أهم نظريات المعرفة السابقة لبياجي وجد بياجي تيارين رئيسيين يسيطران على العلوم الفلسفية، هما التيار التجريبي والتيار العقلاني: 1. التيار التجريبي ينحدر هذا التيار من الفلسفة الأنكلو- ساكسونية التي سادت في القرن الثامن عشر، وأهم رواده هم John Locke وDavid Hume وJohn Stuart Mill. ويسمى هذا الاتجاه بالنزعة التجريبية الترابطية. إنه ذو نزعة تجريبية لأنه يعتبر أن كل معرفة تنبثق عن التجربة الحسية، أي أن مصدر المعرفة هو الواقع الخارجي، وليس للفطرة أي تأثير على أفكارنا ومعارفنا. وقد ذهب (لوك) إلى القول إن "العقل إنما هو صفحة بيضاء خال من كل الصفات وليس فيه أية أفكار"، وإن هذا العقل إنما يتزود بالمعرفة عن طريق التجربة، "فمن التجربة وحدها تنبع جميع معارفنا... وتدور ملاحظتنا إما حول موضوعات حسية خارجية، أو حول عمليات داخلية لعقولنا المدركة والمنعكسة في داخلنا... إن هذين الملاحظتين هما منبعا المعرفة، منهما تنشأ جميع الأفكار التي لدينا". ومجمل القول، إن حواسنا تنقل إلى العقل عدة إدراكات حسية متميزة عن الأشياء، فتتكون لدينا الكيفيات الحسية، وهذا هو "المصدر الرئيسي لمعظم الأفكار التي نحصل عليها والتي تعتمد كلية على حواسنا" (جان بياجي "الابستمولوجيا التكوينية"، ترجمة د. السيد نفادي، 2004، بيروت، ص. 17). وإنه ذو نزعة ترابطية لأن هذه الأفكار البسيطة القادمة من تجاربنا، باعتبارها أفكارا أولية، ترتبط فيما بينها على مستوى الذهن بشكل اوتوماتكي لتشكل المعارف الأكثر تعقيدا. وعليه، فإن تحصيل المعرفة ينتج عن تراكم تجارب وأحداث قادمة من الخارج، وتلتصق بالذهن ثم يتم تخزينها في الذاكرة. 2. التيار العقلاني ساد التيار العقلاني في القرنين 17 و18، ووضع لبناته الأول كل من رينه ديكارت R.Descart وليبنتز Leibniz. ويرى هذا الاتجاه أن المنطق والعقل والأخلاق هي فطرية في الإنسان، تنتمي بالفعل وبالقوة إلى "الطبيعة الإنسانية"، إنها سابقة عن الحياة الاجتماعية. وفي هذا الإطار، أكد ديكارت بدوره على فطرية الأفكار وعلى المعرفة المستندة إلى قاعدة الوضوح والتميز، والمعتمدة على "الحس السليم"، أي القدرة على التحليل المنطقي باعتباره صفة لصيقة بالعقل الخالص. وبذلك، فإن المعرفة المنبثقة عن هذا المنظور لا تقوم على محتويات تجريبية – حسية، بل تنتج عن تفكير منطقي استنباطي؛ إذ كان هذا التيار يرى أن العالم منظم حسب قوانين منطقية، ويمكن معرفته عبر العقل والاستدلال المنطقي انطلاقا من مقدمات صحيحة وبديهية، دون اللجوء إلى المعطيات الحسية. بمعنى أن الأفكار تعود إما إلى الحقائق الأولية التي يضعها العقل، وإما إلى الحقائق المشتقة التي يمكن ردها إلى هذه الحقائق (انظر في هذا الخصوص: رينيه ديكارت: التأملات في الفلسفات الأولى. ترجمة د. عثمان أمين، الأنجلو مصرية، 1968. ص. 93 – 111، و رينيه ديكارت: مقال المنهج. ترجمة محمود محمد المخضيري. الهيئة العامة للكتاب 1985. ص. 161 – 171). 3. نظرية المعرفة عند كانط قامت فلسفة كانط النقدية على نقد المذهبين معا. فرغم أنه شارك لوك وهيوم موقفهما النقدي حول استنباط عالم الوقائع من مبادئ أولى ندركها بالحدس، ووافقهما في الاعتقاد بأن المعرفة الوحيدة التي نستطيع الحصول عليها عن العالم وعن أنفسنا هي المعرفة القائمة على الخبرة الحسية، غير أنه يرى على الرغم من أن معرفتنا تبدأ من الخبرة لكنها لا تشتق جميعها منها، لأن من الممكن أن تتألف معرفتنا – حتى التجريبية منها – مما نستقبله من الانطباعات، ومما تضيفه ملكة معرفتنا من ذاتها (أي العقل) (محمود زيدان: كنط وفلسفية النظرية. دار المعارف، القاهرة،1979. ص. 54). هكذا حاول كانط بطريقة ما أن يؤسس نظرية معرفية انطلاقا من خلق تركيب من المذهب التجريبي الحسي والمذهب العقلي، وذلك على أساس تجنب، من جهة، الشك الذي تحدث عنه هيوم عندما اعتبر أن انطباعاتنا الحسية يمكن أن تنخدع وتتناقض، وتجنب، من جهة أخرى، العقيدة العقلية الميتافيزيقة الجامدة. هكذا لجأ كانط إلى البحث عن تكامل بين التيارين، ذلك أن التجريبيين (خاصة هيوم) أكدوا على دور الحدث الواقعي والخبرة في تحقيق المعرفة، غير أنهم لم يتحدثوا عن أي شيء منظم وعقلي في الطبيعة. في حين أن العقليين قد رأوا أن في الطبيعة نظام ومنطق، مما جعلهم يعتقدون أنه من الممكن اكتشاف النظام الطبيعي واستخلاصه من مبادئ أولى اعتمادا على العقل دون الالتجاء إلى الوقائع. وقد بدا لكانط أن هناك حاجة إلى المزج بين الوقائع والعقل، عبر رؤية تسعى إلى تنظيم ومفهمة معطيات التجربة من جهة، وملأ بنيات العقل الفارغة بالوقائع من جهة أخرى. وعليه، انتهى كانط إلى القول إن الانطباعات القادمة من التجربة لا تصبح معرفة إلا حينما يضفي عليها العقل قوانينه، أي ما سماها ب"مقولاته" catégories، حينها تصبح لها معنى ودلالة ومنطق وسياق. هكذا، فكل ما ينظم ويضفي بنية على خبرتنا لا يمكن أن ينشأ من الخبرة، بل لا بد من أن تكون هذه القدرة على التنظيم والبناء والمفهمة من داخلنا. وبتعبير آخر، افترض كانط وجود ثنائية مؤلفة من الذات ومن الشيء. وبما أن القوة المنظمة لا يمكن أن تكون في الشيء، فيجب أن تكون في الذات. تلك كانت الثورة الكوبرنيكية في نظرية المعرفة عند كانط التي تعتبر أن كل ما ينظم ويبني خبرتنا لا يصدر عن الأشياء التي هي موضوع معرفتنا، وإنما من أنفسنا. فكما قلب كوبرنيك وكبلر نظرة الإنسان إلى العالم حينما رفضا العقيدة التقليدية التي تقول إن الأرض والإنسان هما في المركز الذي لا يتحرك في العالم. ودافعا، في مقابل ذلك، عن الفرضية التي ترى أن الإنسان والأرض يدوران حول الشمس. فبالطريقة نفسها عكس كانط الرأي السائد الذي قال إن المعرفة تحدث عندما تتأثر الذات بالشيء، إلى القول بأن الشيء هو الذي يتأثر بالذات، أي أن الشيء كما نعرفه هو الذي يتشكل ويتألف ويتكون بطريقة الذات. هذه النقلة في الافتراضات الإبستمولوجية سماها كانط الثورة الكوبرنيكية في الفلسفة. وذلك كان جوهر نظرية المعرفة عند كانط (غنار سكيربك ونلز غيلجي. تاريخ الفكر الغربي. ترجمة د. حيدر حاج اسماعيل. 2012. المنظمة العربية للترجمة. بيروت. ص 573). هكذا بين كانط أن العقل لا يعكس العالم الخارجي كما هو، بل إنه في الواقع يخلق هذا العالم من حيث تركيبه المنطقي. فالتجربة بدون نشاط العقل لا تستطيع أن تقدم إلينا إلا سلسلة من الأحوال العقلية المتتابعة مثل الصور الفتوغرافية. لقد شرح لنا كانط أن "السبب الذي يجعلنا نفكر في العالم تفكيرا منظما وعلميا لا يكمن في كون العالم المادي عالما رياضيا، بقدر ما يكمن في كون العقل، الذي يقوم بعملية التفكير، يفكر بطريقة رياضية. فالعقل آلة منطقية، تطبع الأفكار العقلية تماما كما تطبع آلة الطبع الكلمات أو كما تطبع الآلة الكاتبة الحروف. فأيا كان ذلك الذي يدركه العقل، وأيا كان ذلك الذي يقدمه العقل في نهاية الأمر إلى نفسه، فهو دائما منطقي وعلمي، نظرا لكون الصور أو البنيات العقلية التي تؤلف المعرفة مبنية على مبادئ علمية" (جون لويس: مدخل إلى الفلسفة ترجمة أنور عبد الملك. 1978. دار الحقيقة. بيروت. ص 130). لكن ما هي هذه القوة المنظمة في "داخلنا"؟ سلم كانط بوجود شيء ضروري وصحيح كليا في معرفتنا، أي وجود بنية فكرية أو "صور" أو ما سماها "مقولات" ترانسندنتالية transcendentales قبلية في العقل، أي سابقة للخبرة ومستقلة عنها. كما افترض أن جميع البشر لهم هذه "الصور" أو البنيات الرئيسية ذاتها، وهي فطرية في البشر وثابتة وصحيحة صحة كلية. فهي إذن موجودة عند جميع الذوات كشرط إبستيمولوجي لإمكانية المعرفة الموضوعية، أي المعرفة الحقة. وهكذا فلا يمكن لمحتويات الخبرة أن تصبح معرفة إلا بهذه الشروط الإبستيمولوجية. وعليه، فإن معرفة جميع البشر يجب أن تأخذ شكل هذه الصور وتخضع لتلك الشروط العقلية الترانسندنتالية. وبصيغة أخرى، إن كل معرفة تبدأ بالخبرة، أي أن محتوى المعرفة يحدده الخارجي الموجود في ذاته، لكننا نطبع هذا المحتوى بصورتنا، بحيث لا تصبح الانطباعات الحسية معرفة إلا عندما تبنى وتنظم وتفهم بواسطة عقلنا. لذا، فإن المعرفة كلها تشكلها الذات. ولذلك، افترض كانط وجود أحكام تركيبية قبلية عند جميع الذوات العارفة، التي تشكل شروط الخبرة المنظمة، أي المعرفة كما ندركها. وهكذا سعى كانط من خلال نظريته في المعرفة هذه أن يجنب الفلسفة الشك الذي كان لدى هيوم حول الانطباعات التي تمدنا بها الحواس، ويجعلها تقوم على أساس آمن كما العلوم الطبيعية (ميكانيك نيوتن خاصة). لذا، اعتبر أن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها العلم الطبيعي هي المبادئ ذاتها التي يجب أن تؤطر المقولات والتصورات والبنيات (الأفكار الترنسندنتالية المتعالية على الخبرة = العقل الخالص) التي تنظم الانطباعات القادمة من الخارج. وقد اعتبر هذه المبادئ قبلية، متعالية، سابقة على الخبرة، ومستقلة عنها. أي لا تتأثر بالأخطاء أو الشكوك المرتبطة بالإحساسات. لذا، فإن هذه المبادئ أو المقولات العقلية هي حقيقية ويقينية وثابتة (وهنا نرى تأثر كانط بأفلاطون وعالمه العلوي). ومهما يكن تأويل هذه المبادئ، فالنقطة الحاسمة هي أنها، بالمعنى الإبستيمولوجي، سابقة للمعرفة التجريبية-الحسية. ونشير هنا على سبيل المثال إلى بعض هذه المبادئ التي أشار إليها كانط والتي تتمثل في صور المكان والزمان والسببية ومبدأ عدم التناقض، إلخ. إن مبدأ السببية مثلا الذي يقول "لكل حادث سبب"، يجعلنا لا نحتاج إلى العودة إلى الخبرة لكي نعرف أن لكل حادث سبب ما، لأن معرفة السببية موجودة في صور تفكيرنا. وإذا سمعنا عن "وقوع حدث" دون ذكر المكان والزمان والسياق الذي حدث فيه، ودون الإشارة إلى سبب وقوعه، فلا يمكن أن يكون لذلك الحدث معنى، لأن أفكار المكان والزمان والسببية ضرورية لحصول المعرفة، لأن معرفتنا يجب أن تحمل علامة هذه المبادئ لتكون مفهومة، أي لتكون معرفة. فالمكان والزمان والسببية من شروط إمكان معرفتنا. وإذا قيل لنا إن "هذا الشيء هو، في الوقت نفسه، أحمر وأخضر"، فلا نحتاج للعودة إلى الخبرة للتأكد من ذلك، لأن هناك خرقا لمبدأ عدم التناقض الموجود في تفكيرنا، وبالتالي فإن هذه المعرفة غير ممكنة. وهكذا، فإن هذه المقولات والمبادئ الترنسندنتالية الموجودة في تفكيرنا هي التي تضفي المعنى المعرفي للحدث، وتشكل شروطا لتكون معرفتنا ممكنة. إن المهمة الأولى للفلسفة بعد كانط أضحت إذن دحض "مقولاته" الثابتة الميتافيزيقية. ذلك ما حاول بالفعل هيغل القيام به، حيث أحدث هيغل ثورة في المقولات؛ إذ جعلها تشمل طيفا أوسع، حيث جعلها تشمل الثقافة والإيديولوجيات السائدة، أي أنها أضحت كل ذلك الذي منه نتكلم. هكذا عدل هيغل شروط كانط الترانسدنتالية وحولها إلى شروط اجتماعية وإيديولوجية وثقافية. كما اعتبر هيغل أن هذه المقولات المكونة (كسر الواو) للمعرفة هي ذاتها مكونة (نصب الواو)، وتكوين هذا المكون (كسر الواو) هو التاريخ. فهي إذن ذات نشوء تاريخي، وبالتالي ليست ثابتة ويقينية بل هي متغيرة وقابلة للتطور. هذا التطور المعرفي، حسب هيجل، هو سيرورة تحول دائمة من اللاكمال في اتجاه الكمال. انتقد بياجي (مثل هيغل) هذه "المقولات المطلقة" واعتبر أنها ليست معطى جاهزا منذ البداية، بل اعتبرها نتيجة بناء مستمر تقوم به الذات في تفاعل مع العالم الخارجي، ويكون هذا البناء إبداعيا، حيث تولد المعرفة القديمة وتؤطر الانفتاح على احتمالات جديدة، وبالتالي تغدو هذه المعرفة ضرورية لبناء وتطور المعرفة. هكذا تحولت "مقولات كانط" مجرد محطة من مراحل البناء المعرفي، حيث إن كل مقولة قابلة للانفتاح على احتمالات وإمكانيات جديدة. إذن، ما هو معطى في الحقيقة هو أن البنية السابقة تحتوي على شيء من اللاحقة، لكنها لا تحتويه كبنية، بل تحتويه كاحتمال. وهذا الاحتمال هو سيرورة يتم إثراؤها تدريجيا مع تطور هذه البنيات، حيث إن البنية الضعيفة تفتح احتمالات قليلة والبنية القوية تفتح احتمالات أكثر، بل تخلق إضافات وإمكانيات جديدة. إنها سيرورة بناء تشبه سيرورة تطور وبناء تاريخ العلوم والرياضيات التي تستغل باستمرار هذه الاحتمالات وتحينها وتحولها إلى حقائق. غير أن بياجي حافظ على الإطار العام لمنظور كانط، حيث اعتبر كذلك أن المعرفة لا توجد في الشيء كما اعتقد التجريبيون ولا توجد في الذات كما اعتقد العقلانيون، لكنها نتيجة تفاعل الذات مع العالم الخارجي، لذلك يقول بياجي "أشعر أني في العمق ذو نزعة كانطية، ولكن كانطية التي ليست ثابتة [...] بل كانطية دينامية" (Théories du langage. Théorie de l'apprentissage, débat entre J.Piaget et N. Chomsky ; éd. du seuil, 1979, p. 227) (الترجمة لنا). لقد سلك بياجي الاختيار الصعب لأن إرجاع البنيات المعرفية إلى الفطرة أو الوراثة يريح من أوجاع التفسير والبرهنة، لكن ادعاء أنها تتشكل وتبنى وتتجدد يستدعي الكثير من البحث والتجريب، وذلك ما قام به بالفعل لمدة خمسين سنة من الاشتغال حول الموضوع. وهذا ما سنتطرق له في الحلقات المقبلة من خلال هذه المقاربة الأركيولوجية لبرنامج بياجي وإبستيمولوجيته التكوينية. غير أنه في الختام لا بد من الإشارة إلى تأثير هذه النظريات المعرفية على التطبيقات البيداغوجية. لقد أدى التيار التجريبي الترابطي إلى ظهور المدرسة السلوكية التي ترى في مجال التعلم "أننا لسنا سوى ما نتعلمه"، أي أن هذه المدرسة تعتمد، على المستوى البيداغوجي، على التكوين القادم من الخارج. أما التيار الذي يأخذ بعوامل الفطرة والنضج الداخلي، فإن التكوين يصبح مجرد تمرين "عقل" مكون منذ البداية (قبلي). في حين إن السيكولوجية التكوينية عند بياجي ذات طبيعة بنائية، أي أن التكوين يتحقق بتجاوز مستمر لما يتم بناؤه تدريجيا، باعتبار أن المعرفة تبنى ولا تنقل، وهذا التحول الإبستمولوجي يقود بيداغوجيا إلى التركيز على نشاطات الطفل التلقائية.