لطالما كان الاعتقال الاحتياطي الذي تباشره النيابة العامة من أصعب وأعقد القرارات التي يتخذها قضاتها -الذين يوجدون في احتكاك يومي ومباشر وفي علاقة دائمة ومستمرة مع موضوع الاعتقال-، وذلك لما يطرحه موضوع تطبيقه من إشكالات تفرض أساسا التطبيق الصارم للقانون بما يحفظ ويوازن بين حقوق وحريات الأفراد المشتبه فيهم والمتهمين من جهة، وضرورات محاربة الجريمة وحماية النظام والأمن العامين وضمان سلامة المجتمع وأمنه من جهة أخرى، ولما يطرحه أيضا من إشكالات ذات أبعاد مسطرية إجرائية وموضوعية تحمل بين ثناياها أبعادا حقوقية. فلما كانت الحرية حق من الحقوق الأساسية والمقدسة للأفراد وأن المواثيق والعهود الكونية ذات الصلة بحقوق الإنسان والدساتير الوطنية تحمي حريات الأشخاص وكرستها ضمن بنودها ومقتضياتها، فإنها في نفس الوقت أعطت الصلاحية للقانون لإمكانية الاقتناص منها وأجازت له أمر تقييدها والحد منها في الأحوال وبالشروط التي يحددها، وهو نفس المنحى الذي سار عليه دستور المملكة لما أجاز للقانون وأباح له أمر تحديد حالات إلقاء القبض والاعتقال والمتابعة الجنائية للأشخاص، من خلال مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 23 منه. واعتبارا لكون الاعتقال الاحتياطي إجراء يمس بشكل مباشر حرية الأفراد، فقد عملت غالبية التشريعات الجنائية على إقراره وتنظيم مقتضياته في قوانينها الإجرائية وأسهبت في تحديد الحالات والشروط والأسباب المبررة والمنظمة للاعتقال المباشر من طرف النيابة العامة في نصوص إجرائية ومسطرية، وأسندت لقضاتها سلطة تقديره وتدبيره ومراقبة ظروفه وأسبابه ومبرراته بالشكل الذي يحفظ سلامة المجتمع وأمنه. فبالرجوع إلى المقتضيات القانونية المنظمة للاعتقال الذي تباشره النيابة العامة ونذكر هنا على الخصوص المواد 47 و73 و74 من قانون المسطرة الجنائية، نجدها قد أعطت الصلاحية لقضاة النيابة العامة سواء في حالة التلبس أو غير حالة التلبس بجناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس، أن يصدروا أمرا بالإيداع بالسجن في حق المشتبه فيه الذي اعترف بالأفعال المنسوبة إليه أو ظهرت معالم أو أدلة قوية على ارتكابه لها، والذي لا تتوفر فيه ضمانات الحضور أو ظهر أنه خطير على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال، أو كانت الجناية ليست من الجنايات التي يكون فيها التحقيق إلزاميا، مع وجوب تعليل قراراتهم. وباستقراء المواد أعلاه من قانون المسطرة الجنائية، وما جرى عليه العمل لدى النيابات العامة بالمحاكم، فإن الحالات المبررة للاعتقال لا تخرج عن الحالات التالية: - حالة التلبس بجناية لا يكون فيها التحقيق إلزاميا أو جنحة معاقب عليها بالحبس؛ - اعتراف المشتبه فيه بالأفعال المنسوبة إليه أو ظهرت معالم أو أدلة قوية على ارتكابه لها؛ - خطورة الأفعال المرتبكة على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال؛ - انعدام ضمانات الحضور. وعليه فإن الدفع المثار أمام المحكمة لا يخرج عن الحالات المذكورة أعلاه، ويؤسس على انتفاء هذه الحالات والمبررة لقرار الاعتقال، وذلك إما لكون الجريمة غير تلبسية، وإما لكون المتهم المعتقل يتوفر على ضمانات كافية للحضور كأن يكون موظفا عموميا أو صاحب مهنة حرة يزاولها في مكان معلوم العنوان، وإما لكون الأفعال لا تكتسي خطورة بالغة. وفي هذا الصدد جاء في حيثيات أحد الأحكام الصادرة عن المحكمة الابتدائية بأبي الجعد في جوابها على أحد الدفوع الرامية إلى رفع حالة الاعتقال عن أحد المتهمين، ما يلي: "وحيث إن قرار اعتقال المتهم المتخذ من طرف السيد وكيل الملك بعد استنطاقه للمتهم المعتقل احتياطيا على ذمة القضية، يعتبر مكنة أعطاها المشرع للسيد وكيل الملك بمقتضى المادة 47 من قانون المسطرة الجنائية، والتي تدخل في سلطة الملاءمة المخولة بالنظر لطبيعة الأفعال، والأشخاص المتابعين بها، ولا علاقة له بما تمسك به دفاع المتهم، خصوصا وأنه يتبدى مما ورد في صك المتابعة أن السيد وكيل الملك علل قراره القاضي بمتابعة المتهم في حالة اعتقال بخطورة الأفعال المرتكبة حسب تقديره. وحيث إن الأمر باعتقال المتهمين هو أمر موكول لسلطة الملاءمة المقررة لفائدة السيد وكيل الملك في الجرائم التي تدخل في صنف الجنح المعاقب عليها بعقوبة سالبة للحرية، وأن توافر ضمانات الحضور لم يعتبرها المشرع كشرط وحيد لتقرير متابعة المتهم في حالة سراح. وحيث إن ما ساقه مؤازري المتهم لتبرير وجهة نظرهم بعدم متابعة المتهم في حالة سراح، من كون هذا الأخير يتوفر على كافة ضمانات الحضور، وهي واقعة مادية لم يبرز ولم يوضح دفاع المتهم ماهيتها وصورها، لا يمكن حسب المعني المتحدث عنه أعلاه أن يشكل مبررا قانونيا للقول بمتابعة المتهم في حالة سراح ولو مع الكفالة المالية، وبيان ما ذكر أنه حتى ولو توفر المتهم على ضمانة الحضور يكون اعتقاله أو بقائه تحت الاعتقال مبررا قانونا، متى كانت خطورة الأفعال المستمدة من ظروف وملابسات اقترافها، وضمانا لحسن سير العدالة والمساواة بين سائر المواطنين في تطبيق القانون. وحيث إن الثابت من وثائق الملف وظروف وملابسات القضية، أن الأفعال الجرمية المنسوبة إلى المتهم هي على درجة مهمة من الخطورة بحسب وقائع ملف النازلة وتستدعي الحفاظ على النظام العام، كما أن متابعة النيابة العامة في حالة سراح أمام خطورة الأفعال المنسوبة إليه، من شأنه أن يبعث على الإحساس بالإفلات من العقاب، وبالتالي لا يتحقق الردع المطلوب في الدعوى العمومية بشقيه العام والخاص. وحيث يستخلص مما سبق وعلى عكس ما ذهب إليه دفاع المتهم أن قرار متابعة المتهم في حالة اعتقال لا يتسم بأي صبغة تعسفية". (حكم صادر بتاريخ 16/07/2020 في ملف جنحي تلبسي اعتقال عدد 292/2105/2020). كما جاء في إحدى علل حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بسلا في جوابها على أحد الدفوع التي تقدم بها دفاع أحد المتهمين ما يلي: "وحيث إن حالات التلبس بالجريمة من عدمها من الأمور المتعلقة بالموضوع وبإثبات الوقائع والتي يرجع أمر تقديرها إلى المحكمة، إلا أن الإجراءات المتعلقة بها يمكن أن تكون محلا لدفوع شكلية، وأن ما عابه دفاع الظنين من كون مؤازره استمع إليه في البداية أمام الشرطة القضائية كضحية ليجد نفسه في وضعية استنطاق أمام السيد وكيل الملك الذي قرر متابعته واستنطاقه لا يجد له أساسا في القانون بل على العكس من ذلك، وبصرف النظر عن كون النازلة تتعلق بجريمة متلبس بها أم لا، فإن المادة 47 من قانون المسطرة الجنائية في فقرتها الرابعة أجازت لوكيل الملك أن يستنطق المشتبه فيه في غير حالة التلبس ويطبق المسطرة المنصوص عليها في الفقرتين الأولى والثانية من نفس المادة (المتعلقة بالتلبس) في الأحوال المنصوص عليها في نفس الفقرة، وهو الأمر الذي سلكه وكيل الملك و طبقه بشكل موافق للقانون مما يبقى معه ما أثير بهذا الشأن غير مبني على أساس قانوني و يتعين رده". (حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بسلا بتاريخ 26/03/2019 في الملف جنحي رقم 1827/2103/2018 غير منشور). فإذا كان القانون قد أسهب في تحديد مبررات الاعتقال من خلال ما تضمنته مقتضيات المواد 47 و73 و74 المشار إليها أعلاه، فإن هناك مبررات واقعية لا تقل شأنا عن نظيرتها القانونية، أولها: ما أفرزته وكشفت عنه مرحلة البحث والتحري بخصوص الفعل الجرمي المرتكب، وثانيها: لحماية النظام والأمن العامين، وثالثها: لحماية مرتكب الجريمة نفسه من تبعات فعل الجرمي وما قد يستتبعه من ردة فعل من الضحية أو ذويه أو باقي أفراد المجتمع، ورابعها: لمنع المشتبه فيهم من محو أدلة الجريمة أو إخفاء معالمها أو التأثير على من عاينوها وحضروها من شهود، غير أن الرافضين لهذه المبررات سواء القانونية أو الواقعية منها يحملون قضاة النيابة العامة ما لا يطيقون ويربطون الاعتقال بمبررات ومؤيدات خاصة بهم، فبعضهم اعتمد على مبررات واهية لا تجد لها سندا ولا أساسا لا في القانون ولا في الواقع العملي، حيث تربط فئة منهم الأمر بالإيداع بالسجن بمزاج قاضي النيابة العامة الذي أصدره، وتربطه فئة أخرى بضعف التخليق داخل منظومة العدالة مما يدفع قضاة النيابة العامة إلى استخدام الاعتقال الاحتياطي كوسيلة لإبعاد الشبهات عنهم، في حين أن البعض الآخر يبرر رفضه للاعتقال ويعتبره بأنه فيه مس لحريات الأشخاص وقرينة براءتهم قبل إثبات الفعل الجرمي، وأن كل شك وجب أن يفسر لصالحهم. ولعل ما يزيد من الأعباء الملقاة على قضاة النيابة ويثقل كاهلهم، نظرة المواطنين عامة والمتقاضين خاصة للعدالة وتقييمهم لها، ذلك أن كثيرا منهم لا يعترفون بنجاعة العدالة ولا يعتبرونها فعالة إلا إذا تم الاعتقال الفوري لخصومهم وإيداعهم بالمؤسسات السجنية، وأن أي إجراء غير ذلك يقابل بعدم الرضا من طرفهم، بل أكثر من ذلك فهناك من يعتبر ذلك مؤشرا على عدم نزاهة العدالة ونجاعتها أو انحيازها لطرف عن آخر، كما أن انتصارهم لمصالحهم الشخصية على حساب القانون يبقى المحرك الأساسي لسوء فهم بعض قرارات النيابة العامة وبالتالي تبني ردود أفعال قد توصف بالعنيفة والمتشددة تجاه هذه القرارات. وإذا كان الاعتقال الاحتياطي يبقى تدبيرا مشروعا شُرع ليتخذ في أضيق الحالات -باعتباره آلية قانونية ذات حمولات وتبعات حقوقية واجتماعية ثقيلة يتخذ في حق أشخاص ُتفترض دستوريا ومسطريا قرينة براءتهم- كل ما توفرت ظروفه وشروطه ويحق لقضاة النيابة العامة إيقاعه على من توفرت فيهم حالاته من الأشخاص المشتبه فيهم أو المتهمين، فإنه وجب على قراراتهم أن تكون في منأى عن كل تجاوز أو تعسف أو انعدام للشرعية وأن يتقيدوا بشروط تطبيقه ومراقبة ظروفه وأسبابه ومبرراته بالشكل الذي يحفظ سلامة المجتمع وأمنه، وفي هذا الصدد جاء في إحدى علل حكم صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط" وحيث...... لئن كانت سلطة النيابة العامة تقديرية عند اتخاذ قرار الاعتقال الاحتياطي، فإن هذا التقدير لا ينبغي أن يتسم بالتجاوز أو عدم المشروعية، بل ينبغي أن يتقيد بشروط تطبيقه بالشكل الذي يحفظ سلامة المجتمع وأمنه دون الإخلال بقرينة البراءة التي تعتبر مبدأ دستوريا واجب الاحترام......."، (حكم عدد 2605 صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 11/07/2017 في الملف عدد 182/7112/2017). فلما كان الاعتقال يخضع للسلطة التقديرية لسلطة الملاءمة المخولة للنيابة العامة وفقا لما تم بسطه وتبيانه أعلاه، وهو الأمر الذي أكدته محكمة النقض من خلال أحد قراراتها "وحيث إن إحالة الطاعن على المحكمة في حالة اعتقال يخضع للسلطة التقديرية لسلطة الملائمة المخولة للنيابة العامة كلما ارتأت أنه لا يتوفر على ضمانات الحضور وبالنظر لطبيعة الأفعال المنسوبة إليه". (قرار صادر عن محكمة النقض بتاريخ 19/11/03 تحت عدد 3288 في الملف عدد 117495 منشور بالمجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات عدد 5 ص 137 وما يليها)، فإن ذلك لا يمكن أن يكون أبدا مبررا للغلو والتمادي في اللجوء إليه، ولذلك فإن من الأولويات التي تضعها السياسة الجنائية مسألة ترشيد الاعتقال الاحتياطي وعقلنته، وهو ما يظهر بجلاء من مختلف المناشير والدوريات التي ما فتئت رئاسة النيابة العامة توجهها لجميع النيابات العامة لدى مختلف محاكم المملكة، لعل آخرها الدورية عدد 44 س/ ر ن ع بتاريخ 16 شتنبر 2020 والتي حثت من خلالها على ضرورة ترشيد الاعتقال الاحتياطي، وكذا من خلال الندوات التي تشارك فيها أو يشارك فيها قضاتها والتكوينات المستمرة التي تبرمجها لفائدتهم ذات الصلة بالموضوع. فصحيح أن النيابات العامة مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى بتحمل مسؤوليتها المهنية أثناء اتخاذ قرار الإيداع بالسجن بمعزل عن أي مؤثرات معنوية كانت أو مادية، وجعل هاجس الموازنة بين حقوق وحريات الأفراد المشتبه فيهم والمتهمين من جهة، وضرورات مكافحة الجريمة وحماية النظام والأمن العامين وضمان سلامة المجتمع وأمنه من جهة أخرى نصب أعينها، إلا أنه ينبغي التأكيد على أن هناك العديد من الأسباب التي تحول دون عقلنة الاعتقال وترشيده وتقييده وضبط حالات اللجوء إليه في حالة عدة، وهي أسباب تعزى بدرجة أولى وبصفة أساسية إلى النصوص القانونية، ويتجلى ذلك في محدودية بدائل الاعتقال بالنسبة للنيابة العامة، ذلك أن هذه الأخيرة لا تتوفر من البدائل إلا على الكفالة المالية أو الضمانة الشخصية، فضلا عن أن المشرع ومن خلال المنظومة القانونية يركز على المقاربة الزجرية في تعامله مع الأفعال الجرمية ويفرد لها عقوبات زجرية سالبة للحرية، بالإضافة إلى تشبت المتقاضين خصوصا الضحايا منهم أو ذويهم بضرورة الاعتقال الفوري والعقوبات السالبة للحرية، كمعيار ومؤشر للثقة في العدالة ونزاهتها وتقييم جودتها ونجاعتها. فبين النصوص التشريعية والنظرة الاجتماعية غير المنصفة لعمل النيابة العامة تبقى هذه الأخيرة بين المطرقة والسندان، مطرقة النصوص التشريعية وسندان النظرة الاجتماعية، لذلك سيكون من العبث بل عدم الموضوعية حصر مسؤولية ارتفاع عدد المعتقلين في نطاق مؤسسة النيابة العامة خاصة والقضاء عامة بل إن هناك مجموعة من العوامل الأخرى التشريعية والمؤسساتية التي تتداخل في ما بينها لتشكل من جهتها أحد الأسباب الرئيسية لعدم عقلنة وترشيد الاعتقال في أحايين كثيرة، وأن فهم هذه العوامل سيساعد على فهم مجموعة من القرارات التي تتخذها النيابات العامة التي تعمل في ظل سلطة الملاءمة. *باحث في العلوم الجنائية