بعد مخاض غير مسبوق في التاريخ السياسي الأمريكي، تم الإعلان بشكل غير مسبوق كذلك، عن الرئيس رقم 46 للولايات المتحدةالأمريكية. انتظر الأمريكيون أربعة أيام لمعرفة الفائز في انتخابات مثيرة بأصوات متقاربة جدا، ولم يكن الإعلان على لسان الفائز بعد تلقيه تهنئة مجاملة من قبل المترشح الخاسر كما يقتضيه العرف الديمقراطي الأمريكي، بل كان الإعلان من قبل وسائل الإعلام الكبرى في البلاد. بلغة الأرقام، وبمنطق النظام الديمقراطي، خرج ترامب من سباق الرئاسيات. لكنه بالمنطق "الترامبي" لم يخرج، ويهدد بمعركة قضائية غير مسبوقة كذلك، وبترك الساحة السياسية مليئة "بصغار ترامب" حتى يجعل الرئيس المنتخب لا ينعم بالفوز بعد تجرئه على الظاهرة الترامبية غير المسبوقة في التاريخ الأمريكي. ليس من الصدفة أن يكون أول المهنئين للرئيس الفائز، رئيس وزراء كندا جيمس ترودو متبوعا بدقائق معدودة بالمستشارة الألمانية ميركل. فالأول لم يكن على وفاق تام مع سياسة ترامب التي فرضت رسوما جمركية إضافية على السلع الكندية، والمستشارة الألمانية لم تخف امتعاضها من تصرفات ترامب مع الزعماء الأوروبيين ومن سياساته التي تقوم على أساس أن أوروبا تشكل عبئا اقتصاديا على أمريكا، وهو بذلك كان يبني جميع قراراته الخاصة بالقارة العجوز. لم تكتف ألمانيا بالتهنئة الصادرة عن ميركل، بل عبَّر وزراء ألمان، هم أيضا، عن هذه التهنئة على رأسهم وزير المالية. بعد هذه التهنئات القوية التي لا تُخفي ابتهاجها برحيل ترامب وتطلعها لإعادة الدفء للعلاقات الأوروبية الأمريكية مع الرئيس الجديد، تواترت التهنئات الأخرى الصادرة عن الرئيس الفرنسي، والهولندي ورئيسة المفوضية الأوروبية ورئيس المجلس الأوروبي، دون إغفال تهنئة جو بايدن من قبل الجمهوري ميت رومني ألد خصوم ترامب من داخل حزبه. ونذكر كذلك تهنئة الرئيس اللبناني، التي تحمل إشارة لما عانته بلاده من سياسة ترامب المتحيزة لإسرائيل على حساب المصالح اللبنانية. لكن أقوى تعبير عن رحيل ترامب أتى من إيران التي اعتبرها هذا الأخير العدو الأول، وفرض عليها ما أصبح يعرف بالعقوبات الاقتصادية القصوى، وكانت عداوتها هي الثابت في سياسة ترامب في الخليج والشرق الأوسط. إذا كان أقوى رد على رحيل ترامب هو من إيران، فإن أقوى رد مساند لترامب سمعناه من رئيس وزراء إسرائيل الذي عبر عن موقف غير مسبوق في العلاقات الدولية حيث قال إنه لن يهنئ الرئيس الجديد قبل أن يقول القضاء كلمته. وهو تعبير عن الأسف الشديد من فقدان حليف كان يريد إعطاء إسرائيل كل شيء، وتدعيمها في كل شيء. إلى جانب التهنئات القوية، نجد البعض منها أقل حماسا آتيا من الهند التي كانت تعول على الدعم الكبير لترامب. وهي الآن تعقد الأمل على نائبة الرئيس الجديد، كاملا هاريس ذات الأصول الهندية. دول أخرى لم تكن أكثر حماسا في تهنئة الساكن الجديد للبيت الأبيض، نذكر منها مصر التي تلقى رئيسها دعما مباشرا من ترامب ضد التظاهرات التي شهدتها بعض المدن المصرية قائلا له بأن جميع الدول تشهد تظاهرات. لكن التخوف الكبير لمصر يكمن في نائبة الرئيس الجديد التي تزعمت حركة حقوقية من داخل الكونغريس الأمريكي تندد بوضعية السجناء في السجون المصرية. نجد كذلك دول الخليج التي عرفت أسوأ علاقات بينها في عهد ترامب الذي حافظ على علاقات متينة مع الجميع ليستفيد من المُحاصِر ومن المُحاصَر على حد سواء. بريطانيا هي الأخرى لم تكن متحمسة لتهنئة الساكن الجديد للبيت الأبيض. فترامب وعد رئيس وزراء بريطانيا بإقامة اتفاقية للتبادل الحر فور خروجه من الاتحاد الأوروبي. وهو لا يعرف بعد هذه النتيجة للانتخابات الأمريكية مصير هذا الوعد. خلال حملة ترامب للانتخابات الرئاسية لم نشهد دعم الرؤساء الجمهوريين السابقين لترامب، وهو ما يعكس حدة الانقسام الذي تسبب فيه هذا الأخير لحزبه. عكس جو بايدن الذي سانده أوباما والذي هنئه بتغريدة هي برنامج عمل آني قبل أن تكون تهنئة حيث قال: "كورونا أولوية، نظام اقتصادي وقانوني غير عادل، ديمقراطية في خطر ومناخ مهدد". هكذا يمكن معرفة أولى قرارات الساكن الجديد للبيت الأبيض على لسان أوباما. ترامب يخاطبكم ويقول لكم إذا ذهب ترامب فقد ترك في مظهر غير مسبوق "ترامبات" صغارا ستواصل المسير حين تكبر. *كاتب وباحث