تشغل أمريكا العالم. تنحني أمامها الأعناق. أعناق القادة والشعوب. القادة للبقاء فوق الكراسي، والشعوب تحت تأثير سحرها والقوة والجبروت. انظر إلى طالبي الهجرة، عبر العالم، "السرية"، و"البطاقة الخضراء"، و"الزواج".. تحصد أمريكا، منذ خرجت من عزلتها، الأرواح كما يحصد الفلاح سنابل القمح.. وتدعوك هوليود إلى ولائم الفرجة عليك.. وقد تجاوز عدد قطع السلاح في أمريكا عدد السكان.. فهل الناس على دين الحكام؟ لتاريخ نشأة البلد أثره في سلوك "مواطنيه" أو ساكنته.. بينما تشغل انتخابات أمريكا العالم، وينفرد ترامب بنصيب أَسَدَيْن في هذه الصراع. قرابة العشرين كتابا صدرت هو موضوعها: مدحا وهجاء سياسيا، وشخصيا.. وشغل الناس كما شغلتهم كورونا.. ويتابع أنور مجيد، في هذا النص، "ثورة أمريكية جديدة"، قراءة المجتمع الأمريكي، وسياسات بعض نخبته الحزبية، وصراع الحزبين، الفيل والحمار.. قراءة تتناول بعض ما كتب، وتقدم خلاصات للمتابعة اليومية للواقع، وتحلل الآفاق المستقبلية.. فإما أن تتغير أمريكا، وتنخرط في التخفيف أو الحد من اتساع الهوة بين الدول الفقيرة، نتيجة نهب الاستعمار، وتضمن فتح باب نحو استمرار العصر الذهبي لها وللعالم أو... ثورة أمريكية جديدة بينما ينتظر العالم نتيجة انتخابات ال3 من شهر نونبر في الولاياتالمتحدة، لا يبدو أن أحدًا يدرك أن أمريكا تقف على شفا لحظة تحول كبرى. يشتغل الديمقراطيون على منصة يمكن القول إنها الأكثر تقدمية في الخمسين سنة الماضية أو أكثر من ذلك. إن أجندة بايدن-هاريس ثورية بامتياز؛ فهي تغطي مجموعة واسعة من القضايا الاجتماعية، وتعد بتعليم جامعي مجاني للعائلات التي تحصل على أقل من 125.000 دولار في السنة، وبخيار عام جديد للتأمين الصحي، ووضع تدابير لحماية حقوق الأقليات (بمن في ذلك المسلمون الأمريكيون) وكبار السن والسجناء والعديد من الجماعات الأخرى. يمكن أن يكون لهذه الرؤية الديمقراطية الجديدة، المستوحاة من المتمردين الشباب في الحزب، ومن بينهم ثلاث نساء من أصول بورتوريكية، وصومالية، وفلسطينية، تأثير كبير على الحياة الأمريكية في العقود المقبلة. وإذا تحول كل بند في برنامج بايدن-هاريس أو منصتهما إلى قانون، فمن الممكن أن نتصور انبعاث الولاياتالمتحدة - أخيرًا! - كواحدة من أكثر الدول ليبرالية في العالم. وبكل بساطة، إن الحزب الجمهوري القديم لا يضاهي برنامج الديمقراطيين القوي القائم على إعادة تنشيط المجتمع الأمريكي من خلال تنفيذ سياسات العدالة الاجتماعية في كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية. ومع ذلك، فإن الديمقراطيين لا يخوضون منافسة ضد الجمهوريين، بل ضد ترامب، الفوضوي غير المنضبط الذي يكون ربما وجه ضربة قاتلة للحزب الجمهوري عندما فاز في انتخابات عام 2016. وبمساعدة الموالين من جيشه المتنوع المشكل من الرعاع وعبرهم، تمكن ترامب من قلب إجماع واشنطن والمعايير الدبلوماسية العالمية من أجل خدمة المصالح الاقتصادية لبلاده. ولما علم أن الطبقة الوسطى والطبقة العاملة قد تخلت عنهما النخب الاقتصادية والثقافية، فقد اختار النضال من أجل إعادة تصنيع أمريكا وإنشاء اقتصاد قوي من شأنه أن يرفع الجميع، من العمال ذوي الياقات الزرقاء إلى المزارعين. ومثلما حدث لمؤيدي البريكست في المملكة المتحدة، وأصحاب السترات الصفراء في فرنسا، يرى الترامبيون أن وظائفهم يتم تصديرها وتحويلها نحو الصين وفيتنام والمكسيك وأن المهاجرين الجدد غير المهرة يحتلون أو يحصلون على الوظائف بأجور منخفضة. يكمن مشكل أسلوب ترامب المنمق والطنان في أنه ليس الرجل المناسب لتحديد أجندته أو رؤيته للأمة. ومثل الملاكم في حلبة التزلج، فهو يتصرف، في السراء والضراء، بغريزة المقاتل. يعرض سياساته وأفعاله في أنصاف جمل وعندما يتعرض للهجوم، يضرب خصمه مثلما يضرب مايك تايسون الغاضب من ينازله. وهناك عدد من سياساته المميزة التي وقع عليها مثل مقاومة ممارسات الصين المفترسة والناهبة، واستدعاء حلفاء أمريكا الأوروبيين بشأن مساهماتهم المادية المتأخرة في حلف الناتو والدفاع عنهم، وإعطاء فرصة ثانية للسجناء، وإعادة صياغة اتفاقية التجارة مع كندا والمكسيك، لتكون في صالح العمال على كلا جانبي حدود البلدين، ودعم الجامعات السوداء، وإحجامه عن التورط في حروب لا نهاية لها يمكن أن تحظى بشعبية حتى من لدن التقدميين إذا ما تم التعبير عنها بوضوح وثبات كجزء من رؤية عامة مدروسة جيدا. وفي اللحظات القليلة التي قام فيها بذلك، كان عدد قليل من الأمريكيين يشاهدونه. إنني أفكر في خطاباته السنوية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وإذا كنت تريد أن تسمع رئيسا أمريكيا يطرح قضية ضد الإمبريالية الأمريكية أو يطرح قضية التدخل في شؤون الدول الأخرى، فإنني أوصي بمعرفة مضمون هذه الخطابات بشدة، فهي دالة جدا. في العام الماضي، نشر المؤرخ المعروف فيكتور ديفيس هانسون كتابًا بعنوان ("حالة ترامب") ليساعدنا في تقدير أهمية تأثير رجل الأعمال والعقار الشهير والمثير للجدل في نيويورك على السياسة الأمريكية؛ لكن كتابًا بعنوان: ("رهانات: أمريكا عند نقطة اللاعودة") صدر للتو من توقيع مايكل أنطون، المسؤول السابق في إدارة ترامب، لا يترك مجالًا للشك في أن الصراع الرئيسي لحركة ترامب ليس فقط مع الديمقراطيين، ولكن أيضًا مع الحزب الجمهوري نفسه. وإذا لم يتغير هذا الحزب بشكل جذري للقتال من أجل مصالح الشعب، فإنه سيصبح غير ذي صلة بالواقع، وقد يتوقف عن الوجود تمامًا. ما يثير الدهشة في بيان أنطون هو تصنيف النيوليبرالية الليبرالية أو اليسارية المتطرفة على أنها تمثل التهديد الرئيسي الذي يواجه الأمريكيين. لذلك، وبينما يعتقد الناس أنهم يشاهدون منافسة بين الديمقراطيين التقليديين والجمهوريين، انجرفت أيديولوجيات كلا الحزبين نحو اليسار، مما جعلها متشابهة في مجالات مثل الصحة والبيئة. وفي كتابه "المحرض"، لا يجد مات غايتس، الجمهوري وعضو الكونجرس الترامبي، لا يجد أي مشكلة في الدفاع عما يسمى بالصفقة الخضراء الجديدة الاشتراكية للديمقراطيين، قائلاً إن "تدبير [البيئة] والإشراف عليه لا يعني اشتراكية... ويجب علينا فعلا أن نفعل ما يمكننا فعله لرعاية مواردنا الثمينة قبل أن تنتهي إلى الأبد وتنفذ، والتفكير في البدائل أثناء قيامنا بذلك ". ومن بعض النواحي، فإن ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، عضوة الكونغرس الديمقراطية، أقرب إلى غايتس منه إلى جو بايدن. قالت ذات مرة: "في أي بلد آخر، لن نكون أنا وجو بايدن في الحزب نفسه". يتباعد الترامبيون والديمقراطيون المتطرفون ويختلفون حول القضايا الثقافية، وهذا الجانب من اختلافاتهم هو الذي لم يتم تحليله بشكل كافٍ. بالنسبة إلى الترامبيين، أقام الديمقراطيون تحالفًا غير مقدس مع الرأسماليين غير الوطنيين والنخبة الثقافية التي تريد فرض أخلاقها المتزمتة على الجميع، وحظر الكلام أو الخطابات المزعجة، وتعزيز فكرتها الخاصة عن حقوق الإنسان، ورفض الدين، ومناصرة الحدود المفتوحة والدفاع عنها. ومن وجهة نظر ترامب، فإن الديمقراطيين يهتمون أكثر بالعولمة والهجرة، على الرغم من أن كلا السياستين أثبتتا أنهما يقضيان على الطبقة الوسطى ويدمرانها. ومن وجهة نظر أنطون، بيل كلينتون ليس أقل من تاجر حر منحدر من أسلافه الجمهوريين. وقد دعم كلينتون الصين بحماس في كل المنعطفات، بما في ذلك حصولها على العضوية في منظمة التجارة العالمية. ومع ذلك، فإن الاستعانة بمصادر خارجية للوظائف من خلال عمال دول أخرى، "جنبًا إلى جنب مع الهجرة المفتوحة على نطاق واسع، والأجور المنخفضة، والمهارات المنخفضة" تنذر ب"الكارثة" بالنسبة للطبقات الدنيا والمتوسطة في أمريكا، تلك التي وصفتها هيلاري كلينتون ذات مرة بأنها "تعيش في وضع يرثى له". وأخيرًا، عندما ينظر أنطون إلى كاليفورنيا، وهي نوع من النموذج المستقبلي لنظام ديمقراطي، فإنه يرى ولاية نيوليبرالية فاشلة يجب تجنبها وتلافيها بأي ثمن. لم تعد كاليفورنيا كما كانت في زمن والديه وأجداده، "أعظم فردوس تنعم به الطبقة الوسطى في تاريخ البشرية"، بل تحولت كاليفورنيا إلى "دولة يسارية ليبرالية ذات حزب واحد، الولاية الأكثر انعدامًا للمساواة من الناحية الاقتصادية وانقسامًا اجتماعيًا في البلاد". تبلغ تكلفة منازل الطبقة الوسطى 800 دولار للقدم المربع (أي 0.09 متر)، وحيث يكون "متوسط سعر المنزل (على مستوى الولاية) أكثر من 600.000 دولار، ناهيك عن الممر الساحلي المكتظ بالسكان الذي يبلغ عرضه خمسين ميلاً (أقل من 15٪ من الأرض) وثمنه أعلى من ذلك بكثير حيث يتخذ ارتفاع الأسعار طابعا فلكيا. ويمثل وادي السيليكون وسان فرانسيسكو أغلى الأسواق وثالث الأسواق في الولاياتالمتحدة. (تأتي مانهاتن في المرتبة الثانية). ولجعل الأمور أكثر صعوبة، إن لم تكن مستحيلة حتى بالنسبة لمشتري المنازل من الطبقة الوسطى ذوي الأجور الجيدة، فإن ربع جميع المنازل لا يتم تمويله، وأحيانًا يتم شراء المنازل من دون أن يراها الأثرياء الأجانب. يستطيع عدد قليل من عمال المنتمين إلى الطبقة الوسطى العيش والسكن بالقرب من مقر العمل، لذلك يقضون وقتا أطول في الطريق إلى العمل والعودة منه مقارنة بالأمريكيين الآخرين. كما أنهم ينفقون مالا أكثر على الغاز لأنهم يستهلكون كمية أكبر. وذلك لأن ولاية كاليفورنيا تتمتع "بأعلى المداخيل، وأكبر كمية من المبيعات، وأعلى مداخيل الضرائب على الغاز في البلد"، وليس من المستغرب أن تمثل الولاية أيضًا "أعلى معدل للهجرة من خارج البلاد مقارنة بأي دولة أخرى". وعلاوة على ذلك، فإن هذه الولاية هي "موطن" "ربع سكان الأمة" من "المشردين" بالبلد كله"، وتنفق "أكثر من مائة مليار دولار سنويًا -وهي أعلى نسبة في الدولة حتى الآن- على الرفاه وأشكال أخرى من... مساعدة عمومية واجتماعية". وتحتضن كاليفورنيا "أعلى معدل فقر في البلد" و"حسب بعض المؤشرات، فهي تحتضن أعمق فجوة بين مداخيل المواطنين" أيضا (وكانت دائما تحتل أحد المراكز الخمسة الأولى، على أي حال). وبينما تحتفل الولاية التقدمية سياسيًا بالتنوع، يركب أسيادها UberBLACKS/"الآبر بلاك" [نظام خاص بزبناء خاصين، يقوم على سيارات فارهة، سوداء اللون، مغلفة مقاعدها بجلد أسود، يقودها سائق محترف وخدوم] داخل "مجتمعاتهم المغلقة"، وذلك على الرغم من أنهم يؤمنون بعالم مفتوح على حرية الحركة والتصرف والتنقل. وبينما تصنع "آبل" في الصين، وهي إلى وقت قريب، لم تدفع أية ضرائب تقريبا في إيرلندا وجزيرة جيرسي، فإنها تقدم صورة شركة رعاية وتتمتع بمعاملة تفضيلية. وفي غضون ذلك، تدفع الطبقة الوسطى المحاصرة الضرائب لتغطية الإعانات للفقراء والمهاجرين غير الشرعيين. ولذلك، فليس من المستغرب أن يفر الكثير من الناس من كاليفورنيا إلى الولايات المجاورة، مما يحدث خللا بين توازنهم السياسي وآرائهم الديمقراطية والليبرالية؛ لكن السؤال الذي يطرحه أنطون، وهو سؤال ملح، هو: إذا كانت الدولة بأكملها ستتحول إلى كاليفورنيا، فإلى أين ستهرب الطبقة الوسطى؟ إلى المكسيك؟ إلى الصين؟ وهذا هو السؤال الذي يجب على الديمقراطيين والترامبيين الجدد، أيا كان المظهر الذي يعيدون تكوين أنفسهم على شاكلته (أو القناع الذي يرتدونه)، معالجته والانكباب عليه بشكل عاجل. إن إنجازات العدالة الاجتماعية في وسائل الإعلام لن تعالج الأزمة الاجتماعية في أمريكا اليوم أو تقضي على الفصل العنصري الاقتصادي العالمي الذي يهدد العالم. لقد أدت جائحة فيروس كورونا إلى لفت الأنظار إلى حدة التصدعات العميقة التي تهدد حضارتنا؛ ذلك أنه بينما تم دفع ما بين 88 و114 مليون شخص إلى السقوط بين براثن الفقر المدقع أثناء الوباء، مما رفع عدد الذين يعانون من الفقر المدقع في العالم إلى أكثر من 700 مليون، زاد عدد المليارديرات. فلدينا الآن تقريبا 2189 مليارديرا يمتلكون ثروة تتجاوز 10 تريليون دولار من الثروة. إذا استطاعت الأحزاب السياسية الجديدة في أمريكا أن تساعد العالم في معالجة هذا الخلل الفظيع للتوازن، فقد يكون أمام أمريكا قرن ذهبي.