعد بيان الأسباب ، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود، فإن ذلك لا يمنع السلطة التنفيذية من قبول طلبات إعادة توزيع الاعتمادات المرصودة مسبقا، في حدود الأغلفة المالية المتوقعة برسم ميزانية السنة المعنية. و اعتبارا لمنطق المحاسبة و المراقبة، و في جانب مسطري للإصلاح، يجب التأكيد على ضرورة إعادة النظر في الجدولة الزمنية و شكل تقديم قانون التصفية أمام البرلمان، وفقا لما جاء به الفصل 76 الذي يلزم الحكومة بعرض قانون التصفية المتعلق بتنفيذ قانون المالية، خلال السنة الثانية التي تلي سنة تنفيذ هذا القانون، و ذلك بشكل سنوي. المحور الثاني لورش إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية يتجلى في ترشيد النفقات العمومية عبر تحسين أداء الأجهزة الإدارية، و نظم توزيع الاعتمادات و تصريفها قطاعيا. في هذا الإطار، يجب التأكيد على ضرورة التنصيص، و بشكل واضح في القانون التنظيمي للقانون المالي، على اعتماد "منطق النتائج"، على اعتبار أنه الوحيد الكفيل بخلق ثورة حقيقية في نمط تدبير المالية العمومية و الانتقال بها من منطق تدبيري بيروقراطي، مبني على تدبير اعتمادت عبر صرفها وفق جداول زمنية و استهلاكية، إلى منطق أكثر عقلانية يضع في صلب اهتمامه تحقيق نتائج و أهداف، و ليس استنفاذ نفقات و اعتمادات، كما هو عليه الحال بمنطق الوسائل. منطق النتائج لا يمكن بالمقابل أن يستقيم في ظل المقاربة المحاسباتية الضيقة التي تطبع قوانين المالية، و التي تظل حبيسة أرقام و مبالغ و اعتمادات، دون أي أفق أو بعد تنموي، برنامجي، شمولي و متكامل. وضع يفرض تحسين البنية المحاسباتية لقانون المالية، لتمكينه من تجاوز المقاربة القطاعية التي يخضع لها، واعتماده لتصور حكومي شمولي يسهل سن سياسات عمومية أفقية مندمجة يتم تنسيقها على مستوى الحكومة كجهاز. في هذا الاتجاه، و تكريسا للمقاربة الشمولية في تدبير البرامج الحكومية، فإن إدراج ميزانيات المؤسسات العمومية في مجال القانون التنظيمي للقانون المالي أصبح شيئا بديهيا من أجل تحقيق الالتقائية المنشودة في التدبير العمومية للبرامج و ماليتها. إصلاح القانون التنظيمي للمالية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ضرورة ملائمة مقاضياته مع فصول الدستور الجديد ، و الذي ينص صراحة في الفصل 77 على الحفاظ على توازن مالية الدولة، و ذلك عبر ترجمة روح الفصل المذكور في مقتضيات القانون التنظيمي، عبر التأكيد على اعتماد قواعد مالية جديدة من أجل تعزيز التوازن المالي، عبر القطع مع ممارسات سابقة كتحويل اعتمادات الاستثمار من سنة إلى أخرى، أو إدراج نفقات تدبيرية في ميزانية الاستثمار. تلك الإجراءات الإصلاحية و أخرى لم يتسع المجال لذكرها، ستشكل مدخلا أساسيا لإصلاح عميق للإطار المنظم للمالية العمومية التي يشكل القانون المالي أداتها الأساسية، و الذي يتمحور حول اعتماد مقاربة شمولية، متدرجة و تشاركية، تمكن الدولة من التوفر على الرؤية الإستراتيجية الكافية لتحسين فعالية السياسات العمومية، تأخذ بعين الاعتبار التطور التدريجي للإدارة العمومية و كفاءاتها، و تشرك كل الفعاليات المهتمة و المعنية بالقانون المالي من سلطة تشريعية و مجتمع مدني. الإصلاح يجب كذلك أن يستجيب للنسق الإصلاحي المتقدم التي تعيشه بلادنا، و الذي يفترض تقوية مجالات تدخل و مراقبة المؤسسة التشريعية للقانون المالي، و التي لا يجب أن تبقى حبيسة التصويت على مشروع القانون المالي الذي يحول البرلمان لغرفة تسجيل أو مكتب ضبط. البرلمان و بحكم مركزيته في الهيكلة المؤسساتية الجديدة، يجب أن ينخرط و بشكل فاعل في مراقبة القانون المالي و مسائلة الحكومة بخصوص حيثيات تنفيذه. دور المؤسسة التشريعية سيكون أكثر نوعية كذلك في إغناء القانون المالي، بالنظر لتواصله المفترض مع مختلف الحساسيات و الفعاليات المجتمعية ذات المطالب الفئوية أو العمومية، من حركات نسائية، و شبابية، و جمعيات لذوي الاحتياجات الخاصة، و محاربة الرشوة، و حماية المال العام. *أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة الحسن الثاني - المحمدية