الدريوش يتلقى استدعاء لتمثيل هولندا    عدد وفيات مغاربة فالنسيا بسبب الفيضانات بلغ 5 ضحايا و10 مفقودين    دهس عمدي يوقف 7 أشخاص بالبيضاء    بواسطة برلمانية.. وهبي يلتقي جمعية هيئات المحامين بالمغرب غدا السبت    فعاليات الملتقى الجهوي الثالث للتحسيس بمرض الهيموفيليا المنعقد بتطوان    سانت لوسيا تشيد بالمبادرات الملكية بشأن الساحل والمحيط الأطلسي    منظمات أمازيغية تراسل رئيس الجمهورية الفرنسية حول استثناء تعليم اللغة الأمازيغية    مدافع الوداد جمال حركاس: تمثيل "أسود الأطلس" حلم تحقق        الوسيط يعلن نجاح الوساطة في حل أزمة طلبة الطب والصيدلة    قيود الاتحاد الأوروبي على تحويلات الأموال.. هل تُعرقل تحويلات المغاربة في الخارج؟    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    أكديطال تتجه لتشييد مصحة حديثة بالحسيمة لتقريب الرعاية الصحية    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف            تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد‮ بن جلون: اعتقالي‮ في‮ اسبانيا هو الذي‮ أنقذ حياتي‮!‬
نشر في هسبريس يوم 08 - 03 - 2012

عاش أحمد بن جلون تجربة الاعتقال السياسي. عانى من مرارتها بشكل رهيب. تعرض للتعذيب على أيدي الجنرال أوفقير وزبانيته. استنطقه الجنرال الدموي بنفسه لينتزع منه (المعلومات) التي كان يبحث عنها عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك باعتبار أحمد بن جلون كان واحدا من مناضليه.
في الحوار التالي الذي سيصدر قريبا في كتاب تحت عنوان ( ذاكرة الاعتقال السياسي*) عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان يروي أحمد بن جلون للقارئ معاناته مع تجربة الاعتقال السياسي كما عاشها بفصولها الكابوسية..
‮‬الأستاذ أحمد بنجلون أود أن أفتتح‮ معك هذا الحوار بالسؤال، عن اليوم والشهر والسنة التي‮ تم اعتقالك فيها،‮ هل تذكر هذه اللحظات الحرجة من عمرك، ومتى تم ذلك؟ ‮
‬تعرضت في‮ حياتي‮ لعدة اعتقالات،‮ ولكن الاعتقال الذي‮ أعتبره‮ أكبرهم جرى‮ يوم‮ 29‮ يناير سنة 1970،‮ وذلك بالعاصمة الإسبانية مدريد،‮ حيث اعتقلتني‮ الشرطة الإسبانية من إحدى الشقق التي‮ كنت نزيلا فيها وكان رقمها ‮‬14،‮ فأنا مازلت أذكر هذا الرقم حتى اليوم. لقد كنت رفقة الرفيق محمد آزر المدعو سعيد بونعيلات،‮ وتم اعتقالي‮ حوالي‮ الساعة‮ 8‮ مساء، حيث جئت إلى الشقة‮ بالعمارة التي‮ كنت أقطن فيها،‮ فوجدت الشرطة في‮ انتظاري‮ مدججة بالسلاح،‮ وكانت قد طوقت العمارة،‮ فتم اعتقالي،‮ وكان رفيقي‮ سعيد بونعيلات قد تم اعتقاله قبلي‮ بحوالي‮ ساعتين، ولم أكن على علم‮ بذلك‮.‬
‮ماذا كنت تفعل في‮ إسبانيا أنت وسعيد بونعيلات؟ ‮
‬كانت الحركة الاتحادية لها أساليب نضالية مختلفة،‮ وكانت لها أهداف لتصحيح الأوضاع بالمغرب،‮ وكان سعيد بونعيلات لاجئا سياسيا في‮ الجزائر، بعد أن حوكم‮ غيابيا في‮ المغرب بعدة سنوات،‮ ولقد‮ غادر الجزائر صوب إسبانيا عقب اتفاقيات للتعاون بين البلدين في‮ مختلف المجالات،‮ بما فيها الميدان الأمني. غير أن بعض المسئولين الجزائريين الذين تذكروا الدور الذي‮ قام به سعيد بونعيلات في‮ دعم الثورة الجزائرية، نصحوه بمغادرة بلدهم، لكي‮ لا‮ يلقى‮ عليه القبض، ويسلم إلى المغرب. وهكذا توجه إلى إسبانيا،‮ وأنا أيضا كنت طالبا في‮ الخارج وكنت في‮ صفوف المقاومة الفلسطينية في‮ سوريا وفي‮ الأردن،‮ وكنت عابر سبيل عبر إسبانيا للقيام بعدة مهام نضالية‮.‬
‮هل كنت مكلفا بأداء مهمة محددة أنت وسعيد بونعيلات،‮ وعلى إثرها توجهت لملاقاته في إسبانيا؟
لا،‮ كنت مقيما معه في‮ إسبانيا في‮ الشقة التي‮ كان‮ يقيم فيها،‮ فأنا كانت لي‮ به سابق معرفة بالجزائر،‮ وأحالني‮ الإخوة المناضلون عليه لكي‮ أقيم عنده على إثر مروري‮ بإسبانيا، بدل أن أقيم في‮ الفندق،‮ فأنا لم تكن لدي‮ مهمة مشتركة مع الأخ سعيد بونعيلات‮.‬
‮هل هذا‮ يعني‮ أن إقامتك معه بإسبانيا كانت إقامة مؤقتة؟
‮نعم‮، كانت إقامة مؤقتة ومرتبطة بالمهام النضالية التي‮ كنت مكلفا بإنجازها، والوقت الذي‮ يتطلبه الإنجاز‮.‬
‮ما هي‮ هذه المهام النضالية التي‮ كنت مكلفا بالقيام بها؟
‬ذلك ربما سيكشفه التاريخ فيما بعد،‮ أو سنكشفه نحن،‮ فالمهام النضالية‮ هي‮ تلك التي‮ كنا نعتقد أنها تنسجم مع أفكارنا التحررية، وأهدافنا الاشتراكية وكذلك القومية، وعلى رأسها تحرير فلسطين. فلقد كانت لنا مهام نضالية،‮ وكنا نعمل على إنجازها، سواء في‮ الداخل أو في الخارج‮.‬
‮ولماذا لا تكشف للقارئ اليوم عن طبيعة تلك المهام ونوعيتها؟ ‮
‬لا حاجة للحديث عن ذلك،‮ فإذا عدت إلى ملف محاكمة مراكش‮ يمكنك أن تجد بعض التفاصيل،‮ فمثلا كنت أنا متهما بأنني‮ سأقود سفينة محملة بالسلاح إلى الشواطئ المغربية،‮ رغم أنه لم‮ يعثر على هذه الباخرة قط،‮ وكان المرحوم‮ عبد الرحيم بوعبيد‮ يترافع عنا أثناء المحاكمة،‮ متسائلا أمام القاضي:‮ أين هي‮ هذه الباخرة؟ هل تبخرت؟ لم‮ يعثر عليها أبدا‮.‬
‮هل هذا يعني أنكما، أنت وبونعيلات، كنتما متهمين بأنكما ستُدخلان باخرة تحمل أسلحة إلى المغرب؟
‮هذه تهمة من جملة تهم أخرى وجهت لنا، قيل حسب مخابرات امبريالية وحتى صهيونية، أننا كنا نسعى إلى إدخال السلاح إلى المغرب،‮ فنحن كنا على علاقة مع المقاومة الفلسطينية، مما أدى إلى حدوث عدة التباسات حول الموضوع‮.‬
‮عندما ألقي‮ القبض على بونعيلات قبلك بساعتين، هل‮ مكث البوليس الإسباني‮ معه في‮ الغرفة‮ ينتظرونك لأخذكما معا؟
‮‬لا،‮ أخذوه من الشقة إلى إدارة الأمن الوطني‮ الإسباني،‮ والشيء الذي‮ ربما أنقذ حياتي‮ في‮ تلك الفترة هو أن زوجة سعيد بونعيلات كانت معه في‮ ذلك الوقت بإسبانيا،‮ فهي‮ التي‮ دقت ناقوس الخطر، وأشعرت المناضلين، وبالتالي‮ الصحافة والرأي‮ العام باعتقالنا. وفي‮ الواقع فإن‮ اعتقالنا كان اختطافا.
‬بالنسبة لي‮ فإن العدد الهائل من رجال الشرطة الذين وجدتهم في‮ العمارة وفي‮ المصعد وأمام باب الشقة،‮ جعلني‮ أعتقد أنهم كانوا‮ يظنون أنني‮ مسلح،‮ ويتعين الاحتياط الشديد مني،‮ وأنني‮ سأقاوم،‮ وبطبيعة الحال لم‮ يكن الأمر كذلك،‮ فلقد تم اعتقالي‮ بسهولة،‮ وأتذكر أنني‮ تأخرت في‮ الدخول إلى الشقة، لأنني‮ كنت في‮ إحدى المقاهي،‮ أكتب مقالا أرد فيه على مقال نشره‮ حميد برادة في‮ مجلة‮ »‬أفريك آزي‮« آنذاك‮...‬
‮حول ماذا كان‮ يدور مقال حميد برادة؟ ‮
كان‮ يصف الحركة الاتحادية بأنها تضم مجموعة من البلانكيين والمغامرين‮...
‮ كان معروفا عن حميد برادة أنه اتحادي،‮ فكيف يجوز له أن يصف الحركة الاتحادية بهذه الأوصاف؟ ‮ج: كان‮ بدأ‮ ينفصل عنها ويدخل في‮ تنظيمات الجماعات اليسراوية التي‮ كانت قد بدأت تظهر والتي‮ ستعطي‮ 23‮ مارس فيما بعد،‮ وعدة تنظيمات أخرى والتي‮ انفصل عنها هي‮ الأخرى بسرعة، إلى‮ أن أخذ مسار آخر، وأصبح اليوم مخرجا سينمائيا مختصا في‮ إنجاز أشرطة عن كبار الشخصيات‮.‬
‮ لنعد إلى لحظة اعتقالك أمام باب العمارة‮...‬ ‮
حين تم اعتقالي‮ كان اختطاف المهدي‮ بنبركة مازال طريا كحدث في‮ ذهننا،‮ فلما وضعوني‮ في‮ سيارة مموهة وشرطي‮ إلى جانبي‮ الأيمن،‮ وآخر إلى جانبي‮ الأيسر،‮ وكنت مكبل اليدين،‮ انتزع شرطي‮ الكراس الذي‮ كان فيه المقال الذي‮ كنت أنوي‮ نشره في‮ مجلة أفريك آزي‮ ردا على حميد برادة،‮ وأخذ‮ يقرأ‮ المقال،‮ وخاطبني‮ قائلا: هل أنت مختص في‮ المجال الفلسفي،‮ فكل المصطلحات الواردة في‮ المقال لها طابع فلسفي. وتذكرت ما قاله المهدي‮ بنبركة لسوشون وفواتون، وهما الشرطيان اللذان اختطفاه، حين خاطبهما قائلا: لم أقم بأي‮ شيء ضد فرنسا،‮ واقتديت بشهيدنا وقلت للإسبانيين،‮ أنا لم أفعل شيئا ضد إسبانيا‮ يستوجب اعتقالي، وتيقنت أن إلقاء القبض علي‮ يدخل في‮ إطار اتفاق أمني‮ تم إبرامه بين إسبانيا والمغرب‮.‬
‮هل كنت تشعر قبل لحظة الاعتقال أنك مطارد، وأن بالإمكان اعتقالك في‮ أي‮ لحظة، وكنت مهيأ نفسيا لذلك،‮ أم أن الاعتقال جاء هكذا، بشكل مفاجئ،‮ وكان مباغتا؟
‮‬بدأت فعلا أشعر بنوع من التضييق،‮ وبأنني‮ في‮ وضعية‮ غير سليمة،‮ وكنت قد كاتبت في هذا الشأن بعض الرفاق بطريقة الحبر السري‮...‬
‮ من هم هؤلاء الرفاق الذين كاتبتهم؟
‮‬لا داعي‮ لذكر أسمائهم،‮ سيتعرفون على أنفسهم إذا قرؤوا هذا الحوار،‮ لقد كتبت‮ إليهم أنبههم إلى وضعنا‮ غير السليم بإسبانيا،‮ وبأن علينا أن نغادرها إلى جهة أخرى من العالم، وذلك‮ 6‮ أو‮ 7‮ أيام قبل اعتقالنا،‮ وكان المرحوم الشهيد‮ محمد بنونة1‮ معنا،‮ ولقد سافر إلى باريس‮ يوم‮ واحد فقط قبل‮ 29‮ يناير اليوم الذي‮ تم اعتقالنا فيه‮.‬
‮‬سافر قبل اعتقالكم عن‮ طريق الصدفة؟
‮نعم سافر عن طريق الصدفة في‮ ذلك اليوم،‮ وكان الهدف من سفره هو ربط الاتصال بالإخوان في‮ فرنسا، حول هذه المواضيع كلها بما فيها قضية التنظيم‮.‬
‮ألم‮ يكن الهدف من‮ سفره تهيئ الأجواء لكما لمغادرة إسبانيا بعد شعوركما بأنكما مطاردان؟
‮لا،‮ لم‮ يكن الهدف من سفره إعداد الأجواء لنا للانتقال إلى جهة أخرى،‮ ولكن سافر من أجل تتميم المهام النضالية التي‮ كنا منهمكين في‮ إنجازها‮.‬
‮ألم تكن أنت وسعيد بونعيلات تتخذان الاحتياطات‮ الضرورية لكي‮ لا‮ يتم‮ اعتقالكما؟ ‮
طبعا،‮ الاحتياطات كانت واجبة وضرورية،‮ ولكن مع ذلك، لم نعتقل أنا والأخ سعيد بونعيلات فقط،‮ وإنما اعتقل معنا خمسة إخوان‮ آخرين كانوا هم أيضا في‮ إسبانيا،‮ وكانوا‮ ينتظرون التعليمات لإتمام المهام التي‮ كانوا ملزمين بالقيام بها،‮ فلقد اعتقلنا جميعا وفي‮ نفس اليوم،‮ لأن الإشارة جاءت من المغرب والتعاون كان قائما بينه وبين إسبانيا،‮ والذي‮ كان‮ يشرف على العملية هو الجنرال أوفقير.
‮وإذ أذْكرُ اسم الجنرال أوفقير، فليس من أجل تحميله لوحده جميع أوزار مرحلة من تاريخ المغرب،‮ ولكن لأنه كان المشرف بنفسه على اعتقالنا،‮ فلقد كان في‮ إسبانيا في‮ ذلك الوقت نظام فاشستي‮ يقوده الجنرال‮ فرانكو. وكان من السهل على أمن البلدين ضبطنا واعتقالنا،‮ غير أن الإخوان الخمسة الآخرين كانوا‮ يحملون جوازات سفر سورية،‮ فتدخلت السفارة السورية وضغطت من أجل الإفراج عنهم، فتم إطلاق سراحهم، وأبعدوا إلى سوريا،‮ أما أنا وسعيد بونعيلات، فكنا ما زلنا نحمل جوازات سفر مغربية‮.‬
‮من هم هؤلاء الإخوة الخمسة؟
‮لا أذكر أسماءهم الحقيقية،‮ لأنهم كانت لهم أسماء حركية،‮ وكانوا معنا في‮ المقاومة الفلسطينية،‮ وأنا ألتمس‮ العذر إن لم أتذكر أسماءهم، خصوصا الروح الطاهرة لأحدهم الذي‮ أعدم سنة‮1973،‮ لأنه دخل إلى المغرب فيما بعد، وألقي‮ عليه القبض وحكم عليه بالإعدام،‮ وتم تنفيذ الحكم فيه،‮ وربما أنا حدث لي‮ مثل ما حدث لرابح بيطاط سنة‮ 1954‮ لما اعتقل بعد أول عملية فدائية، عقب اندلاع الثورة الجزائرية في‮ نونبر‮ 1954‮ وبقي‮ في‮ السجن إلى أن خرج منه بعد حصول الجزائر على الاستقلال،‮ فاعتقالي‮ في‮ إسبانيا،‮ رغم العذاب والسجن اللذين تعرضت لهما من جرائه،‮ ربما أنقذ حياتي‮...‬
‮ كان من الممكن أن تكون من ضمن الذين أعدموا فيما بعد؟
‮‬كان ذلك ممكنا، وكان واردا أن أستشهد كما استشهد محمد بنونة، أو أن أعدم،‮ أو أن أواجه أي‮ مصير آخر‮..‬
ما هي التهمة التي وجهها إليك البوليس الإسباني بعد إلقاء القبض عليك؟
‮في‮ البداية لم‮ يكن البوليس الإسباني‮ يصدق أنني‮ لا أعرف ولو كلمة واحدة بالإسبانية،‮ وفعلا لم أكن وقتها أتكلم اللغة الإسبانية رغم أنني‮ تعلمتها في‮ ما بعد،‮ وكان استنطاقي‮ يتم باللغة الفرنسية،‮ كانوا‮ يعتقدون أنني‮ من مدعمي‮ حركة‮ "‬إيتا‮" الباسكية التي‮ كانت تحظى بدعم أممي‮ ودولي،‮ لأنها كانت تناضل ضد نظام فاشستي،‮ ولقد كان البوليس الإسباني‮ يعتقد أنني،‮ وليس سعيد بونعيلات،‮ موجود في‮ إسبانيا بغرض مساندة حركة‮ "‬إيتا‮"،‮ وخاصة أنهم حجزوا كتبا رزينة ومهمة كانت في‮ حوزتي،‮ فذلك كان دليلا بالنسبة لهم‮ على أن لي‮ علاقة بحركة‮ "‬إيتا‮"‬،‮ وشعرت أنهم‮ يموهون علي‮ بتوجيه هذا الاتهام إلي،‮ فما كان مني‮ إلا أن طرحت عليهم نفس السؤال الذي‮ طرحته علي‮: ما هي‮ التهمة التي‮ بسببها وقع اعتقالي؟
‮‬وماذا كان جوابهم؟ ‮
قالوا لي‮ أنت قائد خلية إرهابية،‮ وأنت تقود تنظيما مسلحا وإرهابيا،‮ وتخطط للسفر إلى المغرب لإثارة القلاقل. ولقد نفيت التهمة الموجهة لي،‮ فأخرجوا أمامي‮ مجموعة من‮ الصور تضم رفاقا لي‮ في‮ المخيمات الفلسطينية،‮ فأنكرت معرفتي‮ بهؤلاء الرفاق،‮ وفي‮ الأخير وضعوا أمامي‮ صورتي‮ الشخصية بشكل فردي،‮ وكان قد التقطها لي‮ أحد‮ »‬المناضلين‮«‬ في‮ الجزائر العاصمة،‮ وكانت له آلة للتصوير،‮ وقد اكتشفنا فيما بعد أنه كان عميلا للبوليس المغربي،‮ فأنا أتذكر جيدا أنه هو الذي‮ التقط لي‮ تلك الصورة،‮ فإذن هو الذي‮ سلمها للبوليس‮.‬
‮هل‮ يمكنك ذكر اسمه؟
‮‬يدعى حميد اليوسفي،‮ ولقد أصيب بالجنون فيما بعد،‮ وكان أخوه لاجئا في‮ الجزائر،‮ والتحق بأخيه كطالب ليتابع دراسته هناك،‮ ويبدو أن البوليس المغربي‮ استقطبه ووظفه للاشتغال معه في‮ التجسس علينا،‮ ولقد وظف في‮ السبعينيات في‮ ديوان أحد الوزراء. ولما تم وضع صورتي‮ الشخصية أمامي،‮ سألني‮ عميد الشرطة‮ قائلا: وهذا ألا تعرفه؟ وساعتها فهمت أن الطوق محكم حول عنقي،‮ وأضاف إذا رفضت الاعتراف لنا بما هو منسوب إليك، سنبعثك إلى أوفقير وهو الذي‮ سيعرف كيف سينتزع منك الاعترافات‮...‬
‮‬ألم‮ يعنفك البوليس الإسباني،‮ ألم‮ يلجأ إلى التعذيب لإجبارك على الكلام؟
‮شهادة للتاريخ،‮ لم‮ يسبق للبوليس الإسباني‮ أن استعمل معي‮ العنف ولو مرة واحدة حين كنت معتقلا في‮ إسبانيا،‮ فباستثناء أن أحد الذين كانوا‮ يستنطقونني‮ صرخ في‮ وجهي‮ بكلمة نابية،‮ ووبخه عميد الشرطة ونهره على تلك الكلمة،‮ باستثناء‮ هذه الحالة، لم‮ يمارس علي‮ أي‮ تعذيب، أو عنف من طرف الإسبانيين،‮ بينما الإخوان الآخرون ربما تعرضوا لنوع من العنف‮.‬
‮كم كانت المدة الزمنية التي‮ قضيتها محتجزا لدى الشرطة الإسبانية قبل أن‮ يقع تسليمك إلى الأمن المغربي؟‮ وماذا كنت تتوقع أن‮ يحدث لك وأنت في‮ المعتقل الإسباني؟ ‮
الشيء الذي‮ لم أكن على علم به، وكان قاتلا وقتها بالنسبة لي،‮ ولم أكن أتوقعه،‮ هو أنه لم‮ يتم إخباري‮ خلال اعتقالي‮ في‮ إسبانيا، بأن هناك حملة من الاعتقالات قد وقعت في‮ المغرب،‮ وأن عددا مهما من الرفاق قد ألقي‮ عليهم القبض،‮ وأن الأشياء كانت قد توضحت لدى أجهزة الأمن. فأنا لم أكن على علم بالاعتقالات،‮ وكنت ما زلت معتقدا أن الأجهزة الأمنية ليست على علم بما كنا ننوي‮ القيام به،‮ وكان‮ يتهيأ لي‮ أنها ليست على علم حتى باسمي‮ الحركي‮ الذي‮ كان هو عبد المومن‮...‬ المهم هو أنه أثناء‮ وجودي‮ لدى الأمن الإسباني‮ أخذ‮ يستنطقني‮ أحد رجال الشرطة الإسبانيين الذي‮ كان‮ يتقن اللغة الدارجة المغربية،‮ ولقد سألني‮ في‮ نهاية الاستنطاق عن المنطقة التي‮ يمكن أن تكون اللهجة التي‮ يتكلم بها قريبة من لهجة سكانها،‮ وأجبته بأن من المحتمل أن تكون لهجة‮ أهل تطوان. فالتفت صوب رجال الأمن الآخرين وقال لهم عبارة فهمت منها أنه تأكد بشكل مطلق من أنني‮ مغربي،‮ لقد كانت السفارة السورية تطالب بإطلاق سراحي‮ أنا وسعيد بونعيلات أيضا رفقة‮ الإخوة الآخرين الذين كانوا‮ يحملون جوازات سفر سورية،‮ ولكن لما تأكد الإسبانيون بأننا مغربيان أحالونا إلى السجن،‮ فاتصل بنا محام إسباني‮ للدفاع عنا،‮ ولقد أسر إلي‮ أنه كان‮ يدافع عن المقاومين الجزائريين‮.‬
‮هل تطوع للدفاع عنكم من تلقاء نفسه؟
‮لا،‮ لقد كلفه شخص كان اسمه الدكتور إبراهيم،‮ وكان تونسي‮ الأصل،‮ والسيد عبد الرحمان اليوسفي‮ هو الذي‮ اتصل بالدكتور إبراهيم هذا،‮ وطلب منه تكليف محام لمؤازرتنا،‮ لقد كانا صديقين ويتعارفان منذ أيام المقاومة،‮ لأن الدكتور‮ إبراهيم كان‮ يساعد المغاربة في‮ الحصول على الأسلحة لمواجهة المستعمر‮. وبعد أن اطلع المحامي‮ على ملفنا، وأجرى الاتصالات اللازمة، صارحنا بأن القرار متخذ وحاسم في‮ إحالتنا على رجال الأمن المغاربة،‮ لقد أفادنا بأنه سيتم تسليمنا لهم في‮ أقرب الآجال،‮ وفعلا هذا ما وقع‮.‬
كيف تمت عملية تسليمكما من طرف رجال الأمن الإسبانيين لنظرائهم المغاربة،‮ هل ما زلت تذكر الطريقة التي‮ تمت بها عملية التسليم؟ ‮
ما زلت أذكرها جيدا وكأنها حدثت البارحة،‮ فلقد وضعنا في‮ سيارة فاركونيت،‮ وكان‮ يصطحبنا في‮ داخلها رجال شرطة إسبان،‮ وكان أحدهم بدينا، ويشبه شانصوبانزا الشخصية التي‮ كانت تلازم دونكيشوت في‮ كل رحلاته،‮ وجابت السيارة عدة شوارع في‮ مدريد إلى أن وصلت بنا إلى المطار،‮ ودخلت إلى مدرجه،‮ وفي‮ هذه اللحظة ظهرت لي‮ طائرة عسكرية مغربية،‮ فالتفت صوب سعيد بونعيلات، وكنا نطلق عليه لقب‮ »‬خالي‮ موح‮«‬،‮ فقلت له‮ »‬أمشينا في‮ المزاح أخالي‮ موح‮«.‬ ‮ وبمجرد نزولنا من السيارة، تم وضع القيد في‮ أيدينا،‮ وغطاء فوق الرأس،‮ ولما صعدت إلى الطائرة استبدل الغطاء بعصابة سوداء،‮ وأمرت بالجلوس أرضا،‮ وكانت‮ يداي في‮ الخلف مقيدتين،‮ وتم ربطي‮ بسلسلة حديدية من رجلي،‮ هذه السلسلة مكثت مقيدا بها لشهور عديدة،‮ وكان لي‮ الوقت الكافي‮ لكي‮ أحسب عدد حلقات تلك السلسلة، و كانت‮ 73‮ حلقة‮.‬
‮لماذا تقييدك بسلسلة من رجليك،‮ فالقيد في‮ اليدين كاف لوحده لكي‮ لا تستطيع القيام بأي‮ حركة؟
‮‬كنا في‮ الطائرة،‮ وبالنسبة لهم‮ ينبغي‮ الاحتياط لكي‮ لا أتحرك من مكاني،‮ فحتى في‮ دار المقري‮ كنت أقضي‮ معظم الوقت مقيدا بالسلسلة،‮ لقد كانوا ربما‮ يعتبرونني‮ عنصرا خطيرا، وصرح لي‮ بهذا فيما بعد، بعض رجال الشرطة، لقد قالوا لي‮ إن التعليمات قد أعطيت لهم لكي‮ يكونوا حذرين جدا معي‮...‬ ولما انطلقت الطائرة شعرت بالألم في‮ يدي،‮ فطلبت التخفيف من شدة ضغط القيد على‮ يدي،‮ فتطوع أحدهم واستجاب لطلبي،‮ ثم خاطبني‮ بلهجة أهل الشرق قائلا‮ » ودروك راك‮ غاية‮«‬،‮ فأجبته شكرا،‮ ومن‮ غير أن أشعر ُوضعت سيجارة في‮ فمي‮ وأخذت أدخنها،‮ لم أعلم من الذي‮ وضع السيجارة في‮ فمي ‮...‬
‬إلى حدود الساعة، لا يخاطبك ولا يتكلم معك أي‮ أحد في‮ الطائرة؟
‮‬أبدا، لم‮ يكلمني‮ أي‮ أحد، فالكلمات التي‮ سمعتها وأنا في‮ الطائرة هي،‮ تلك التي‮ صدرت عن صوت من أهل الشرق حين قال لي‮ »‬دروك راك‮ غاية‮«‬،‮ واستمر الصمت القاتل ونحن في‮ السماء إلى أن حطت الطائرة،‮ وفي‮ تقديري‮ كان ذلك في‮ مطار سلا،‮ وأدخلت في‮ كيس، وحملني‮ أحدهم على كتفه من الطائرة إلى سيارة قطعت بي‮ مسافة معينة لم تكن بالطويلة ثم توقفت، وأدخلتُ إلى مكان مجهول‮.‬
‮ أ‬ليس لك علم بهذا المكان إلى اليوم؟ ‮
‬المكان الأول الذي‮ وضعت فيه لما أنزلت من الطائرة ليس لي‮ به علم إلى اليوم،‮ لا‮ يمكن لي‮ أن أعرفه،‮ غير أنني‮ متأكد ومتيقن أنه في‮ الرباط،‮ أما المكان الثاني‮ فإنه دار المقري. كنت أقضي‮ في‮ المكان الذي‮ وضعت فيه الليل والنهار ويداي‮ مقيدتان وراء ظهري،‮ وسلسلة حديدية على رجلي،‮ كنت أحس في‮ بعض الأحيان أن لدي‮ عدة أذرع،‮ لقد كان الإحساس بألم القيد طاغيا إلى أبعد الحدود،‮ وكنت أجد صعوبة في‮ الانتقال من وضعية لأخرى‮...‬
‮‬كيف‮ يقضي‮ الإنسان حاجاته الطبيعية في‮ مثل هذه الأوضاع؟
‮‬كنت أشعر بإهانة لا تتصور عندما أريد قضاء حاجتي‮ الطبيعية،‮ لقد كنت أقضيها في‮ سطل. في‮ اليوم الموالي‮ لوصولي‮ إلى المغرب علمت ببداية حملة الاعتقالات في‮ صفوف المناضلين، وذلك أثناء بداية عملية استنطاقي. لقد أُجْلست على كرسي،‮ وإذا بصوت‮ ينطلق ليخاطبني‮ قائلا‮ : Alors abdelmoumen ca va ?‮ وهكذا تبين لي أن اسمي‮ الحركي‮ لم‮ يعد كما كان سريا،‮ فهو معروف من طرف الأجهزة،‮ ثم أردف الذي‮ كان‮ يستنطقني‮: أنت هو عبد المومن؟ وأجبته بأن اسمي‮ هو أحمد بنجلون،‮ وفي‮ هذه اللحظة، ومن‮ غير أن أتوقع ذلك، شعرت بصفعة قوية تنزل علي‮ من الخلف في‮ أذني‮ الاثنتين،‮ كانت صفعة شديدة وعنيفة وغير منتظرة، ونزلت علي‮ دفعة واحدة ككفي‮ كماشة‮.‬ ‮ بعد أن تلقيت هذه الصفعة،‮ سقطت العصابة السوداء التي‮ كانت على عيني،‮ أو بعبارة أدق انحلت بعض الشيء، وهبطت قليلا عن عيني،‮ فرفعت رأسي‮ ببطء، وتطلعت إلى من‮ يقف أمامي‮ ويستنطقني،‮ فإذا بي‮ أجد أمامي‮ الجنرال أوفقير بدمه ولحمه‮ يسهر على استنطاقي،‮ وكان إلى جانبه شرطيان، واحد على‮ يميني‮ والثاني‮ على‮ يساري،‮ وبمجرد ما اطلعت على وجهه،‮ وخوفا من أن‮ يتبين أنني‮ عرفت بأنه هو الذي‮ يستنطقني،‮ فيأمر بتصفيتي‮ حفاظا على الأسرار، أحنيت رأسي،‮ وكأنني‮ لم أره ولم أتبين منه،‮ فلما ألقي‮ علينا القبض في‮ إسبانيا وتم تسليمنا إلى المغرب كنت أعتقد أننا انتهينا وأن مصيرنا المحتوم هو الموت‮.
‬ألم يكن المغربي‮ يتوفر على أي‮ ضمانة تؤمن له حماية ما، ولو في‮ حدودها الدنيا والمتمثلة في‮ الحفاظ على حياته، كان بالإمكان بسهولة قتله؟
‮لم تكن هناك أية ضمانة على الإطلاق،‮ لقد كان بإمكان السلطة أن تفعل في‮ الإنسان ما تشاء، والأكثر من هذا،‮ فإنها فعلت فينا ما شاءت لها أهواؤها،‮ لقد قضيت سنة تقريبا وأنا في‮ الاعتقال السري‮ تحت التعذيب والاستنطاق، قبل أن نخرج إلى العلن عند قاضي‮ التحقيق، ونحال على المحكمة، لكي‮ تقول كلمتها فينا. المهم هو أن أوفقير أخذ‮ يسألني‮ عن بعض الأسماء الحركية في‮ تنظيمنا مثل الحاتمي وغيره،‮ وقد تأكدت ساعتها أن جميع أسمائنا الحركية معروفة، خصوصا أولئك الذين كانوا معنا في‮ المعسكرات الفلسطينية،‮ وأن أصحابها اعتقلوا‮.‬ ‮ بعد هذه الوجبة الأولى التي‮ كانت تحت إشراف‮ الجنرال أوفقير، تم نقلي‮ إلى دار المقري‮ في‮ جلباب صوفي‮، وكان قبه مربوطا على وجهي،‮ وكنت محاطا برجلي‮ شرطة،‮ ولما وصلت إلى دار المقري‮ ُربطت بالسلسلة التي‮ كانت في‮ رجلي‮ بقضبان حديدية،‮ بالإضافة إلى القيد في‮ اليدين والعصابة في‮ العينين،‮ وبقيت بالسلسلة إلى أن أحلت على السجن بمراكش، حيث أثرت ضجة كبرى، وأخذت أصرخ وأصيح وأسب وألعن داعيا إلى تخليصي‮ منها‮.‬
‮‬هل كان كل المعتقلين السياسيين الذين ألقي‮ عليهم القبض‮ يقضون وقتهم مثلك بالعصابة في‮ العينين والقيد في‮ اليدين والسلسلة الحديدية في‮ الرجلين؟
‮‬بالنسبة للسلسلة الحديدية كنت أنا الوحيد صاحب هذا‮ ( الامتياز)‬،‮ وكذلك سعيد بونعيلات فيما أظن،‮ لقد كانوا‮ يعتبروننا أخطر العناصر في‮ المجموعة التي‮ وقع اعتقالها‮.‬
‮ حول ماذا كانوا‮ يستنطقونكم؟ ‮
حول التنظيم السري‮ الاتحادي،‮ وحول التنظيم المسلح وهياكله وأفراده ومجموعاته والأسلحة التي‮ اتهمنا بأننا كنا ننوي‮ إدخالها للمغرب‮.‬
‮هل كانوا‮ يعذبونكم للاعتراف بهذه التهم؟ ‮
كان التعذيب قاسيا وجهنميا إلى درجة أنني‮ كنت في‮ كثير من الأحيان أفضل الموت على الاستمرار في‮ الحياة تحت هذا التعذيب‮.‬
‮ما هي‮ أقسى درجات التعذيب؟ ‮
‬لا أتحمس للحديث عن هذا الموضوع لكي‮ لا يفهم من كلامي‮ أنني‮ أريد أن أحصل من خلاله على منفعة أو امتياز،‮ ثم إن الحديث عنه لا يمكن أن‮ يستوفي‮ الغرض، ويتمكن الإنسان من خلاله من نقل الإحساس الذي‮ يعانيه عندما‮ يمارس عليه،‮ فلا‮ يمكن وضع معيار لقياس درجات التعذيب وتحديد ما هي‮ أقساها،‮ فكل درجات التعذيب قاسية وظالمة،‮ فأحيانا مجرد الشتم والسب‮ يمكن أن‮ يسبب تعذيبا نفسيا كبيرا للإنسان،‮ فالتعذيب عمل وحشي‮ وغير مقبول،‮ وبمجرد الحديث عنه أشعر‮ بالألم،‮ فأنا شخصيا وصلوا معي‮ إلى درجات عالية جدا من التعذيب لا يمكن للعقل البشري أن‮ يتصورها‮.‬ لقد وصل الأمر من كثرة الضرب في‮ قدمي‮ إلى مستوى أنهما اسودتا وتعفنتا، وأخذ الدود‮ يخرج منهما،‮ ولأنني‮ لم أعد أطيق الألم الذي‮ كان‮ يأتيني‮ منهما،‮ وصرت أقضي‮ الليل والنهار في‮ الصراخ،‮ فإنهم أزالوا لي‮ بواسطة مقص القشرة السوداء التي‮ كانت تغطيهما، وصبوا الكحول عليهما،‮ وشعرت ساعتها وكأن نارا حقيقية تلتهمني‮ من قدمي‮ إلى آخر شعرة في‮ رأسي،‮ وجاء وقت فقدت فيه الإحساس الكلي‮ بأطرافي‮ العلوية، وأصبحت عاجزا عن تحريكها، بل صرت على وشك الموت،‮ فأخذوني‮ إلى المستشفى،‮ وهناك فحصني‮ طبيب، أدركت فيما بعد أنه شقيق جلاد مشهور،‮ ولأنه كان‮ يضع خبرته العلمية رهن إشارة الجلادين، وكانوا‮ يستشيرونه في‮ أوضاعنا الصحية،‮ فإنه نصحهم بالكف عن تعذيبي،‮ ودعاهم للعناية بي‮ لاسترداد البعض من عافيتي،‮ وفعلا هذا ما حدث،‮ إذ تم الاهتمام بي‮ أكلا وتطبيبا إلى أن استرجعت جزءا من سلامتي‮ الجسدية، ثم فحصني‮ نفس الطبيب مجددا، وأعطاهم الإشارة، فاستؤنف التعذيب مجددا.
‬لا‮ يمكن للكلمات، مهما كان مستوى دقتها وقوتها التعبيرية، أن تجسد أياما وليال من التعذيب، والقهر والإذلال الذي‮ مارسه الجلادون علينا‮.‬
‮هل تعرف اليوم الأشخاص الذين كانوا‮ يعذبونك في‮ دار المقري؟
‮أعرفهم،‮ ويعرفون أنني‮ أعرفهم‮.‬
‮ ما هي‮ نظرتك حاليا إليهم ؟
‮ أشفق عليهم،‮ لأنهم عبارة عن دواب على وجه الأرض‮.‬
‮‬أليس لديك أي‮ حقد عليهم؟ ‮
صراحة ليس لدي‮ أي‮ حقد عليهم،‮ أقولها صادقا،‮ لا أكن لهم أي‮ حقد شخصي،‮ ولكن العدالة هي‮ التي‮ يجب أن تقتص منهم،‮ هذا إذا كانت هناك عدالة دنيوية في‮ بلادنا،‮ لأن البعض منهم سلط الله عليهم العقاب في‮ الدنيا،‮ وتجلى العقاب في‮ ذريتهم،‮ وهؤلاء‮ يعرفون أنفسهم،‮ ولاشك أنهم سيدركون بأنني‮ أعنيهم بهذا الكلام‮.‬
‮‬وهل سبق لك أن التقيت بالبعض منهم؟ ‮
التقيت بالبعض منهم ( قالها بابتسامة عريضة وبانشراح واضح)‬،‮ واعتذروا لي،‮ وقالوا لي‮ إنهم كانوا‮ ينفذون الأوامر،‮ ولكن الأمر‮ يتعلق دائما بصغار الموظفين،‮ أما الكبار والآمرون، فلم‮ يسبق لي‮ أن التقيت بأي‮ أحد منهم‮.‬
‮كيف تمت إحالتكم على المحكمة ؟ ‮
‬كانت المحاكمة في‮ مراكش،‮ ولقد تم شحننا إلى هناك،‮ وحدث ذلك في‮ شهر‮ يناير،‮ أي‮ أن الطقس كان باردا جدا،‮ لقد وضعنا في‮ فاركونيتات، وتم قذفنا في‮ داخلها، وكأننا قطيع من الغنم في‮ طريقه إلى السوق أو إلى المجزرة‮.‬
‮من هو القاضي‮ الذي‮ مثلتم أمامه ؟
‮القاضي‮ اللعبي‮.‬
‮‬ما هي‮ التهم التي‮ كان‮ يوجهها لكم ؟
‮محاولة قلب النظام القائم، لإحلال نظام جمهوري‮ اشتراكي‮ مكانه،‮ محاولة القتل العمد،‮ حمل السلاح،‮ تزوير وثائق رسمية واستعمالها مثل جوازات السفر،‮ لقد وجدوا عندي‮ حوالي‮ 300‮ بطاقة وطنية،‮ ولائحة للأسلحة كان المرحوم بنونة قد نسيها عندي،‮ لائحة تضم أسماء الأسلحة بكل أنواعها،‮ لقد وجدها الأمن الإسباني‮ في‮ شقتي‮ وسلمها إلى الأمن المغربي‮.‬
من هم المحامون الذين كانوا‮ يترافعون دفاعا عنكم؟ ‮ج: المرحوم عبد الرحيم بوعبيد،‮ والمرحوم عمر بنجلون،‮ والأستاذ امحمد بوستة. وكذلك النقيب عبد الكريم بنجلون رحمه الله‮
‮‬وما هو الحكم الذي‮ أصدرته المحكمة ضدك؟ ‮ج: 10‮ سنوات سجنا نافذا،‮ وكنا في‮ الواقع محظوظين، لأنه خلال محاكمتنا وأثناءها وقعت محاولة الانقلاب التي‮ جرت في‮ الصخيرات،‮ فكانت المحاولة الانقلابية هي‮ السبب في‮ إصدار أحكام ضدنا إلى حد ما مخففة،‮ فقبل أحداث الصخيرات، التمس وكيل الملك أثناء محاكمتنا‮ 71‮ حكما بالإعدام‮ ،‮ والباقي‮ المؤبد،‮ ولقد كان التركيز شديدا علينا نحن الذين كانوا‮ يعتبروننا‮ أصحاب الخارج‬،‮ فالحكم بالإعدام علينا كان واردا بشكل كبير جدا.
‬ولكن المحاولة الانقلابية التي‮ جرت في‮ الصخيرات‮ غيرت مجرى الأحكام، وفرضت مسارا آخر للأحداث،‮ لقد انطلقت المفاوضات والاتصالات بين القصر والحركة السياسية. ولذلك جاءت الأحكام الصادرة ضدنا آخذة بعين الاعتبار المستجدات التي‮ طرأت،‮ وحتى بونعيلات الذي‮ كان الوحيد الذي‮ صدر ضده حكم بالإعدام، تم العفو عنه شهورا بعد ذلك‮.‬
‮ لماذا حكم على‮ سعيد بونعيلات لوحده بالإعدام؟ ‮
‬لا أعرف الجواب المضبوط،‮ ولكن أظن أنه كانت له سوابق‮.‬
‮‬وكلمتك الختامية؟
‬كلمتي‮ الختامية أريد أن أقولها للتاريخ،‮ فالذي‮ كان ملحا على تسليمنا للمغرب هو الوزير الأول الإسباني‮ آنذاك كاريرو بلانكو،‮ ولقد جرى تسليمنا، كما بلغنا فيما بعد،‮ في‮ إطار صفقة عقدت بين المغرب وإسبانيا، وكان عبد اللطيف الفيلالي‮ سفيرا للمغرب بمدريد وأحمد بلافريج وزيرا للخارجية،‮ وكانت المفاوضات جارية بين البلدين حول منطقة إفني‮ وملف الصيد البحري،‮ وجرى البحث في‮ تسليمنا إلى المغرب، فوافق الوزير الأول الإسباني‮ بحماس على التسليم.
‬وفي‮ سنة‮ 1972‮ زف إلي‮ وأنا في‮ السجن المركزي خبر يفيد‮ بأن كاريرو بلانكو تعرض لعملية اغتيال بتفجير لغم تحت سيارته، حيث ارتفع جسمه حوالي‮ 8‮ أمتار، وتشتت في‮ الفضاء،‮ وأعلنت منظمة إيتا الباسكية مسؤوليتها عن الاغتيال،‮ ولقد طلبت من أسرتي‮ أن تحضر لي‮ الحلويات، وأقمت بمناسبة اغتياله احتفالا كبيرا في‮ السجن. فالخلاصة مما قلته عن كون تسليمنا تم في‮ إطار صفقة عامة بين المغرب وإسبانيا، هي‮ أننا لم نكن ضحايا لأوفقير وحده، كما‮ يتم التأكيد على ذلك في‮ مختلف المناسبات وبشتى الوسائل،‮ لقد كنا ضحايا لآخرين،‮ وهؤلاء منهم من كان‮ يشتغل في‮ الأمن،‮ ومنهم من كان‮ يشتغل في‮ الدبلوماسية،‮ وهناك من كان إعلاميا،‮ فكل واحد من هؤلاء كان‮ يقوم بالدور الموكول إليه،‮ والهدف كان طبعا، هو سحقنا والقضاء علينا‮.‬
**********
1-محمد بنونة: شاب اتحادي قاد بتاريخ 3 مارس 1973 كومندو مكون من حوالي 160 عنصرا تسللوا من الجزائر بأسلحتهم الخفيفة إلى الأطلس المتوسط بقرية مولاي بوعزة وكان التحليل السائد لديهم أن الظرف ناضج للقيام بتمرد مسلح، وأنه بمجرد إطلاق الرصاصة الأولى ، ستثور قبائل الأطلس والجنوب، والتلاميذ والطلبة والعمال في المدن، وأن البلاد مهيأة لثورة عارمة وشاملة قد تحقق تغيير النظام ،‮ ولكن التمرد لم ينجح وقتل محمد بنونة في قرية مولاي بوعزة..
*ذاكرة الاعتقال السياسي
أصدر المجلس الوطني لحقوق الإنسان كتابا تحت عنوان: ( ذاكرة الاعتقال السياسي)، والكتاب يضم سلسلة من الحوارات كان أجراها الصحافي عبدالسلام بنعيسي في صيف سنة 2001 مع مجموعة من قدماء المعتقلين السياسيين لفائدة جريدة ( الأحداث المغربية).
لقد كان الصحافي ينشر كل يوم على امتداد ذلك الصيف حوارا مع واحد من ضيوفه لكي يروي للقراء تجربته مع الاعتقال السياسي، وكانت كل الحوارات مع قدماء المعتقلين السياسيين تنطلق من سؤال حول اللحظة التي تم فيها الاعتقال، أين كان الضحية؟ وما هو المكان الذي اعتقل منه؟ ليستمر الحوار متتبعا جميع المراحل التي مر منها المعتقل السياسي، سواء في مراكز الشرطة أو الأماكن السرية للاحتجاز وما هي أصناف المعاملات التي كان يتلقاها، من تعذيب واستنطاق وإكراه، إلى المحاكمات، ثم لحظة الخروج من السجن..
الكتاب عبارة عن ( تحقيقات) صحافية أجريت من خلال الحوارات مع قدماء المعتقلين السياسيين حيث كان كل واحد منهم ينقل القارئ من خلال ذاكرته إلى كل الأماكن التي مر منها طوال فترة الاعتقال، ليروي مشاهداته، ويتطرق إلى الأهوال، والمعاناة التي قاساها في تلك التجربة الرهيبة.
يضم الكتاب 21 حوارا مع 21 معتقلا، كلهم ذكور باستثناء فاطمة البيه التي عاشت هي بدورها تجربة الاعتقال السياسي وقبلت الحديث إلينا عن تجربتها القاسية تلك. الذين تمت محاورتهم هم ممن اعتقلوا في حقبتي الستينات والسبعينات. ويندرج إصدار هذا الكتاب في سياق حفظ الذاكرة وصونها للوعي بضرورة احترام حقوق الإنسان ونشر ثقافتها على نطاق واسع في مسعى لترسيخها حتى لا تتكرر مآسي الماضي الأليم..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.