منذ أن أصبح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، رئيس الولاياتالمتحدة أصبح حديث العام والخاص. وتناولت سيرته كتبا عدة. ويبدو أنه أضفى نكهة خاصة على السياسة، والدبلوماسية، ومخاطبة القادة. يقلب الطاولة على شخصيات مقربة منه، يطرد المستشارين بجرة توقيع، وعلى تقاليد ترسخت. هو المواطن الآتي من خارج النخب التي تكالبت على البلد، تتقاسم الخيرات، وتتصارع داخل المجالس أمام الكاميرات، وتأكل الخيرات في غياب الكاميرات. كما يحدث في بلدنا. ولأنه جاء من خارج النخب المدجَّنة، والمدجِّنة فقد كان حرا في كل تصرفاته. ولوى عنق الدولة العميقة، كما يرى ذلك أنور مجيد، الذي يقرأ تجربة ترامب قراءة مختلفة.. يشعر العديد من أصدقائي في المغرب بالحيرة لما يحدث في أمريكا ويتساءلون كيف انحدرت أقوى دولة في العالم إلى ثقافة سياسية مهينة تتمثل في الإهانة والتشهير. بدت المناظرة الرئاسية الأولى بين الرئيس ترامب والمرشح الرئاسي بايدن وكأنها مباراة صراخ رخيصة، لن تتأهل أبدا للعرض ضمن أشكال الفرجة المتنوعة التي تشهدها ساحة جامع الفنا بمراكش. ولن يدفع أحد درهما واحدا لمشاهدة هذا الأداء الرهيب. ومن الأفضل لنا الاسترخاء رفقة كوب من الشاي بالنعناع ومشاهدة سحرة الثعابين وهم يؤدون خدعتهم. لكن لا تخدعوا أنفسكم بأن تتوقعوا أن عرض ترامب سيغادر المدينة ويعيد سادة حلبة النظام القديم إلى السلطة. وفي الحدود التي تقدم فيها المثل الولاياتالمتحدة وتحدد نظام اللعبة لمعظم دول العالم، فإن خروج ترامب سيشكل زخما جديدا، ويفتح بابا للانتباه إلى الطبقات الوسطى والعاملة المنسية، مع أجندة تقدمية لإعادة صياغة السياسة والعقد الاجتماعي لسنوات عديدة قادمة. ومن المفارقات، وعلى الرغم من أن الديمقراطيين سينسبون إلى أنفسهم الفضل في بناء مجتمع أكثر اندماجا وأكثر إنصافا إلى حد ما، فإن الحافز الحقيقي لهذا التغيير سيكون هو دونالد ترامب وسياسته "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". ولعقود من الزمان، كان إجماع الثنائي الحزبي بواشنطن يعني أن الجمهوريين والديمقراطيين يتناوبون على السلطة، وغالبا ما يضطرون إلى الاتفاق على تسوية داخل حكومة منقسمة. وقدم كل من الحزبين التحية، قولا لا فعلا، إلى الطبقة العاملة والمتوسطة، ووعدا بمزيد من الوظائف بل وبنظام رعاية صحية أفضل، ولكن بمجرد انتخاب الطرفين، ظلت حياة الناس على حالها وما عرفت تغييرا، بينما ازداد الأغنياء غنى وثراء، واستمرت الطبقات الوسطى في النضال تعاني من مضاعفة قيمة فواتير التعليم، والرعاية الصحية، والسكن، والنفقات الأخرى. واستدان المنتمون إلى الطبقتين من دون أن يفلحوا في الخروج من الورطة بسلام. وفي الآن ذاته، تمت الاستعانة بالخارج عبر نقل ورشات التصنيع إلى دول عدة منها الصين والمكسيك وغيرهما. ثم جاء دونالد ترامب. وترشح ضد الجمهوريين والديمقراطيين معا، وعارضته جميع النخب في البلاد، من "وول ستريت" إلى "وادي السيليكون"، ومن مؤسسات واشنطن وأصحاب النفوذ بها إلى الغالبية العظمى من وسائل الإعلام. لم يقرأ أي أوراق أو ملفات سياسية، ولم يكن يعرف أي شيء عن الفلسفة السياسية، ولكن كان لديه، بالمقابل، شعور فطري بالتضامن مع الطبقات العاملة، ولم يكن يهتم إلا بالمصالح العليا للشعب الأمريكي، ولا يعنى بإجماع الطبقة السياسية أو النخب الثقافية وتسوياتها. لم يفهم ترامب سبب إنفاق الولاياتالمتحدة لستة تريليونات دولار في الشرق الأوسط من دون أي تحقيق أي مصلحة وطنية كما يمكن أن يلاحظ ذلك. وعلى الرغم من أنه يرد على أولئك الذين يهاجمون المصالح الأمريكية، إلا أنه ضد الحروب الاختيارية وغير الضرورية. وقد سمح إصلاحه الضريبي لشركة "آبل" بسداد ضرائب تبلغ عشرات المليارات من الدولارات، كما تمت إعادة أكثر من 300 مليار دولار إلى البلد من الخارج، وساهم كل ذلك في تنشيط المزيد من الاستثمارات في الداخل. وقد أيقظ ونبه تحديه للصين الأمريكيين، وبقية العالم، إلى تهديد تلك الدولة لنظام العالم الليبرالي. وبحلول شهر دجتبر 2017، حقق الأمريكيون السود واللاتينيون أدنى مستويات البطالة المسجلة حتى الآن على الإطلاق. وقد أعطت إصلاحاته لنظام السجون فرصة ثانية للسود واللاتينيين أيضا. وقد مكنت تعريفاته الجمركية للصلب المستورد والألمنيوم الخاص بالصناعة العسكرية من حماية وإعادة بناء هذه الصناعات داخل البلد. ثم إن القوة العسكرية التي لا تنتج الفولاذ الخاص بها بنفسها، مثل الدولة التي تعتمد على الصين للحصول على الأدوية والأسبرين، هي قوة ضعيفة للغاية. ومع ذلك، لم ينبه أي رئيس الجمهور إلى هذا التهديد قبل ترامب. ثم إنه قدم العولمة على أنها خير غير مشكوك فيه. في السباق المحموم لإسقاط ترامب، يوجه بايدن خطابه إلى الرأي العام الأمريكي محاولا استقطابه من خلال الوعد ببرنامج أكثر تقدمية. سيكون الوصول إلى الرعاية الصحية أفضل من السابق، وسيكون التعليم الجامعي مجانيا في الغالب الأعم بالنسبة للطبقات المتوسطة. وستحظى النقابات بكل التشجيع، وسيكون الاستثمار في تقنيات الوقود غير الأحفوري، مثل السيارات، من الأولويات. وسيضمن المزيد من الاستثمارات في البنية التحتية فتح الباب أمام المزيد من فرص العمل. هذه هي الخطة التي حددها بايدن في ميشيغان عندما دخل الرئيس ترامب المستشفى مريضا بفيروس كورونا 19. ولما كانت السياسة في أمريكا قد أصبحت شكلا آخر من أشكال الترفيه، فإن الناس يهتمون بأسلوب ترامب الشخصي، ولا يهتمون كثيرا بسياساته، باستثناء، ربما، عندما يتعلق الأمر بموضوعي تغير المناخ والهجرة. وتجدر الإشارة إلى أن الديمقراطيين هم من رفضوا التصويت على اتفاقية كيوتو لعام 1997، وحتى لما انسحبوا من اتفاقية باريس للمناخ من خلال ترامب، فقد ظل أداء الولاياتالمتحدة أفضل من أداء معظم دول أوروبا في خفض انبعاثات الكربون. ربما تكون خطيئته الأكبر هي الاستيلاء على "المستنقع" أو ما يسمى "الدولة العميقة"، وهو ما يعني المصالح الراسخة للبيروقراطيين غير المنتخبين وموظفي الحكومات الذين يمكنهم صنع الرئيس أو إنهاء عهدته. وإذا كنت تعتقد أن بيروقراطيتنا المغربية كثيرة العدد، فكر في أن الولاياتالمتحدة وظفت حوالي 22 مليون شخص، بمن فيهم أفراد الجيش في عام 2017. وأنا أكتب هذه الكلمات، فالرئيس ترامب ينازل جائحة كوفيد 19 في مستشفى. وعندما يغادره، سيتعين عليه النضال من أجل مستقبل أجندتِه من أجل أمريكا. لكن حتى لو لم يفلح في الفوز بالانتخابات المقررة في الشهر المقبل ولم يحصل على فترة ولائية ثانية، فإن تأثيره العميق حرك السواكن والبرك الآسنة، منذ اللحظة التي أعلن فيها عن ترشيحه للرئاسة، سيكون طويل الأمد. ولن تكون السياسة الأمريكية (قبل ترامب) هي نفسها بعد رئاسة ترامب، وهذا أمر جيد وايجابي. في بعض الأحيان، يتم إدخال التغيير التدريجي من قبل شخصيات قديسة تتجاوز كل لوم، وفي بعض الأحيان، يتم الحث على التغيير وبعثه، عن غير قصد تقريبا، من خلال نماذج تبدو معادية للسياسة ومندفعة مثل ترامب. ومع ذلك، أثناء محاولته جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، كان ترامب يطلب منا أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة لبلداننا. هل يمكنك أن تتخيل لو حاولنا جميعا القيام بذلك ونجحنا في مسعانا؟ سوف تتضاءل الحاجة إلى الهجرة بينما يزدهر قطاع السياحة. ستكون التجارة منصفة وعادلة، وسترتفع أجور العمال وتصبح أعدل من السابق. وبينما نحاول جميعا إعادة بناء دولنا، سيصبح العالم مكانا أفضل وأرحب للجميع. في السراء والضراء، يمكن لدونالد ترامب، بسياساته الجامحة ولكن الواقعية، أن يلهم بناء نظام عالمي أكثر تقدمية - أي إذا لم نسقط من جديد في الطرق القديمة التي أدت بنا إلى حروب لا نهاية لها، وأشكال من التمييز وعدم المساواة الخطيرة والتي هندستها نخب تتقن فن الحديث وتتصرف بشكل لا تشوبه شائبة. وهكذا يكون دونالد ترامب، في السراء والضراء، قد ساعد في ولادة هذا النظام العالمي الجديد.